رأي ومقالات

كمال الجزولي: السُّودانُ وحقوقُ الإنسان: تقانةٌ أم رقابة؟


(1)الدُّولة الحريصة على نقاء صورتها في محيط العلاقات الدَّوليَّة لا تتورَّط في التفريق السَّاذج بين البندين الرَّابع والعاشر من لائحة المجلس الدَّولي لحقوق الإنسان، بل ترى، عن حق، أن في مجرَّد اقترابها من أيٍّ منهما شبهة شائنة بسمعتها. فالبند الرَّابع يفوِّض “مقرِّراً خاصَّاً”، لـ “مراقبة” و”رصد” سلوك الدَّولة “السَّيِّئة جدَّاً”، بينما يقضي البند العاشر بتقديم الدَّعم “التقني” للدَّولة “السَّيِّئة”، عن طريق “خبير مستقل”، يساعدها في رفع “قدرتها” على تحسين حالة حقوق الإنسان فيها!
الفرق بين “السَّيِّئ” و”السَّيِّئ جدَّاً” فرق درجة، كالذي بين “خشونة” زنزانة الإعدام و”نعومة” زنزانة السِّجن المؤبَّد! فالمجرم الذي ينجو من تلك، ويوضع في هذي، يَعتبر أنه قد كُتب له عمر جديد، فتكاد الأرض لا تسعه، لا من ضيق الزنزانة، وإنما من شدَّة الفرح؛ أما “السُّمعة الحسنة” فترفٌ لا طاقة له به!
حكومة السُّودان ظلت ترتع، لنحو من عامين ونصف، في “نعيم” البند العاشر، تحت ولاية “الخبير المستقل” التنزاني محمَّد عثمان تشاندي، الذي عيَّنه المجلس خلال دورة الانعقاد الحادية عشر في أكتوبر 2009م، خلفاً لسالفته “المقرِّرة الخاصَّة” الأفغانية سيما سمر التي أُنهيت ولايتها في يونيو من نفس العام.
غير أن تشاندي ما لبث أن استقال في مارس 2012م، ليعقـبه “الخـبير المسـتقل”، أيضاً، النيجيري مسعود بدرين الذي استقال، هو الآخر، في سبتمبر الجَّاري ـ 2014م.
يعني، منذ انتهاء ولاية سمر، وحتى الآن، بقيت الحكومة بمنأى عن “خشونة” البند الرَّابع الذي لطالما شقيت به على مدى ستة عشر عاماً، تحت ولاية خمسة “مقرِّرين خاصِّين”، هم على التوالـي: الهنغاري كاسبار بيرو (1993م ـ 1998م)، والأرجنتيني ليوناردو فـرانكو (1998م ـ 2000م)، والألماني جيـرهارد بوم (2000م ـ 2004م)، والغاني أكويل أدو (2004م ـ 2005م)، ثمَّ، أخيراً، سيما سمر (2005م ـ 2009م).
………………………
………………………
وعلى الرُّغم من أن مشروع القرار الذي تقدمَّت به مجموعة دول أوربيَّة في يونيو 2009م، فأخرج الحكومة من ولاية “المقرِّرة الخاصَّة”، لم يفز، في الواقع، إلا بفارق صوتين، فقط، من جملة38 دولة، أيَّدته منهنَّ 20، وعارضته 18، وامتنعت عن التَّصويت عليه 5 أفريقيَّات هنَّ السِّنغال، ونيجيريا، وبوركينافاسو، وغانا، والجابون (وكالة الأنباء السعوديَّة؛ 19 يونيو 2009م)؛ وعلى الرُّغم، أيضاً، من أن قرار إحلال “خبير مستقل” محل “المقرِّرة الخاصَّة”، في أكتوبر 2009م، وجد، في البداية، معارضة كبيرة من وفد السُّودان، ومن بعثته الدائمة في جنيف (إس إم سي؛ 5 أكتوبر 2009م)، تعبيراً، ولا بُدَّ، عن خيبة الأمل الذي كان يحدوهم بإعفائهم من الخضوع لأيِّ ولاية، رقابيَّة أم تقنيَّة؛ وعلى الرُّغم، كذلك، من كون الخرطوم نفسها عبَّرت عن غضبها على القرار، قائلة إن المجلس لم يراع فيه ما كان أشار إليه من تقدُّم