تحقيقات وتقارير

“المطرة شالت بيتي وخلتني أنا وأولادي في الشارع”.. هل تتكرر المأساة؟ على حافة الهاوية

حدقت إلى الأرض ملياً ثم رفعت رأسها وهي تحمل بين يديها قطعاً من الطوب الأخضر (اللبن) وجوالات مصنوعة من الخيش مملتئة بالتراب، بينما أولادها الثلاثة وابنتها (على صغر سنهم) يعينونها في بناء مأوىً بديل عن الذي جرفته سيول وأمطار خريف العام الماضي خشية تكرر ذات المأساة في الخريف الحالي..
(1)
“المطرة شالت بيتي وخلتني أنا وأولادي في الشارع” بضع دمعات طفرت من عيني (محاسن خليل) ذات الخمس وأربعين سنة، وهي تستعيد مأساة الخريف الماضي، سارعت بمسحها بطرف ثوبها، ثم بدأت تروي وهي منهمكة في عملها تحت أشعة الشمس الحارقة من أجل إعادة تشييد منزل جديد أملاً في أن يصمد في وجه موجات المياه العاتية المندفعة من مصرف المياه المحاذي لمنزلهم (الخور).
محاسن وصفت مشاهد قالت بأنها لا تزال عالقة بذاكرتها منذ الخريف الماضي، حين انهار سقف الغرفة الوحيدة التي كانت تؤوي إليها وأطفالها الأربعة على رؤوسهم بعد أن دهمتها مياه الأمطار، وكيف أنها حملت أبناءها بليل وهرعت بهم مسرعة إلى الخارج فأنقذتهم من موت محقق تحت ركام الغرفة.
(2)
تمضي محاسن في سردها لتكشف عن أنها وبين غمضة عين وانتباهتها وجدت نفسها ومئات الأسر من ساكني مربع 19 أبو سعد غرب و(السريحة) غربي أم درمان، دون مآوي يسكنون إليها بعد أن انهارت منازلهم ذاك الخريف وما يزال جلهم إلى اللحظة رهن العراء، وأضافت: بعضهم شيد منازل والآخر ينتظر المجهول، وهم يخشون ذات مصير العام الماضي بأن تقضي عليهم مياه (الخور) المندفعة نحو المنازل فتتكرر المأساة.
الرعب والخوف من تكرار مأساة خريف العام الماضي يبدو جلياً على وجوه هؤلاء الناس، وربما يتسلل إلى دواخل عشرات الآلاف من الأسر الفقيرة والغنية على حد سواء، بل ويتجاوزها إلى (5) ملايين شخص اعتبرتهم السلطات مهددين بالغرق خريف هذا العام.
(3)
تبدو هذه المخاوف مشروعة إذ تستبق خريف هذا العام عطفاً على وقائع مأساة الخريف الماضي، لكن عند البعض فإن الخريف هذه السنة الذي تأخر عن موعده المعتاد لن يكون بذات خطورة سابقه، هكذا قال الستيني (محمد) ذو اللحية البيضاء الكثيفة المتدلية حتى منتصفه، فيما اعتبرته زوجته “موسم نعمة ورحمة من رب العالمين وإن الله كريم على عباده” هكذا قالت رغم مأساة مضت تشهد عليها أنقاض منزلهما. إلا أن الرجل بيقين تام وإيمان بأقدار الله كحال معظم السودانيين، رفع كفيه بالدعاء قائلاً: “نسأل الله أن ينزل علينا المطر وتكون أمطار خير وبركة تكافي البلا وترفع الغلا”.
(4)
أثر مأساة خريف العام الماضي بدا في حديث (ذو الكفل عبد المنعم) صاحب البقالة بمربع 19 أبو سعد غرب، وهدى محمد نور مديرة روضة السيدة عائشة الكائنة في ذات المنطقة، ومدثر يوسف سائق ترحيل تلاميذ الروضة، ومحمد صاحب محل الغاز، وبالطبع تتعدى المأساة هؤلاء إلى كل ساكني الحي ممن شهدوا معاناة الخريف الماضي، بعض هؤلاء كشفوا عن أنهم احتاطوا بتجهيزات استباقية لمجابهة ما يتوقع أن ينجم من مخاطر جراء خريف هذا العام، فشيدوا ردميات قوامها جوالات من الخيش محشوة بالتراب أمام منازلهم وعلى محيطها، وأجروا عمليات صيانة دقيقة لسقوف بيوتهم المبنية من الطين لتجنب تسرب مياه الأمطار من خلالها تفادياً لاحتمال انهيارها عليهم.
(5)
معظم هؤلاء أجمعوا على استحالة الحركة داخل الحي من أجل الحصول على متطلبات حياتهم اليومية بعد هطول الأمطار، لذلك فإنهم مضطرون إلى شراء ما يلزمهم من مواد غذائية قبيل الخريف وتخزينها، فيما أشار بعضهم إلى أنهم يجدون صعوبة بالغة في الدخول إلى المنطقة والخروج منها خاصة مع وجود مصرف مياه ضخم غير مغطى يشق الحي من أقصاه إلى أدناه وهكذا تظل خطورته ماثلة طوال الخريف وخاصة عند الفيضان وارتفاع منسوبه ما يهدد المنازل بالانهيار ويشيع المخاوف خشية ابتلاعه للأطفال وربما كل من يفكر في عبوره.
