منوعات

طلة وردة من السور: لا تكتفوا بمشهد الأطفال وهم مندغمون للآخر في حركات الحرس الجمهوري.. بل حدقو مليا نحو انتظامهم وطاقة المتابعة المبذولة من قبلهم لإشباع روحهم

[JUSTIFY][SIZE=5]طفلة لم تتجاوز عامها الرابع تضع هاتف والدها على كتفه وتحدق فيه قائلة: “انت كده قائد يا بابا”!!. أين عثرت هذه الصبية اليافعة على مفردة “قائد؟.. هي بعد لم تقرأ كتب التاريخ، ولا روايات الفنتازيا، ولم تدرس كيف تكونت الممالك الأفريقية؟ لكنه سؤال منطقي: كيف بدأ الزعماء بأحلامهم الصغيرة؟ هل كانوا يتوقعون أن تحملهم طموحاتهم إلى قصور الحكم، لمعافرة شؤون الإمبراطوريات من مبانيها المتداخلة.؟

طفل آخر ظل بين الفينة والأخرى يلح على والده أن يحمله إلى أعلى ليرى مشهد المارشات العسكرية التي تمر أمامه، وليطل لأول مرة عبر سور القصر الرئاسي، ويلقي التحية على ساكنيه.

(1)

بحسب الكثيرين، ليس هناك تفسيرا علمياً لسلوك الأطفال الذي يقودهم لحب حياة الجندية القاسية، وتفاعلهم الكبير معها، فالصباح الذي شهد تغيير الحرس الجمهوري بالبروتوكول الخاص به أمام بوابة القصر الجمهوري ربما أشار بوضوح إلى الإعجاب الكبير بشعارات الجندية وسكونهم غير المعتاد لمتعة أنظارهم بتلك المشاهد، وإلى الحب الذي يدلقونه على رزم إبداع القوات المنتظم!. وربما إلى صوت طبل النحاس وصخبها ومارشات العساكر وصيحات تعليماتهم، لكن بالتأكيد دنا أطفال ببصرهم نحو ردهات القصر بالنسبة للرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، فيروي أول مشهد للعمل السياسي وتكون الموقف في حياته بالقول: “كنت أعبر ميدان المنشية في الإسكندرية حين وجدت اشتباكاً بين مظاهرة لبعض التلاميذ وبين قوات من البوليس، ولم أتردد في تقرير موقفي؛ فلقد انضممت على الفور إلى المتظاهرين، دون أن أعرف أي شيء عن السبب الذي كانوا يتظاهرون من أجله، ولقد شعرت أنني في غير حاجة إلى سؤال؛ لقد رأيت أفراداً من الجماهير في صدام مع السلطة، واتخذت موقفي دون تردد في الجانب المعادي للسلطة”.

(2)

حسنا.. لا تكتفي بمشهد الأطفال وهم مندغمون للآخر في حركات الحرس الجمهوري، بل حدق مليا نحو انتظامهم السنوي وحضورهم المبكر لممارسة هذه الهواية وإشباع روحهم من مناظر تحمل في طيها الكثير من الاستفهامات بالنسبة لهم، لكنها في الآخر تعد مصدر سعادة بالغة يبذلون فيها كل طاقة المتابعة ولا تقطعها عليهم ولو لحظة ملل واحدة، ولا يبدو المنظر بالنسبة للأطفال خارج بوابات القصر وحده، هم أيضا دلفوا للداخل لرؤية معرض القصر، البرنامج المصاحب لتغيير الحرس المراسمي والتشريفي المضروب مرتين في العام.

(3)

يرى البعض أن شحن الأطفال بكارزما قيادية مبكرا هو السبب وراء حضورهم لهذه الفعاليات، بينما يمضي آخرون للتأكيد بأن الأمر يرتبط بشريط وراثي عند الأسر التي تخرج معظم أفرادها من المدرسة العسكرية، فالحشود التي اصطحبت معها أطفالها معظم مكونها من الضباط الحاليين أو ممن عملوا في الخدمة العسكرية، لكن أيضا فإن العادة في حضور مراسمية تغيير الحرس الجمهوري وبحكم عملها المرتبط بطوابير الشرف للملوك والرؤساء يشعل في الأطفال منذ السنين المبكرة حب الجندية والولاء للوطن ولا يخرج من أحلام “أريد أن أصبح رئيسا”.

(4)

بانتهاء الحفل المراسمي بتغيير الحرس الجمهوري، يصطدم حلم الصبية والأطفال الصغار بالواقع الذي تفسره العملية السياسية بالبلاد، بقراءة سريعة يمكنهم الاطلاع على تاريخ العهود الرئاسية في الفترات الديمقراطية لم تتجاوز الثلاثة والأربعة أعوام، بينما استطالت النظم الشمولية لآجال طويلة يطفئ آخرها شمعته الخامسة والعشرين بعد شهور معدودات، الصغار بهذا التاريخ يقطع عليهم الكبار أحلامهم المشروعة في تبني قرار الرئاسة وفكرة القائد ولو بهاتف يرصع أكتاف والديهم.

(5)

ركام الذكريات في بوابة القصر الرئاسي لا يشجع الصغار في توالد أحلامهم، بقدر ما يشحذ هممهم لتغيير مفاهيم ومسلمات حكم في مستقبل قريب، الفتاة التي رأت في والدها قائدا مرصعا بالنجوم في مخيلتها المشحونة في تلك الساعة بموسيقى وحركات “الجيش”، مارست طموح والدها واستسلمت لقدرية الأشياء من حولها، فالقصر قبالتها لم تدخله امرأة حاكمة ولو في مناصبه الدنيا، ولم يحمل تاريخ السودان الحديث أن تقلدت منذ استقلاله امرأة منصب رئيس الجمهورية أو حتى نائبا للرئيس أو مساعدا ومستشارا له.

(6)

ومن بين بقايا يومية الاحتفال، غادر الصغار وكأن شيئا في دواخلهم يبقى باستمرار وأحلامهم الصغيرة، لكنهم في النهاية كونوا موقفهم السياسي، الوطني، ومثلوا طيف الأطفال الواسع في البلاد وإن لم يحضروا، ليسجلوا في أولى عتبات طفولتهم هذه المشاهد ويرسموا منها بعضا من لوحات تتسق ألوانها في المستقبل.
[/SIZE][/JUSTIFY]

اليوم التالي

تعليق واحد