كبير في مجال حقوق الإنسان (شبكة الشروق؛ 7 أكتوبر 2010م)؛ على الرُّغم من كلِّ هذا وذاك، إلا أن النظام سرعان ما تواضع، وعدَّل من موقفه، وعاد يستقبل القرار بسعادة غامرة، حيث وصفه عبد الرحمن الفادني، رئيس لجنة حقوق الإنسان، يومها، في البرلمان، بأنه “تجلت فيه قـدرة الله”، وأنه جاء “نتيجة مفاوضات مباشرة مع ممثلي أمريكا والدُّول الأوربيَّة”، وأنه “مؤشِّر لتحسُّن العلاقات معها، بحيث يمكن التأسيس عليه لتطوير هذه العلاقات في المجالات الأخرى” (سودان سفاري؛ 04 أكتوبر 2011م)؛ كما اعتبر المستشار محمَّد إدريس، نائب مقرِّر المجلس الاستشاري، ورئيس شعبة حقوق الإنسان بوزارة العدل، وقتذاك، أن تعيين “خبير مستقل”، بدلاً من “مقرِّر خاص”، فيه اعتراف بتحسُّن إيجابي في ملف حقوق الإنسان بالسُّودان لدى الأمم المتَّحدة (المصدر نفسه).
وبصرف النظر عن تهافت تصريح رئيس اللجنة البرلمانيَّة، وعمَّا ينطوي عليه قول مستشار العدل من تزيُّد، فإن التقدير الأشبه بالواقع، والأقرب إلى الحقيقة، هو أن القرار جاء في صالح الحكومة، مقارنة مع درجة سوء سجلها على صعيد حقوق الإنسان، وبالتالي مع أي قرار آخر كان يحتمل أن يصدر، على هذا الأساس، فيُبقي على وضعيَّة “الرَّصد” و”المراقبة” تحت ولاية “مقرر خاص”، سيما سمر أو غيرها، لا يهُم. لذا، حقَّ لمستشار الحقوق أن يسعد، ولرئيس لجـنة البـرلمان أن يحمـد الله، ولعبد الدَّائم زمراوي، وكيل وزارة العدل السَّابق، أن يؤكد، بلهجة ملؤها الارتياح، على اطمئنان الحكومة لاستقلاليَّة تشاندي، واستعدادها التام للتعاون معه، ولتمليكه المعلومات كافة، ولتسهيل مقابلته لمن يطلب، إضافة إلى الثناء على نهجه الذي قال عنه الوكيل، رجماً بالغيب، وغامزاً سيما سمر من طرف، أنه “سيعتمد على تحري الدقة، والمصداقية، والتأكد من صحة المعلومات والمصادر، وعدم التعويل على جهة واحدة!” (شبكة الشروق؛ 24 يناير 2010م).

(2)
لكن، لم تكد تنقضي غير أشهر قلائل، حتى تكشَّف للقاصي والدَّاني أن موقف الحكومة الحقيقي هو ألا شئ يرضيها، في واقع الأمر، أقل من إطلاق يدها، بلا أي رقيب أو حسيب، في حريَّات مواطنيها وحقوقهم تفعل بها ما تشاء! فقد انقلبت، مثلاً، “المجموعة الوطنية لحقوق الإنسان” تتذمَّر من أداء “الخبير المستقل” لمهامه في السُّودان، وتصفه بأنه “مسمار جحا”، وتحمِّل أمريكا، بأثر رجعي، بعد كلِّ المديح الذي كالته لها، كامل المسؤوليَّة عن وجوده، كونها “أظهرت .. مجابهة قويَّة لطلب الخرطوم الرامي لإنهاء ولايته” (شبكة الشروق؛ 7 أكتوبر 2010م). ولم تكتفِ “المجموعة” بذلك، بل مضت تكشف عن جهل مريع بطبيعة مهام الرَّجل، خالطة بينها وبين مهام البعثات الدِّبلوماسيَّة للدُّول الأجنبيَّة، وذلك في تعبيرها عن عدم لزوم وجوده، أصلاً، “في وجود الكم الهائل من السفارات والبعثات الأجنبية في جميع أنحاء البلاد .. ما يجعل من المنصب زيادة غير مطلوبة، خاصة وأن هذه الجِّهات ترفع تقارير دوريَّة عن السُّودان!” (المصدر نفسه).
