حوارات ولقاءات

صلاح ادريس: قضية جدة انتهت إلى براءة نهائية. وعودتي للسودان لا علاقة لها بقضية جدة، ولكنها مرتبطة بمسألة (محلبية) جديدة.!!

قبل سنوات، وخلال مسيرتي الصحفية، كنت أحرص كلما مرت الذكرى السنوية لحادثة قصف “مصنع الشفاء”، على إعادة مادة صحفية عن المادة أيّاً كان شكلها، لاعتقاد عندي أن الحادثة تمثل نقطة تحول كبيرة في السودان على الصعد السياسية والدبلوماسية على وجه التحديد، فضلاً عن أبعادها الأمنية. وحينما ابتعدت عن الصحافة الورقية لفترة، كنت أهتم بالكتابة حولها على مواقع الإنترنت وحوائط الإسفير. في هذه الذكرى السادسة عشرة هذه، والتي تصادف اليوم (الأربعاء)، كان هدفي محاورة مالك المصنع الأستاذ/ صلاح أحمد إدريس القطب الرياضي والسياسي، ويمكن أن نمضي أكثر لنقول الفني والاجتماعي. تمنيت أن يكون الحوار مباشراً، حتى أتمكن من التداخل والاستدراك والعطف؛ لكن الرجل المقيم هذه الأيام في جدة آثر أن أرسل له الأسئلة وهو يجيب عنها، ففعلت وأعددت أسئلةً في غالبيتها أسئلة مزدوجة تتوقع إجابة بعينها. على كلٍّ أجاب صلاح إدريس (الأرباب)، بذات القوة التي تحملها مواقفه، وبعدها أكملت معه بعض الأسئلة عبر الهاتف:

* تمر اليوم الذكرى السادسة عشرة لحادثة ضرب مصنع الشفاء للأدوية بواسطة الصواريخ الأمريكية، كمدخل ماذا تعني بالنسبة لك هذه المناسبة؟
ذكرى ضربة مصنع الشفاء تعني لي أشياء كثيرة.. ستة عشر عاماً قد مرت على ذلك العدوان الغاشم وما زال المعتدي الآثم يمارس الصمت على طغيانه ويزيد فيه.. أيام قليلة قد مرَّت على ضرب الطائرات الأمريكية للسفارة الصينية في بلغراد، اعتذرت بعدها الولايات المتحدة الأمريكية رسمياً عن فعلتها النكراء تلك، وعزتها إلى خطأ غير مقصود ولا بد أقطع بأنها قد قامت بتعويض الصين وأسر الضحايا.. وأعوام تمر ويرفض القضاء الأمريكي في أعلى وأسمى درجاته أن يدين الحادثة ويحكم لي بتعويض مادي يغطي بعضاً مما خسرته.
والذكرى توقظ في نفسي كذلك إحساساً أليماً، إزاء عجزي عن الوفاء بما كنت قد وعدت به، بأن يقوم المصنع بأحسن وأفضل وأميز مما كان عليه، وأنا هنا أجدِّد هذا الوعد وألتزم بألا تأتي الذكرى التالية، وإلا نكون بحول الله وقوته قد قطعنا شوطاً معبراً في الوفاء بهذا الوعد.
والذكرى تعني كما قلت أشياء كثيرة، لكن ما ذكرته ربما كان هو المهم، ولا أهم منه إلا أن المصنع، الحلم، قد ضرب نتيجة معلومات استخباراتية كاذبة وظالمة وحاقدة، والأسف كله لأن ذلك قد جاء من أحد المحسوبين على المصنع، ثم من تلقف تلك الوشاية البغيضة التي نال صاحبها مبتغاه الدنيوي الرخيص، ولا بد أنه ظل وما زال تحت وطأة عذاب الضمير.. هذا إن كان له ضمير… وماعند الله أبقى.
* هل جنيت من تلك الحادثة أيَّ مكاسب قد تقارب حجم الخسارة المادية؟
مكاسبي قد كانت قطعاً أضعاف الخسارة المادية.. فاجتيازي الامتحان قد كان كرماً عظيماً من رب كريم عظيم، تفضل عليَّ بالصبر والثبات والحكمة في معالجة الأمر وتبعاته.. ثم إنني قد كسبت تعاطفاً شعبياً ورسمياً كبيراً.
