حوارات ولقاءات

الشيخ أحمد الطيب زين العابدين: أنا ما برضى طاقية عسكري يشيلا الهواء

** الليل بتوقيت شمبات. المئذنة بلونها الأخضر أصوات طلبة المسيد تتداخل وأصوات غناء مجهولة المصدر لتخبرك في نهاية المطاف أنها الحياة. خالعاً نعليه يستقبلك على الطريقة السودانية؛ ابتسامته ينعكس ضوؤها على كوب الشاي الأخضر. ترافقك التساؤلات وأنت تلج مسيد رجل يتوجه أهل شمبات كبيراً لهم، ويتوجه شباب سبتمبر والداً لثورتهم التي لم تكتمل.. يحيط به حواريو إحدى أقدم الطرق في السودان؛ الطريقة السمانية التي انحدر من صلب مؤسسها الأول.. الشيخ الذي يلج السبعين بهمة ونشاط مسجل خطر في أضابير السلطة ربما.. منبر مسجده منبر للحق. يحكي الرجل لـ(اليوم التالي) تفاصيل حياة ضابط متقاعد بالقوات المسلحة السودانية التي انخرط فيها مع ارتفاع أصوات مارشات نميري معلنا انقلابه على الديمقراطية الثانية. يعتز بكاب الجيش الذي خلعه لارتداء طاقية الصوفية في وقت لاحق. يعلن مواقفه الرافضة للانتماء الحزبي قبل أن يعود ليبرر وجود الليبرالية في مسيد السمانية بشمبات. في كل هذا يتحدث شيخ السجادة السمانية في شمبات الشيخ أحمد الطيب زين العابدين بلسان سوداني مبين واضعاً النقاط على حروف (اليوم التالي).

* احك لنا عنك؟

– أنا نتاج لثنائية التربية بين العسكرية والتصوف وهي تربية متشابهة لحد كبير من خلال فلسفة الضبط والربط لكن بالنسبة لي فإن هناك أكثر من 99% مما وجدته في العسكرية موجود في التصوف، قانون التصوف الأساسي الطاعة تجمعنا والمعصية تفرقنا. لكن انضباط التصوف نتاج للمحبة بينما انضباط العسكرية قد يأتي من حالة الخوف.

* يعني الصوفية هي التي حملتك إلى الكلية الحربية؟

– الانتماء للكلية الحربية كان منطلقه الأساسي أن ثمة واجبا علينا أن نقوم به تجاه الأرض وأن ندفع فاتورة الانتماء والفاتورة تدفع باختيارك؛ أن تتوشح بالكاكي مدافعاً عن حمي الوطن وعن مقدساته.

* “كنت الدفعة كم في الكلية”؟

– أنا دخلت الكلية الحربية في العام 1969 في الدفعة 23 وهي أول دفعة في عهد الرئيس الراحل نميري، وأكبر دفعة مرت في تاريخ الكلية الحربية على مر التاريخ.

* “قبلوك عشان إنت ود الشيخ الطيب زين العابدين”؟

– لا.. تم قبولي باعتبارات المواطنة وبالكفاءة التي أثبتها في الاختبارات التي تتيح لي الدخول إلى الكلية الحربية وبنجاحي في الشهادة السودانية، كانت تلك هي الطريقة التي تم قبولي بها واستيعابي مع آخرين في ذات الدفعة ولم يكونوا كلهم أبناء شيوخ طرق صوفية.

* أين كنت أثناء ثورة أكتوبر؟

– أنا من الذين شاركوا في المظاهرات التي أنجزت الثورة كنت حينذاك طالباً بمدرسة بحري الأميرية في المرحلة المتوسطة كنت في الوكت داك صبي كل الطلاب شاركوا آنذاك من أجل إسقاط الحكومة العسكرية الأولى.

* يعني تساهم في إسقاط الحكومة العسكرية وبعدها تنتمي للعساكر؟

– الأمر هنا يبدو مختلفاً لكن المؤكد بالضرورة أنه لا يستطيع كائن من كان أن يقلل أو يغالط في وطنية العساكر وعلاقتهم بالوطن في مقابل أي فئة أخرى من فئات المجتمع.. طوال التاريخ تظل القوات المسلحة هي صمام الأمان وخط الدفاع الأول في الانتماء.. ببساطة سلامة الوطن في سلامة قواته المسلحة.. العساكر ديل أولاد وطن حقيقيين.

* تبدو وكأنك تبرر لاستيلاء الجيش على السلطة؟

– تعال، إنت العساكر ديل جو للسلطة ولا جاتهم هي؟ اختلفت الأحزاب في الديمقراطية الأولى وعجزت عن إدارة شؤون البلاد أن يذهب الحزب الحاكم ويطالب العسكر باستلام السلطة فالأمر نفسه تأكيد على الدور الإيجابي لهم في المحافظة على الوطن أكثر من غيرهم.

* تبدو متحاملاً على الأحزاب السياسية؟

– الأمر ليس تحاملاً بالمعني المعروف للتحامل، لكن حقيقة الأمر أنني لم أنتم لأي حزب سياسي حتى قاربت السبعين في عمري ولم أجد منظومة تعبر عن تطلعاتي في بناء وطن للعدالة والمساواة كما أن الانتماء للقوات المسلحة يكفي.