………………………
………………………
ثمَّ انتهت الحكومة، أخيراً، إلى التنصَّل، عمليَّاً، عن كلِّ حماستها الكبري في ما كانت أطلقت، تجاه “الخبير المستقل”، من تعهُّدات والتزامات بـ “التعاون معه، وتمليكه المعلومات كافة، وتسهيل مقابلته لمن يطلب”، حيث رفضت طلب بدرين، الذي خلف تشاندي، لمقابلة قضاة “المحكمة الدُّستوريَّة”، علماً بأن “المحكمة الدستوريَّة”، المستقلة نظريَّاً، هي التي ينبغي أن ترفض أو تقبل! وقد تعللت الحكومة في رفضها الطلب بأن ذلك يقع خارج نطاق تفويضه (المجهر السِّياسي؛ 13 فبراير 2014م)، ومع أن ذلك غير صحيح على إطلاق القول، لكن هَبْ أنه صحيح، فما الذي تخسر الحكومة من مثل هذا اللقاء؟! بل من، يا ترى، تخشى الحكومة: بدرين أم قضاتها؟! وعلى ذكر هذه المفارقة تقفز إلى الذِّهن عجيبة أخرى، حيث انبرت “المجموعة الوطنيَّة لحقوق الإنسان” تشدِّد، في هذه المناسبة، أكثر من الحكومة ذاتها، على ضرورة أن يحصر “الخبير المستقل” نفسه في “الدَّعم الفني” فقط، ولا شأن له بالانتهاكات (الانتباهة؛ 15 فبراير 2014م)؛ والسؤال هنا أيضاً: ما الذي يضير “المجموعة الوطنيَّة لحقوق الإنسان” في أن يسعى “الخبير المستقل” لمعرفة حجم الانتهاكات المرتكبة، وما اتُّخذ وما سيُتَّخذ من إجراءات حيالها؟!

(3)
أمَّا وأن العلاقات الدَّوليَّة، بما فيها علاقات حقوق الإنسان، تكاد، مثل الدَّهر تماماً، لا تستقرُّ على حال، فإن أمرها، في شأن السُّودان، يستدعي، هذه الأيَّام، بعض جدليَّات أبي البقاء الرندي: “مَنْ سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ”! فمع أن كلَّ شئ وارد، وكلَّ احتمال محتمل، وكلَّ حال مرشَّح لأن ينقلب إلى الضِّدِّ لدى أَوْهَى سبب، إلا أن الكَدَر المنتظر أن يحيق بالحكومة، بعد أيَّام، في ما لو قرَّرت دورة المجلس السَّابعة والعشرين الحاليَّة بجنيف، إرجاعها من “نعومة” البند العاشر إلى “خشونة” البند الرَّابع، حسب ما ترجِّح أكثر المعطيات، وأهمُّها تزايد ضغوط مؤسَّسات حقوق الإنسان العالميَّة المستقلة، إنَّما يذكِّر، من كلِّ بُدٍّ، بالكَدَر الذي كان قد عمَّ معارضي الحكومة السِّياسيين والمدنيين، يوم رفض نفس المجلس، خلال دورته الثامنة عشر في سبتمبر 2011م، إرجاعها إلى البند الرَّابع، وقرَّر، بدلاً من ذلك، استمرار تفويض تشاندي، آنذاك، تحت البند العاشر “الدَّعم التقني”.