المعاناة بحسب (ذو الكفل) يعيشها وهو داخل بقالته المقابلة لمجرى تصريف المياه، إذ تمتلئ سعتها بمياه الأمطار التي تندفع نحوها من ثلاث جهات فتهدد بضاعته بالتلف وتعيق وصول الزبائن إليها، إلا أن الرجل يحاول دائماً درء جزء من المخاطر والمهددات بشق ممرات لتصريف المياه تارة أو برص الطوب بعضه فوق بعض تارة أخرى، حتى يسهل وصول الزبائن اليه.
(6)
أما مدثر يوسف عبد الحليم سائق ترحيل تلاميذ روضة السيدة عائشة، فختزل كل المعاناة في سيارته التي ترتفع تكلفة صيانتها مع حلول الخربف، فالإطارات تحتاج إلى تغيير دائم بفعل الإهلاك السريع كما ترتفع أثمان قطع الغيار والتجهيزات الأخرى علاوة على استهلاك السيارة لوقود إضافي نتيجة لتباعد المسافات بحثا عن طرق أقل سوءاً تأمن له إيصال الصغار إلى روضتهم بسلام، هذا إذا تصالح معه الطين والوحل اللذان يغطيان كافة الطرقات فيعيقان الحركة أو يبطآنها على أقل تقدير.
(7)
صدقية تصريحات المسؤولين الحكوميين بأن الاستعداد للخريف جيد، شكك فيها بل كذبها بعض ساكني المنطقة واعتبروها مجرد كلام، مستدلين بأن مصرف المياه الرئيس الذي يتسبب في إغراقهم لا يتم (تعميقه) إلا بعد هطول الأمطار، خاصة وأن المواطنين يتخذونه صيفاً مرمى للقمامة كلما تأخرت عنه سيارات نقل النفايات. التأكيدات والوعود الحكومية بالاستعداد للخريف فضحتها شهادات المواطنين بانقطاع المنطقة تماما في فصل الأمطار.
بالنسبة لكثيرين ممن جربوا تلك المعاناة فإن مصدر القلق الأكبر يتمثل في ارتفاع الأسعار بسبب صعوبة الحركة من أجل تلبية الاحتياجات الضرورية، إلا أن الفصل نفسه يمثل مصدرا للفرح عند من ينشطون في تقديم الخدمات للسكان (التجار).
يقول أحمد موسى إن الكثير من الناس يصعب عليهم الوصول إلى أقرب متجر من أجل الحصول على حاجياتهم كما يشق على عربة اللبن (الكارو) الدخول إلى الحي لتسويقه، وبالتالي يرتفع سعر الرطل منه إلى 5 جنيهات، فيما يضع صاحب الخضار قائمة أسعار جديدة (عالية) خاصة بفصل الأمطار، وبالطبع لا يستنكف أصحاب البقالات استغلال هذه الأوضاع فيضاعفون أسعار المواد الغذائية، واستطرد: تتصدر مياه الشرب النظيفة قائمة الزيادة التي تطرأ على الأسعار، فيرتفع سعر برميل المياه إلى 50 جنيها.
(8)
حسناً.. لربما تنفض الحكومة يدها عن كل هذه الشكاوى وتتحجج بأنها غير معنية بذلك، ولكن في المقابل فإن المواطنين استمعوا جيداً إلى تأكيداتها بتجهيزاتها للخريف وهم في انتظار رؤيتها واقعا ملموساً، تلك التصريحات قالت (منيرة أحمد) إحدى ساكنات مربع 19 أبو سعد غرب إنها تسمع بها في الراديو فقط، ولا ترى شيئا منها على أرض الواقع، وأضافت: “لما نتضرر ناس الحكومة بجونا بالطيارات ويقولوا لينا عايزين نجيب ليكم إغاثة ولكن ما في شيء بجينا”، واتفقت معها (صفية بابكر) العاملة بروضة السيدة عائشة حين قالت: “نحن نعاني في الخريف، فالمنازل تغرق بالكامل لأن المصرف الرئيس أعلى من مستوى المنازل، فتتسرب المياه إلى البيوت ما يضطرنا لإغلاق مصارف المياه من داخل المنازل حيناً ثم فتحها مرة ثانية، كما نعاني في الوصول إلى البقالة ومحلات الخضروات ويتوالد البعوض والذباب وتنتشر الأمراض وننقطع تماما عن الحياة”.
(9)
هناك في جانب آخر من المدينة يبدو للمعاناة وجه مختلف، في حي الرياض بالخرطوم المصنف بين الأحياء الراقية، الذي قد لا يظن الكثيرون أن سكانه يواجهون ذات معاناة الأمطار التي تتهدد ساكني الأحياء والمناطق الطرفية، لفرضية أنهم أغنياء يقطنون في مبانٍ شاهقة وبمواصفات هندسية جيدة، بدت الصورة مختلفة عند المهندس عادل الأمين الخمسيني وهو يحمل (جاروفاً) يفتح به (مجرى) لتصريف مياه الأمطار التي هطلت الأسبوع الماضي وخلقت واقعا بيئياً مزرياً، ما دفعه لفتادي توالد الباعوض جراء ركود المياه امام منزله، وحتى لا يبقى تحت رحمة تصريحات حكومية بالجاهزية للخريف دون أن يلمسها المواطن.. حسناً، عليك أيها القارئ أن تصبر وترفع اكفك للسماء الا تكون واحدا من بين 5 ملايين مواطن قالت التصريحات الحكومية إنهم مهددون بأن يلحق بهم الضرر خريف هذا العام، حتى لا تقع تحت رحمة النجدة والإغاثة وربما لا تجد من يغيثك.

اليوم التالي