* السؤال السابق لأن البعض يرى أنه لولا الحادثة لما برز صلاح إلى الوجود الإعلامي والسياسي والفني والرياضي، بل اعذرني هم يقولون إنك كنت نكرة؟
أنا فعلاً كنت نكرة، ولكن ذلك وبالمفهوم الذي نعرفه قد كان قبل الضربة بكثير، ففي المجال الرياضي أنا معروف للقيادات الهلالية منذ ما قبل عام 1972، حينما كلفت بإحضار اللاعب حجو علي حسين ابن مدينتي العظيمة شندي من حاضرة الجزيرة العظيمة مدني.. وفي المجال الإعلامي أنا كاتب زاوية أسبوعية منذ العام 1996 قبل الضربة بأكثر من عامين حيث كانت بدايتي في صحيفة “الخرطوم” أول 96 والضربة في منتصف أغسطس 98، وفي المجال السياسي منذ فيضان 88 إن لم يكن قبل ذلك بقليل، أما في المجال الفني فلم أكن معروفاً إلا في مدينة الدويم الحبيبة، إذ كان لي فيها بعض نشاط مع إخوة كرام أعزاء وهم محمد عبد الله السيد وعبد القادر يوسف وخالد وآخرون.
وفي المجال الاجتماعي فإنني أذكر فقط أن النكتة الشهيرة (كترتي المحلبية) قد تكاثف تداولها منتصف التسعينيات.. وأعود إلى أنني ما زلت أرى نفسي نكرة، والفارق بيني وبين الناس وبين الآخرين أو أكثر على أقل تقدير، أنني أتطلع للأمام وأداوم على مقارنة نفسي بمن هم أسمى وأعلى وأعرق مني من باب الغبطة والاقتداء، لا من باب الغيرة ولا الحسد، فالنظر إلى أعلى يبين لي حجمي الطبيعي بعيداً عن تضخيم الزيف وتقديرات الأحباب التي لا أعتبرها خارج سياق (حسن في كل عين من تود).
ولي في قصة أمير المؤمنين سيدنا عمر عبرة، حينما ذكّر نفسه وأذلها بتبيان حجمها الطبيعي لما كلمته الأمّارة بالسوء بأنه قد فعل وفعل وبلغ ما بلغ.
* البعض يحتاج بالطبع إلى معلومات إضافية أهمها، كيف ولماذا اشتريت المصنع؟ وبكم من المال؟
اشتريت المصنع باعتباره فرصة استثمارية عظيمة، فوراء إنشائه رجل عبقري هو الأخ المهندس بشير حسن بشير، الذي عرفته مفكراً استراتيجياً عظيماً، ثم إن المصنع قد مثل خطوة مهمة في توطين الدواء بل وزاد على ذلك بجعل طموح التصدير واقعاً معاشاً، إضافة إلى أن المصنع كان ذا ذراع بيطري ممتد، وهذا فكر عالٍ خاصة والسودان به ثروة حيوانية عظيمة إذا ماتوافر لها الدواء وبصورة ميسرة وتكلفة أقل مما كان سائداً، فإن ذلك كان خطوة مهمة لفتح أبواب الاستثمار العلمي والفاعل في هذا المجال، والأسواق قريبها وبعيدها متاحة ومرحبة وفي حاجة كبيرة لهذه المنتجات السودانية.
ولقد كان المصنع معروضاً للبيع وأبلغني أخ ذو علاقة مشتركة ومنصب في المصنع برغبة المالكين فالتقطها، ولم يكن التفاوض صعباً أو طويلاً لما يربط بيننا من علائق إخاء وثيقة.
* وهل وقتها كنت تدرك طبيعة إنتاج المصنع؟
بالطبع كنت أدرك ما ينتجه المصنع، وكل تفاصيل ما جرى وما كان يجري فيه وإلا لما اشتريته.. أقول هذا متجاوزاً ما في هذه الجزئية من سؤالك من كواليس تخفي بعض التشكيك والظنون.