………………………
………………………
والآن ها هو بدرين قد استقال على مرمى ثلاثة أسابيع، تقريباً، من استعراض ومناقشة تقريره الختامي داخل المجلس، وذلك لأسباب “خاصة وأسريَّة”، أو كما قال (وكالات؛ 5 سبتمبر 2014م)؛ غير أن التقـرير المذكور، والمنشور بموقع المجـلس، منذ الرابع من سبتمـبر الجـاري، والذي تقرَّرت مناقشته في الثالث والعشرين والرَّابع والعشرين القادمين، يضع على عاتق الحكومة أوزار تنوء بحملها كواهل الجبال الرَّاسيات، رُبَّما ليس أثقلها، على فظاعته، الاستخدام المفرط للقوَّة تجاه المتظاهرين الذين خرجوا، في 23 سبتمبر 2013م، يعبِّرون، سلميَّاً، عن احتجاجهم ضدَّ زيادات كانت الحكومة قد فرضتها على الأسعار بنسبة تتراوح ما بين 65 95 %، وخفض لقيمة الجنيه السُّوداني مقابل الدولار الأمريكي بنسبة 30%؛ فسلطت عليهم أجهزتها القمعيَّة ترديهم بالرصاص الحي، ليسقط منهم 200 قتيل، حسب بيانات منظمة العفو الدولية، دون أن تبدي جديَّة، حتَّى الآن، في محاكمة الجُناة، أو مجرَّد التحقيق في الانتهاكات. وإلى ذلك ينعي عليها تقرير بدرين أن حديثها عن صعوبة تحديد من أطلق النار، في وضح النهار، “غير مقبول لا أخلاقيَّاً ولا قانونيَّاً”! ومن الأوزار الفظيعة الأخرى المشمولة بالتَّقرير القصف الجَّوي العشوائي على المدنيين بجنوب كردفان ودارفور، وفرض القيود على الصَّحافة، ومنع الاجتماعات السِّلميَّة، واعتقال النشطاء السِّياسيين، والكثير الكثير من مثل ذلك. غير أن ثمَّة مفارقتين جديرتين بالاهتمام تثوران، هنا، على النحو الآتي:
المفارقة الأولى: أن فظاعة الانتهاكات المرتكبة ضد حقوق الإنسان من جانب النظام، أو بعلمه، والتي شكلت المقدِّمة المنطقيَّة للتَّقرير، تتناقض، عميقاً، مع النتيجة التي خلص إليها التقرير نفسه، وتتمثل في التوصية، لا بإعادة الحالة إلى البند الرَّابع، بند “المقرِّر الخاص”، وإنما بالإبقاء عليها تحت البند العاشر نفسه، بند “العون التقني”!
المفارقة الثانية: أن أكثر مآخذ سجل النظام المشمولة بالتقرير هي مِمَّا يكمن، الآن، بالأساس، في صلب ما تأخذه عليه، أيضاً، حركة الحقوق العالمية، وفي صلب المواقف المتغيِّرة تجاهه، بالتالي، من تلقاء الغرب وأمريكا. على أن هذا السِّجل لم يكن، أصلاً، أفضل حالاً، في أيِّ وقت خلال الفترة السَّابقة التي كانت هذه الدُّول تحابي فيها النظام، بما في ذلك الفترة التي شهدت وأعقبت انعقاد الدَّورة الثامنة عشر للمجلس في سبتمبر 2011م، إلى الحدِّ الذي اضطرَّ فيه النظام، مثلاً، لأن يسحب ترشُّحه، في سبتمبر 2012م، لشغل أحد مقاعد القارَّة الأفريقيَّة بالمجلس، بعد عاصفة الانتقادات العنيفة التي أثيرت في وجهه، والتي اعتبرته، جرَّاء هذا السِّجل، غير مؤهَّل للجلوس على ذلك المقعد، خاصَّة في ملابسات أزمته مع المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة!
مهما يكن من أمر، فإن شيئاً من كلِّ ذلك لم يقرع جرساً، ولو خافتاً، لدى النظام الذي واصل تعويله، بالكليَّة، على “علاقات الخارج” يغالب بها “متاعب الدَّاخل”، رغم أنه يكاد لا يكفُّ عن إثارة الضَّجيج حول الاستكبار العالمي، ودول الاستكبار العالمي، من باب التغطية، ربَّما، على موقفه الحقيقي! فمشكلته، كأغلب نظم الحكم الشُّموليَّة في العالم الثالث، أنه غارق، حتَّى أسنانه، في توهُّم أن حلَّ أزمته مع الشَّعب رهين بحلِّ أزمته مع الغرب. وقد أثارت دورة سبتمبر 2011م، بالذَّات، شهيَّته في هذا الاتِّجاه، فمضى يطالب بإلغاء أيِّ ولاية عليه، لا من “خبير مستقل”، ولا من “مقرِّر خاص”!
