عثمان ميرغني

وهذا ما حدث هنا بالسودان..!!


عشتُ أيام الرعب الحقيقي في الرياض عاصمة الشقيقة المملكة العربية السعودية خلال فترة حرب الخليج الثانية (1991).
عندما ترصد الرادارات السعودية انطلاق صواريخ سكود من الأراضي العراقية.. تنطلق صافرات الإنذار .. صوتها مرعب كنعيق البوم فوق الخراب.. فننطلق نحن بسرعة للاحتماء بأقرب موقع مناسب متاح.. وعندما تصل الصواريخ فوق سماء الرياض وتعترضها صواريخ (باترويت) تنطلق صافرات الانذار مرة أخرى.. ثم بعد انقشاع الغارة وتأكد القوات السعودية من عودة الوضع إلى شكله الطبيعي تنطلق صفارات الانذار بنغمة مختلفة ليفهم الناس أن الخطر زال تماماً و في إمكانهم التحرك بشكل عادي.
في المفهوم العسكري.. أن الشخص المدني من حقه أن يعلم بهذه الثلاث (معلومات) فقط.. خطر قادم.. وقوع الخطر.. زوال الخطر.. لكن ليس ضرورياً أن يعلم كيف تعامل الجيش مع الخطر.. لا في رصده ولا في صده.
وهذا ما حدث هنا بالسودان..!!
قبل أيام قليلات.. وفي حوالى منتصف الليل سمع الناس في أمدرمان دوياً قوياً.. في الحال انتشر الخبر وعم القرى والحضر.. واشتعل أثير الواتساب بأمواج من المعلومات والتحليلات.. كثيرون تبرعوا بصياغة بيانات وهمية على لسان الجيش أو مؤسسات أخرى رسمية.. وآخرون تكبدوا جهد تصميم صور وهمية وصلت مرحلة تصوير شاشة قناة الجزيرة وعليها (خبر عاجل: إسرائيل تعلن عن قصف سد مائي في شمال السودان).. رغم أن صوت الانفجار كان في أمدرمان.. لكن أجواء الترقب تسمح ببث أية معلومة مهما افتقدت المعقولية.
وانتظر الناس لسان العقيد الصوارمي المتحدث الرسمي باسم الجيش السوداني ليقطع قول كل خطيب.. وفعلاً تكلم الصوارمي وقال إن جسماً استطلاعياً حلق ليلاً فوق مواقع عسكرية.. ولم تتردد المضادات الأرضية في إسقاطه فوراً.
حسب المفهوم العسكري الذي ذكرته لكم.. الجيش –أي جيش- يؤمن بأن حق المواطن أن يعلم.. لكن فقط بما يجب أن يعلمه.. وعندما يصدر الجيش بياناً فهو بالتحديد (ما يجب أن يعلمه الناس).. ولا اجتهاد مع النص.. نص بيان الجيش.
من حادثة شمال أم درمان كان واضحاً أن الفترة الزمنية من بداية الخطر إلى زواله لم تتعد ثواني قليلة.. هي الفترة التي دوى فيها صوت الانفجار.. وهي فترة تأثر بها فقط الذين كانوا في محيط سماع الصوت.. ولهذا فاض الأثير بالرسائل التي تكشف (الأمنيات).. أكثر من (المعلومات).
هواة الفواجع مددوا الحادثة من أمدرمان حتى سد مروي..
هواة الكوارث أشعلوا حريقاً ( ونشروه عبر الصور الواتسابية) وقضوا على أرواح مئات.
هواة الانقلابات العسكرية نقلوا الانفجار وسردوا قصة مثيرة عن اشتباك أمام مباني الاذاعة والتلفزيون.
هواة أفلام الاثارة بثوا أخباراً عن اشتباكات ومطاردات ودانات ودبابات.
امتلأ الأثير بـ(الأمنيات).. لا (المعلومات)..
وعلى الحكومة أن تدرك أن المشكلة هي في (أمنيات) الناس هذه.. فالمطلوب أن تصلح الحكومة حالها بقدر ما يصلح (أمنيات) الناس لها..


تعليق واحد

  1. كل يوم أقرأ لك مقال يا ود ميرغني يزداد اعجابي بيك وبطرحك المعقول والموزون والذي يجسد الدور الحقيقي للصحافة وهو الاصلاح وليس التهويل أو التهوين. للأمام سر