* لكن البعض يقول إنك تنتمي للحزب الاتحادي الديمقراطي؟

– لا أنا لم أنتم للحزب الديمقراطي بتاتاً قد يكون للأمر علاقة بأن معظم أهالي شمبات لهم علاقة بالاتحاديين أو أن السجادة السمانية أقرب للحزب الاتحادي الديمقراطي من حزب الأمة وفقاً للمكون التاريخي. لكن عني أنا فأنا لم أنتم لأي حزب سياسي في الفترة السابقة ولم أكن عضواً في الحزب الاتحادي الديمقراطي.

* يعني ما كنت اتحاد اشتراكي؟

– لا أنا ما كنت اتحاد اشتراكي ولا أي فرد في القوات المسلحة، لكن الأمر لا ينفي اعتزازنا بالقائد العام لقوات الشعب المسلحة والوطني الغيور المرحوم جعفر نميري. ولو استمر الواقع بحسب ما كان مرسوما لكانت البلاد حققت قفزات على كافة المستويات.

* على ذكر نميري أين كنت أثناء انقلاب هاشم العطا؟

– كنت ضابطا في سلاح المظلات ببحري وأذكر أنه حين ذهابي قيل لي إن هناك انقلابا عسكريا فعدت للمنزل، لكن والدتي حين سألتني وأخبرتها بالانقلاب طالبتني بالعودة إلى السلاح وقالت لي أرجع (ما يعقبوك).. الطريف أنه وبعد عودتي للثكنات وانتهاء الأمر تم اتهامي بالمشاركة في انقلاب هاشم العطا.

* إلى أي الفريقين كنت تميل آنذاك؟

– أنا كنت مع الرئيس جعفر محمد نميري.

* لماذا؟

– نميري كان بالنسبة لنا شخصا معروفا في القوات المسلحة وهو أمر لم يكن منطبقاً على هاشم العطا..

* وانقلاب العطا كان انقلاباً ذا صيغة شيوعية؟

– موقفي من الانقلاب لم يكن له علاقة ذات ارتباطات أيدلوجية ولا أحمل موقفاً مضاداً من الشيوعيين بل على العكس تماماً أحترمهم واحترم مواقفهم السياسية لأقصى حد.. يعني الموقف موقف عدم معرفة بالعطا، وليست له علاقة بموقف مناقض للأطروحات التي يقدمها الحزب الشيوعي السوداني، بل على العكس تماماً؛ مواقف الشيوعيين في التاريخ السوداني تجعل كل صاحب فؤاد سليم ينظر لها بالتقدير والاحترام. كما أن التربية الصوفية تزيد من قدرتك على احترام الآخرين والتعامل معهم..

* لكن رغم عن ذلك اخترت أن تترك القوات المسلحة وتتقاعد؟

– انتقلت للتقاعد في العام 1984 وكانت هناك أسباب موضوعية للخطوة المتعلقة بالتقاعد لم أكن مرتاحاً للأوضاع آنذاك؛ فالفساد والمحسوبية وواقع القوات المسلحة لم يكن ليسر، ولم أستطع البقاء أكثر من ذلك. وبدأت أتغيب عن العمل حتى يتم إبعادي وهو ما حدث بالفعل.

* هل كانت للسياسة تأثيرات على ابتعادك؟

– نعم، فبعد المصالحة ودخول الإخوان المسلمين في المسرح السياسي لم تذق البلاد طعم العافية.. أصحاب الإسلام السياسي استطاعوا خداع نميري حتى يجدوا لهم موطئ قدم في البلاد ومن ثم يقومون بتنفيذ مشروعهم السياسي.

* لكن نميري هو من جلبهم عبر المصالحة؟

– لا.. محاولتهم في التغلغل سبقت المصالحة بمراحل، المصالحة كانت الفصل الأخير في كتاب سقوط المشروع الوطني في مايو كانوا يخططون لذلك وأخيراً نجح مسعاهم وصعدوا إلى كابينة التأثير.

* لكن وجود الإخوان في الحكومة قاد لتطبيق الشريعة الإسلامية في السودان؟

– من قال إن السودانيين كانوا يحتاجون لشريعة (القطع والصلب) التي تم تطبيقها وما حاجتهم لشريعة معلنة في حال تم تطبيق قواعد العدالة ورفع الظلم عن العباد؟ أنا ما زلت مصراً على أن المشروع المتعلق بالإسلام السياسي هو الذي قطع الطريق أمام مشاريع التحول الإيجابي للبلاد والاستفادة من خيراتها للصالح العام. ياخ كنا في غني عن كل الذي حدث.

* يعني أنت تركت الجيش لأجل الإخوان المسلمين؟

– أنا ما برضى طاقية عسكري يشيلا الهواء، الجيش كان مصدر الإلهام وتأدية الواجب الوطني فهو أسمى من أن تتركه لصالح منظومة سياسية بعينها لكن هناك واجبا آخر ناداني وهو الواجب المتعلق بأداء دوري عبر السجادة والطريقة التي تقوم بأدوار أشبه بالأدوار التي يلعبها الجيش في تغذية الانتماء الوطني.