………………………
………………………
تلك الشَّهيَّة لم تنشأ، في واقع الأمر، لدى النظام، من فراغ، فالسِّياسة الدَّوليَّة لم تكفَّ، حتَّى قبل تلك الدَّورة، عن التلويح له، من تحت الموائد، بوعد “الجوائز والمكافآت”، حالَ يسَّر استفتاءً هادئاً للجَّنوبيين في التاسع من يناير 2011م، ثمَّ توَّج ذلك باعتراف سلس بنتيجته! فانطلق النظام، لا يلوي على شئ، باتِّجاه تحقيق ما يليه من مطلوبات، وبالمقابل لم تفت المجلس الإشادة، ضمن قراره في ختام تلك الدَّورة، بـ “إكمال!” الحكومة السُّودانيَّة تطبيق اتفاقيَّة السَّلام، وإجرائها استفتاء الجَّنوب، واعترافها بالدَّولة الجَّديدة، مثلما رحَّب المجلس بوثيقة الدَّوحة، وحثَّ بقية الحركات على اللحاق بها، وأسمى جملة ذلك بـ “التطوُّر في مجال حقوق الإنسان!” (وكالات؛ 30 سبتمبر 2011م).
وكانت هيئات الرَّقابة الغربيَّة على انتخابات 2010م الرِّئاسيَّة والتَّشريعيَّة قد غضَّت طرفها، قبل ذلك، عن خروقات النظام، وتجاوزاته الفضائحيَّة، وليس أدلُّ على ذلك من اضطراب منظمة لا تنقصها المعرفة أو الخبرة، كمنظمة كارتر، ومع ذلك طاشت تقديراتها، في هذا الشَّأن، بين الدَّمغ المرتبك والتَّبرير الشَّائن، حيث ابتدأت بحكم عام على تلك الانتخابات بأنها، قولاً واحداً، “دون المعايير الدَّوليَّة!” (بي بي سي؛ 17 أبريل 2010م)، لكنها انقلبت، فجأة، تشهد، بلا أيِّ حياء مهني، على “نزاهة” نفس الانتخابات (الرَّأي العام؛ 2 مايو 2010م)، ثمَّ ما لبثت أن عادت تعترف، صراحة، بأن قولها ذاك محض “شهادة زور”، وأن الانتخابات، في حقيقتها، “فوضويَّة، وغير شفافة، ونتائجها مشكوك فيها!” (الشرق الأوسط؛ 11 مايو 2010م).

(4)
كان إغراء “الجَّوائز والمكافآت” ضاغطاً على خيارات الحكومة وهي تدفع إلى جنيف، خلال دورة سبتمبر 2011م، بأعداد مهولة من “المنظمات الحكوميَّة غير الحكوميَّة GONGOs” المنضوية ضمن ما يُسمَّى بـ “المجموعة الوطنيَّة لحقوق الإنسان”، رُبَّما لحضور حفل إعفائها، حسب طلبها، من أيِّ ولاية! و”المجموعة”، من قبل ومن بعد، شبكة لمنظمات خافتة الذِّكر، نشأت وترعرعت في أحضان السُّلطة، لا في عرصات المجتمع المدني، ولم يُرَ، في أيِّ وقت، لأيٍّ من ممثليها الكُثر، الذين غصَّت بهم، يومها، قاعات وردهات ومطاعم قصــر الأمم Palais des Nations، كدحٌ مدنيٌّ مستقلٌ يؤبَه له، بما فيهم محمَّد حسن أحمد البشير، شقيق رئيس الجُّمهوريَّة، الذي قدَّم نفسه لنا، حين تشرَّفنا بالالتقاء معه، لأوَّل مرَّة، في ذلك المحفل، ككاتب قصة قصيرة يساهم في قيادة “مجموعتهم”، ولم نكُ قد تشـرَّفنا بمعرفته، من قبل، أو بمعرفة أيٍّ من زملائه، ولو في المستوى الشَّخصي، دَعْ أن تجمعنا بهم أيٌّ من مسالك أو مستويات العمل العام، نحن الفرقة الصَّغيرة من الناشطين الخائضين، فعليَّاً، من قمم رؤوسنا إلى أخامص أقدامنا، في الدِّفاع اليومي عن حقوق الإنسان، فكريَّاً وحركيَّاً، وقد تمكنا، بشقِّ الأنفس، من المشاركة في تلك الدَّورة، كمستقلين، أو كممثلين لمنظمات مدنيَّة مشهود لها برسوخ الخطو في هذا المجال، وكان في مقدِّمة الجَّميع، كالعادة، طيِّب الذكر عثمان حميدة الذي ستظل حركة الحقوق الوطنيَّة والإقليميَّة والعالميَّة تبكيه طويلاً بدمع الدَّم.
