مصطفى عبد العزيز البطل : هواتف ذكية في أيدٍ سودانية
(1)
تنُسب إلى العميد طه حسين قولته الذائعة “التعليم كالماء والهواء”. وأحسب أننا نحتاج في يومنا هذا إلى عميد آخر (حتى ولو عميد شرطة)، ليغيّر المقولة حتى تناسب واقع العصر وروحه فتكون “الهاتف الذكي كالماء والهواء”.
الهاتف الذكي (Smart phone) يُطلق على فئة الهواتف المحمولة الحديثة التي تستخدم نظام تشغيل متطور وشاشات لمس، وتسمح بتشغيل تطبيقات وتقنيات توفر مزايا تصفح الشبكة الدولية، والوصول إلى أرتال من المحتويات الإعلامية والثقافية، كما تتيح مزامنة البريد الإلكتروني وفتح الملفات.
وأنا أنظر حولي حيث أنا في الولايات المتحدة فلا أرى غير كائنات من البشر تمسك بهواتفها الذكية وتنكب عليها ليلاً ونهاراً في انقطاع وخشوع وكأنها تتعبد، حتى تخال أنه لا عمل لهؤلاء يعتاشون منه ويهتمون لشأنه. حتى أبنائي عندما ألقاهم على مائدة الطعام أو في باحة البيت الذي يجتمعون فيه معي لوقت قليل لا أراهم إلا والهاتف الذكي في يد كل منهم، يشاغله ويؤانسه، ولا يشاغلني أنا ولا يؤانسني!
ولكنني فوجئت ببعض الإحصائيات التي أوردتها الصحف مؤخراً عن عدد الهواتف الذكية المتداولة في المدن السودانية، ومدى اندماج قطاعات مقدرة من سكان المدن في المجتمع الرقمي الدولي، وكثرة انشغالها وانغماسها في شتى الأنشطة الهاتفية الذكية!
(2)
لم أكد أفرغ من محاولتي الابتدائية في التفكير حول هذه الظاهرة اللبلابية ذات التأثير العولمي المتضافر، حتى دهمني أحد أشياخي من الخرطوم بملاحظات مدهشة حول ما بدا له من حال التراجع الثقافي العام في السودان في وقت تتقدم فيه التكنولوجيا الرقمية لتحتل مساحات جديدة كل يوم.
وكنا في الأصل نتبادل الحديث عن تقهقر الكتاب كمصدر للتعليم والثقافة، وتلك بدورها ظاهرة عالمية. ففي الولايات المتحدة أغلقت شركة بوردرز (Borders) أشهر شركات بيع الكتب في العالم 490 من فروعها في المدن الأمريكية، وسرحت 180 ألفاً من موظفيها وعمالها. كذلك فإنها تخلصت من كل فروعها في بريطانيا وإيرلندا وأستراليا ونيوزيلندا!
لا أحد فيما يبدو يقرأ الكتب الورقية الآن. لا عندنا ولا عندهم. الجميع مشدوه بالهواتف الذكية، والتكنولوجيا الكمبيوترية!
(3)
ولكن قضية تراجع المعرفة والثقافة في السودان غير، كما يقول الشوام. قلة الكتب والعزوف عن القراءة، والانصراف إلى وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من منتجات ثورة تكنولوجيا الاتصالات، دون أن يتم استغلال هذه المنتجات الاستغلال الأمثل، انتهى بنا إلى واقع مزرٍ.
ذكر لي شيخي وهو يعرض عليّ نماذجَ تعكس حالة التردي والتقهقر الثقافي عند أجيالنا الجديدة التي انصرفت عن القراءة والتحصيل المعرفي الجاد، حكى أن عدداً كبيراً من الكتب في مكتبته الخاصة تحمل اسمه، حيث إن المجلدين في مصر يذيلون الغلاف باسم المالك. وحدث أن طافت طالبة ماجستير بإحدى الجامعات بمكتبته، وقرأت عناوين الكتب. ثم توقفت وسألته عما إذا كان هو نفسه مؤلف كل تلك الكتب الضخام؟! فذهل الرجل من سؤالها، لأن كثيراً من تلك الكتب أشهر من السودان، وقد سمع بها حتى عميان الثقافة على عهدنا بالطلب!
وقال لي الشيخ إنه سأل طالبة أخرى عادت لتوِّها من رحلة جامعية لكلية علمية متقدمة بجامعة الخرطوم إلى سد مروي عن وسيلة سفرها هي ومجموعتها، فردت بأنهم استقلوا حافلات مكتوب عليها الطريقة (البرهامية)، فوقر في نفس الرجل أن صاحبته لم تسمع عن تلك الطريقة إلا يومها فسألها عن الطرق الصوفية في السودان، فأجابت: “البروتستانت والكاثوليك”، ثم أردفت: “كما درسنا في المرحلة الثانوية”!
(4)
الهواتف الذكية ومنتجات ثورة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ليست شراً كلها، بل إنها تتوفر على خير كثير. فهي في نهاية المطاف تمثل وسائط لنشر العلم والثقافة، ربما كانت أكثر فاعلية من الكتب الورق التقليدية نفسها.
المشكلة أننا فيما يبدو فقدنا الورق التقليدي، دون أن نحصل على شيء كثير من منتجات التكنولوجيا، بخلاف ثرثرات الواتساب ومجادلات الفيسبوك!
مصطفى عبد العزيز البطل
mustafabatal@msn.com
الطالبه لم تخطئ.
الطريقة البرهانية عندنا تسمي الطريقة البرهامية في مصر.