* يعني بدلت كاب العسكرية بطاقية الطريقة الصوفية؟

– نعم دا الحصل.. في كل الأحوال أنا كنت حأعمل الخطوة دي طال الزمن أم قصر، لذلك من الأفضل أن آتي لوظيفتي الجديدة وأنا في عنفوان الشباب، وأملك قدرة الإنتاج في الموقع الجديد.. تركت المظلات وانتقلت للمسيد في نهاية المطاف ولبست الطاقية الصوفية اللبسة الياها.

* نزلت في العام 1984 وثار الشعب ضد نميري في 1985 فهل شاركت في انتفاضة أبريل؟

– لا طبعاً، حين انطلقت الانتفاضة كنت في حل عن القوات المسلحة وكنت ملازما المسيد كما أنني لم أجد مبرراً يجعلني أثور ضد قائدي فنميري بغض النظر عن كل شيء كان القائد العام لقوات الشعب المسلحة ومافي جندي بخرج على قائده (الجيش قال كدة).

* لكن الانتفاضة كانت من أجل الحرية والديمقراطية؟

– أنا متفق مع أن الانتفاضة كانت تعبيرا عن رغبة شعب أفتخر بها كواحد منهم لكن التزامي تجاه قائدي جزء من تربية هذا الشعب الذي نقلها إلى المدافعين عنه عبر ارتدائهم الكاكي.

* الرجل الذي يرفض الانتماء للأحزاب عاد لينشئ حزباً؟

– نعم فعلت ذلك لأن الظروف هي التي حتمت هذا النوع من الأفعال إن كنت تقصد تكوين الحزب الاتحادي الديمقراطي الليبرالي فالأمر بدأ بمبادرة من مجموعة من المهمومين بقضايا البلد وأنا منهم مبادرة لوضع الأمور في نصابها وهو أمر لم يكن ليتم لو وضع في الجانب السري وأن تحقيقه تطلب تكوين حزب سياسي. مبادرة اسمها جمع الشتات وإحياء الجميل الذي قد مات كنا نرنو لجمع كل الأشياء من أجل انتشال الوطن من أزمته ومعالجة قصور السنوات التي مضت لو اشتغلنا سريا بتبقي مصيبة كان الخيار أن نقيم الحزب.

* حزب طريقة تاني؟

– لا إن كنت تحاول الربط بين واقع الحزب الجديد ووقائع الأحزاب السابقة فإن الأمر لا يمكن استيعابه أنا لو كنت عاوز أكون جزء من حزب طريقة ما كان انتظرت السنين دي كلها؛ كنت دخلت من زمان. بالمناسبة أنا بعد نفسي مؤسس للحزب مع الناس ديل.. أنا الحزب ذاتو باعتبار أننا التقينا على قيم صادقة تستهدف مصلحة الوطن أولاً وأخيراً.

* هل هي محاولة لأن تجعل المسيد ليبرالياً؟

– المسيد جزء لا يتجزأ من الحياة السودانية واستمراريته لا ترتبط بمنظومة سياسية معينة فهو منظومة قائمة بذاتها وأنا لا أريد أن أدخل الطريقة في السياسة فللطريقة طريقها وللسياسة دربها أنا دخلت الحزب ما من السجادة وإنما من بوابة المواطنة والمسؤولية التي تفترضها والآخرون أيضاً يعلمون هذا الأمر. أنا ما عاوز يختموني بختم الصوفية في العمل السياسي أنا عاوز ختم المواطنة والمسؤولية.

* لكن ثمة من يقول أن البعض يستخدم الصوفية في خدمة مآرب السياسة؟

– أنا بتكلم ليك في حدود أهلي؛ أنا جدي مؤسس الطريقة السمانية في خمسة أقطار وتجد أتباعه في أي موقع في السودان تجدهم رافضين للظلم في أي مكان انطلاقاً من مبادئ الصدق التي يحملونها.

* هل هذه المواقف هي التي جعلت منك أبا لثورة سبتمبر في شمبات؟

– لا.. الثورة أبواتها الشباب..

* لكنهم يتوجونك والداً لهم؟

– الأمر له علاقة بالعادة، ثلاثون عاماً ونحن معاً لذلك جعلوني كبيرهم الذي يقودهم في الطريق الذي اختاروه.

* لكنك دفعت فاتورة هذا الأمر باعتقالك؟

– ما قدمته أنا هم قدموا أضعافه من المواقف.. كل الذي فعلته أن قلت هذا هو الحق وهو أمر لن أتركه بعد هذا العمر.

* يعني أنك مقتنع بهذا الجيل؟

– يا سلام على الجيل دا، والله دا أعظم جيل..

* أعظم من جيلكم؟

– نعم جيلنا لقي كل حاجة متاحة لقى الرفاهية والسودان جميل وما لقى تلتلة ياخ ديل لقو تلتلة تجهجه الشيطان الأسود وصابرين وقادرين على تجاوز حالة الإحباط ويعيشوا ويساهموا في تحقيق تطلعاتهم.

اليوم التالي