بذلت فرقتنا، على صغرها، من الجهد ما كاد يفوق، أحياناً، محدوديَّة طاقتنا البشريَّة، بدعم لا يقدَّر بثمن من القوى المدنيَّة الخيِّرة، خاصَّة المنظمات الحقوقيَّة العالميَّة. على أن ذلك كله لم يؤتِ أُكلاً يذكر، ولم نحصد منه سوى نظرات التعاطف الحذِر الأسيف تطلُّ، في أفضل الأحوال، من عيون بعض أعضاء الوفود، مِمَّن لم يكونوا يملكون لنا، أو حتى لضمائرهم، كبشر أسوياء، أكثر من ذلك، فهم مكبَّلون، لدى التَّصويت، بأغلال الخطوط الصَّارمة لسياسات دولهم، وتوجيهات أجهزتها الخارجيَّة، مِمَّا تثقل به، كقاعدة، كفة المصالح الصِّرفة في ميزان العلاقات الدَّوليَّة.

(5)
للسِّياسة، إذن، قولها الفصل في قضايا حقوق الإنسان للأسف. وسياسة “الجَّوائز والمكافآت” هي التي طبطبت، لدى نهاية دورة المجلس الثامنة عشر، على ظهر الحكومة، ووضعت في فمها قطعة حلوى، ثمَّ “خارجتها”، بكلِّ هدوء، من بوَّابة قصر الأمم! فهي، وإن لم تعفها من الخضوع، نهائيَّاً، لأيِّ ولاية دوليَّة، كما كانت تأمل، إلا أنها أبقت عليها تحت الولاية “التقنيَّة”، الأخف وطأة، فبرطمت قليلاً، وأبدت من عدم الرِّضا شيئاً، ثمَّ ما لبثت أن كشفت عن فرحة لا تُحدُّ، فقد سُمح لها، في نهاية المطاف، بالاستمرار في “الزنزانة الناعمة”، بدلاً من إرجاعها إلى “الزنزانة الخشنة”!
أمَّا المجتمع المدني فقد غادر جنيف، يومها، وفمه محشوٌّ تراباً، إذ كان يطالب بإرجاع الأمر إلى الولاية “الرَّقابيَّة”، بينما الظروف “السِّياسيَّة” كلها ضدَّه، وأهمُّها، على وجه التحديد، الاعتبار “السِّياسي” الخاص الذي تقيمه أغلب الدُّول، في الغرب بالذَّات، لما تبدي الحكومة من استعداد للتعاون! وقد تكرَّر ذلك، بصورة روتينيَّة، عبر دورات أخرى لم يكن ميزان القوَّة فيها قد تعدَّل بدرجة مؤثرة.
والآن، رغم أنه من الخطل إغفال الحسابات المتعلقة بمواقف القوى الإقليميَّة التي تتبع أصواتها، مباشرة، لمصالحها، كإثيوبيا، مثلاً، والتي سيتحدَّد موقفَها، قطعاً، من أيِّ صراع حول السُّودان وحقوق الإنسان، بناءً على الموقف النهائي للسُّودان نفسه من الصِّراع بينها وبين مصر حول مياه النيل وسدِّ النهضة؛ إلا أن ثمَّة معطيات جديدة، في هذه الدَّورة، تشير، بأكثر من إصبع، إلى أن تكاثف الضغوط المدنيَّة العالميَّة التي قد تتبدَّل لها مواقف، وقد تتغيَّر لها موازين، ربَّما على خلفيَّة دلائل محدَّدة، منها، مثلاً، ما أكده السَّفير دفع الله الحاج، عضو المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، من أن الوفد الأمريكي في جنيف قرر تقديم مشروع قرار خاص بالسُّودان، خلال هذه الدَّورة، “يحوي إشارات سلبية”، ورغم أن الوفد لم يفصح عن طبيعة قراره، إلا أن لغته تنطوي على “مشروع أكثر قوَّة!”، وإلى ذلك أفصح الحاج عن نيَّة الاتِّحاد الأوربي، أيضاً، تقديم مشروع قرار خاصٍّ بالسُّودان “أكثر قوَّة!”، كما كشفت تهاني تور الدَّبَّة، رئيسة لجنة التَّشريع والعدل بالبرلمان، عن مجموعات تقود تحرُّكات، في مجلس حقوق الإنسان بجنيف، لإعادة السُّودان إلى البند الرَّابع، وتعيين “مقرِّر خاصٍّ” لـ “الرَّصد” و”المراقبة، بدلاً من “خبير مستقل” لتقديم “العون التقني” (سودان تريبيون؛ 4 سبتمبر 2014م).