* لا أريد أن أعيد سؤال: كيف تلقيت خبر الحادثة لأنك من قبل أجبت وكتبت بنفسك عن ذلك، لكن هل ثمة جديد يمكن أن يقال الآن؟
لا جديد في هذا المجال، فقد كنت أخرج مصطحباً والدي، يرحمه الله، من إحدى عيادات (ويمبول) الشهير بلندن. وكان الوالد، يرحمه الله، في زيارة يراجع فيها الطبيب المعالج بعد عملية جراحية في العيون، فتلقيت اتصالاً من ابني أحمد يبلغني (بالمصيبة) كما ذكر فهدأته؛ وطلبت منه أن يعمل مع عميه شقيقي عبد الكريم وابن عمي د.إدريس يرحمه الله، وأخي جمال الوالي على الوقوف بجانب الجرحى، وعمل كل ما يلزم لهم ثم أخبرت والدي، يرحمه الله، على غير ما أشار به أخي سليمان محجوب، يرحمه الله، وعدنا إلى مقر السكن ثم اتصلت بالأخ الدكتور منصور خالد وقد كان في لندن وأخبرته وطلبت منه متابعة القنوات، وتواصلت مع صديقي المحامي الأمريكي الشهير ستيف بروقان وشرحت له وأكدت له استعدادي للسفر مباشرة إلى واشنطن، واتصلت بالأخ محمد حسين العمودي الذي وجه بيت المحاماة الذي يتعامل معه بوضع خدماتهم تحت إمرتي، وجاء الرد الأمريكي من وزارة العدل بعدم رغبتهم في مجيئي إلى واشنطن.
* منذ اللحظة الأولى وردود أفعالك الأولية كنت واثقاً من شيئين: تبيان الحقيقة والتعويض. بعد ستة عشر عاماً هل تعتقد أن الأمريكان وصلوا إلى الحقيقة، وإلى أين وصلت معركتك القانونية معهم؟ وبكم كنت تطالب كتعويض؟
الأمريكيون وصلوا إلى الحقيقة منذ الساعة الأولى بعد الضربة، فقد كان نتاج الضربة ألا سلاح كيماوي أو بيولوجي في المصنع، وإلا لكانت الخرطوم بحري على الأقل في خبر كان. ومعركتي القانونية تم احتواؤها وتدميرها ولكن بالقانون الأمريكي.. قانون القوة كما وصف ذلك الأخ الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، علماً بأن مطالبتي كانت مائة مليون دولار.
* هل طوال السنوات الماضية، حدث تواصل بينك وبين أطراف أمريكية حول الموضوع؟
لا لم يحدث فقد كانت المعركة قانونية فقط، وما سمعته عن تحركات دبلوماسية أو استخباراتية لم يصل ليكون حقيقة.
* كنتُ ولا زلتُ أقدر أن صلاح إدريس أدار معركة (هشة) مع الأمريكان حتى لا يدخل في مواجهة مباشرة قد تؤثر على بقية استثماراته حول العالم: هل كنتُ محقاً في ذلك؟
معركتي لم تكن هشة بل كانت صعبة، وكانت فيها انتصارات عظيمة، أهمها أن حساباتي في البنوك الأمريكية جمدت، وكان لي حساب في بنك اف أمريكا بلندن ورصيده كان في 26/2/99 أربعة وعشرون مليون دولار، وأدرت معركة سميتها (ناعمة) ضد وزارة الخزانة، إذ كان التجميد بسبب (الشكوك) في إرهابيَّتي، فطلبت منهم إما أن تحرر حساباتي، أو أن أسمى (إرهابيّاً) لأواجه ذلك بقوة، وفي 3/5/99 كان على الخزانة إما أن تسميني إرهابيّاً أو أن تحرر حساباتي، فاتصلوا بالمحامي بروقان وذكروا له ألا حاجة لهم في مزيد من الملاحقة، وأنهم قد قرروا فك التجميد، وللعلم فالقانون الأمريكي يعطيهم الحق في التجميد (بالشكوك) لستين يوماً فقط، لا يحق لهم بعدها استمرار إجرائهم تحت الظن والشكوك.
* من الشخصيات التي ارتبط اسمها بالحادثة السيد مبارك الفاضل؛ الذي أعلن بلا تردد تأييده لما حدث، هل لديك أية عداوات سابقة معه؟
لا عداوة لي مع مبارك الفاضل، ومبارك الفاضل لا حاجة له في عداوة مع أحد لتبرير مواقفه… فهو عدو نفسه.
* بما تفسر موقفه؟ هل هو موقف سياسي فقط؟
مبارك الفاضل عرف بالمواقف العدوانية التي يختلقها لينطلق منها.. هو عدو نفسه وإلا لما سافر من القاهرة إلى أسمرا دون سابق موعد أو تخطيط، ولا لشيء إلا ليظهر من قناة الجزيرة في ذلك اللقاء الفاضح الذي قال فيه بأن هناك مواقع أخرى!!!، هذا مساعد رئيس الجمهورية.. بعد ذلك.