ولعلَّ مِمَّا يعزِّز من مخاوف الحكومة ما ورد في كلمة الولايات المتحدة ضمن المناقشة العامَّة، بموجب البند الثاني من لائحة المجلس، لبيان المفوَّض السَّامي الجَّديد لحقوق الإنسان زيد رعد الحسين، أمام الدَّورة، في 8 سبتمبر الجاري ـ 2014م، حيث أفردت الكلمة الأمريكيَّة فقرة مطوَّلة، بشكل لافت، لأوضاع حقوق الإنسان في السُّودان، واصفة إيَّاها بأنها قد تردَّت، خلال العام المنصرم، بصورة مقلقة، شاكرة لمكتب المفوَّض السَّامي ما أبدى تجاهها من اهتمام، خصوصاً في ما يتَّصل باستهداف المدنيين، وعمَّال الإغاثة، والبنيات التَّحتيَّة، والقتل خارج القانون، والاعتقالات الجزافيَّة لفترات متطاولة، دون أدنى مراعاة للتدابير السليمة due process، كما عبَّرت الكلمة عن القلق، بالمثل، إزاء التقارير الواردة عن التعذيب، والقيود المضروبة على حقوق التَّعبير، والتَّجمُّع السِّلمي، والحريَّات الدينيَّة. وفي النهاية حثَّت الفقرة المجلس على “أن يكفل، في تعامله مع السُّودان، رقابة مشدَّدة مصحوبة بتقارير صارمة، وليس فقط توفير العون التقني”. بل إن الموقف الأمريكي قد ذهب إلى أبعد من ذلك بأن رشَّح، كخليفة للنيجيري المنصرف مسعود بدرين، الأسترالي مايك سميث الذي شغل العديد من المناصب الدبلوماسيَّة والسِّياسيَّة في بلده وفي الأمم المتَّحدة، منها وظيفة سفير أستراليا في مصر والسُّودان ما بين 1995م ـ 1998م.
ومن جانبها، أيضاً، لم تخلُ كلمة بريطانيا من ملاحظة التَّردِّي المتسارع لأوضاع حقوق الإنسان في السُّودان، والمطالبة، ترتيباً على ذلك، بأن يكون تحرُّك المجلس، إزاءها، بما يتَّسق وهذا التَّردِّي بوضوح تام، وأن يكون للتَّفويض الممنوح آليَّات أكثر قوَّة للمراقبة ورفع التقارير.
وبوجه عام، فإن التحذير ما انفكَّ يرتفع، منذ حين، من جهة نفس أولئك الذين لطالما اطمأنَّت الحكومة للتعويل على التَّعاون معهم، أعلى من أعلى وعيد قد تجابهه من جهة خصومها، بما يُفترض أن يذكِّرها بأن الإرجاع، تحت الضُّغوط المدنيَّة المتكاثفة، من البند العاشر إلى البند الرَّابع، ليس بالصعوبة التي تتوهَّمها؛ فهل، تراها، بعد كلِّ ذلك، قد استوعبت هذا الدَّرس البسيط، أم أنها ستصرُّ، كما المقامر العنيد، على مواصلة ركوب الرَّأس، واعتماد نفس السِّياسة القديمة القائمة في “استدبار الدَّاخل” انتظاراً لـ “وعد الخارج”؟!
***

بقلم/ كمال الجزولي
الأحد, 21 أيلول/سبتمبر 2014 09:44

[email]kgizouli@gmail.com[/email]