* مبارك الفاضل نفسه وفي حلقه تلفزيونية أشار بصورة جلية إلى أن مديراً سابقاً لمصنع الشفاء هو من وشى للأمريكان بإنتاجية المصنع للأسلحة الكيماوية، ما تعليقك هنا؟
أخبرني مبارك الفاضل باسم ذلك الموظف.. الذي لم يكن مديراً.. ونقل المعلومة لمبارك الفاضل وطلب مساعدته في اللجوء السياسي إلى أمريكا.. وقد نال ذلك؛ وأنا أترك بقية ما حدث لتقدير القارئ وكل من يطلع على هذه المعلومات.
* يبدو أنني لا أريد أن أبرح سيرة مبارك الفاضل؟ طوال الستة عشر عاما؛ ألم تجرِ أيَّ محاولة صلح بينكما؟ ألم يتصل بك حتى لتبرير موقفه؟
التقينا أكثر من مرة.. لقاءاتنا كلها عابرة، ولم يقل لي أكثر مما ذكرته.. في الحقيقة مبارك الفاضل كان سبباً في أن أتعرف عن قرب على رجل عظيم من عظماء السودان، وهو السيد الإمام الصادق المهدي، والذي تعرفت عليه عبر الحسيب النسيب السيد محمد عثمان الميرغني، هذا رغم أن أخي وصديقي الدكتور الباقر قد ظن كل هذه السنوات أنه من عرفني بالسيد الإمام الصادق المهدي.. أنا استجبت لمبادرة أخي الدكتور الباقر ولم أعلمه بأنني قد التقيت بالسيد الإمام قبل ذلك عبر السيد الميرغني… لم أشأ أن أكسر خاطر أخي الباقر.. ولكن الحقيقة هي ما ذكرت مع الشكر لثلاثتهم.
* هل تعتقد أن الحكومة قامت بما يكفي على المستوى السياسي لإدانة واشنطون والحصول منها على تعويض؟
أعتقد أن الحكومة ممثلة في أخي الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، قد قامت بعمل عظيم رغم كل المصاعب والمتاعب والمشاق التي كابدها أخي الدكتور مصطفى والحكومة، بل ظللت أثمِّن عاليا احترام الحكومة لموقفي الداعي لفصل القضية السياسية للضربة الأمريكية عن الموقف الشخصي والقانوني لمالك المصنع، وفي هذا دعني أترحم على روح الدكتور مجذوب الخليفة الذي كان له الفضل في ذلك؛ وأزيدك من من الشعر بيتاً، وهو أن الحكومة استجابت لطلبي بإيقاف التبرعات لإعادة بناء المصنع حينما التزمت أنا شخصياً بإعادته بنائه.
* بعيداً عن موقف المالك، سياسياً، ما هي قراءتك للضربة الأمريكية يومئذ؟
قراءتي للضربة أبلغت بها الرئيس البشير شخصياً، وكان معه صديقي عبد الرحيم محمد حسين. قلت لهما إن المقصود بذلك ليس المصنع بل أنتم، والرسالة الوضحة من الأمريكان يومها مفادها أننا يمكننا أن نضربكم، ومن المؤكد عندي كذلك أن الحادثة بالفعل كانت نقطة تحول سياسي كبير، فبعدها حصلت تحولات كبيرة أبرزها التلاقي الذي حدث بين الحكومة والمعارضة. فالتقى البشير الميرغني في أسمرا، وتم ذلك بترتيب مني، وقبله التقى البشير بالصادق المهدي في جيبوتي، لكن للقاء هذا حكاية أخرى، إذ قصد مبارك الفاضل استباق ترتيبات أخرى كنت أعكف عليها لجمع البشير والميرغني والمهدي في مائدة سياسية واحدة وللقصة بقية.
* بعيداً عن المصنع والقصة، هل تشعر بأنك مستهدف أم محسود، فأحاديث المدينة تتحدث هذه الأيام عن عثرات مالية تواجهكم، فضلاً عن قضية جدة، وخسارة رئاسة نادي الهلال للمرة الثانية؟
أنا والله في نعمة لا تعد ولا تحصى، ولساني مجبول على الحمد والشكر والثناء لله عز وجل على ما أعطى وأنعم به وينعم به علي، والحمد والشكر والثناء على الله في كل حال، أما المحسود حقاً فالهلال بلا شك.
* على ذكر قضية جدة، إلى أين انتهت؟ ولماذا تأخرت عودتكم إلى السودان رغم البراءة؟
قضية جدة انتهت إلى براءة نهائية. وعودتي للسودان لا علاقة لها بقضية جدة، ولكنها مرتبطة بمسألة (محلبية) جديدة.!!

حوار: عبد الحميد عوض- السوداني