تحقيقات وتقارير

تفاصيل في قصف مصنع الشفاء في الذكرى الـ(17)

لم تكن عقارب الساعة حينها تجاوزت التاسعة والنصف مساءً، عندما دوى صوت انفجار مصحوب بكتلة كبيرة مشتعلة من النار أضاءت معها السماء لبرهة ثم انزوت، ففي ذلك الوقت كانت كل المنازل بمدينة بحري تتشابه فيما بينها، الظلام يغرق المكان، والسكون يقطعه صراخ الأطفال تارة، وحكاوي الجن والبعاتي وأمنا الغولة تارة أخرى، فهكذا يكون الحال كلما انقطع التيار الكهربائي وتركنا غارقين في ظلمتنا وسط جو من السكون والظلام.
كان هذا الانفجار الكبير كفيلاً بأن يجعل الناس ينفضوا من سامر حكاياتهم ويهرعوا لمعرفة ما حدث، لتكثر التكهنات والأقاويل، كل يفتي بطريقته حتى خرجت علينا الأنباء بقصف مصنع الشفاء لصناعة الأدوية بالمنطقة الصناعية بحري، لصاحبه المعروف “صلاح إدريس” من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، ليدخل السودان بذلك القصف مرحلة جديدة في الصراع مع أمريكا التي فرضت علينا حصاراً مشدداً، رفضت معه حتى الاعتذار.
(المجهر) قلبت أوراق الذكرى الـ(17) من هذا الاعتداء الأمريكي الذي يصادف يوم غدٍ (الخميس)، سيما وأن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر منذ ذلك الوقت في مسار العلاقات الثنائية، ونقبت في تفاصيل الحدث، حيث ما يزال مبنى المصنع حطاماً.
(100) تقرير ملفق ضد السودان
لقد ظل العشرون من شهر أغسطس عام 1998 عالقاً بالأذهان وقتاً طويلاً، خاصة أنه وبعد عملية القصف التي أطلق عليها (عملية الوصول اللانهائي) والتي تمت بغارات صاروخية أمر بها الرئيس الأمريكي وقتها”بيل كلينتون” بدعوى تصنيعه ـ أي المصنع ـ لأسلحة دمار شامل، تبين وبمرور الوقت أن القصف تم بناءً على معلومات استخباراتية مغلوطة وتجلى ذلك أكثر بعد أخذ عينات من تربة المصنع وتحاليلها، وقد خرجت تقارير أمريكية شبه رسمية أشارت إلى هذا الخطأ، ولكن رغم ذلك رفضت أمريكا الاعتذار كما فعلت مع دول أخرى.
ورغم أن البعض يرى أن قصف المصنع من قبل الولايات المتحدة كان بمثابة إنذار قوي للحزب الحاكم أو الإسلاميين تحديداً، حيث ظلوا متماسكين في وجه الضغوط التي مورست ضدهم لتعديل سياساتهم التي تراها الدول الكبرى أنها تمثل تهديداً لاستقرارها ومصالحها، وإنها غير منسجمة مع اتجاه السلم العالمي، ذهب آخرون إلى أن القصف استطاع أن يؤتي أكله، عندما أعقبه حدوث تفاعلات قادت لخلاف داخلي أفضى إلى أحداث ما يعرف بمذكرة العشرة التي فرقت بين الإسلاميين في مفاصلتهم الشهيرة، ولكن بحسب القيادي بالمؤتمر الوطني ورئيس جهاز المخابرات في ذلك الوقت د.”قطبي المهدي” لـ(المجهر)، فإن عملية قصف الشفاء لم تكن دافعها تفرقة الإسلاميين كما يدعي البعض، والأمر لا يعدو عن كونه معلومات مغلوطة زودها تجار المعلومات بحد وصفه للمخابرات الأمريكية الـ(CIA) ضمن (100) تقرير ملفق اتضح عدم صحتها لاحقاً.
هزة في مصداقية المخابرات الأمريكية !!
إن قصف مصنع الشفاء وفقاً لـ د.(“طبي المهدي” استطاع أن يهز مصداقية جهاز مخابرات أكبر دولة في العالم، بعد أن تبين فيما بعد أن جميع التقارير التي قدمت ضد السودان كانت تقارير لا أساس لها من الصحة، الأمر الذي خدم الموقف السوداني رغم رفض الحكومة الأمريكية الاعتذار للسودان.
ويقول “د.قطبي” إن الدافع الرئيسي وراء عملية القصف هو التغطية على فضائح الرئيس “بيل كلينتون” مع “مونيكا ليونيسكي”، وترتب على ذلك الأمر قرارات سيئة عرضت رجل أعمال سوداني لخسائر كبيرة، وعطلت العلاقات بين البلدين. ويضيف: لا يوجد هناك ما يبرر مقاطعة أمريكا لنا ولكن هناك جهات تريد أن تدمر السودان، رغم أن الرئيس الأمريكي يعلم أن السودان دولة غير راعية للإرهاب، ولكنه لا يستطيع فك الحظر رضوخاً لرغبة الكونغريس الأمريكي، ولذلك تأتي قراراته أي ـ” أوباما” ـ خجولة فيما يتعلق بفك الحظر.

اعتذار أمريكي واجب
الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية السفير “علي الصادق” اعتبر أن حادثة مصنع الشفاء تعد من الاعتداءات غير المبررة على السودان، وانتهاكات سياسة الدول وتخريب اقتصادها. وقال لـ(المجهر) رغم رفض الولايات المتحدة الأمريكية على تقديم اعتذار لنا كدولة معتدى عليها، إلا أننا سنظل ساعين إلى أن تقدم اعتذارها على عمل خاطئ أقدمت عليه نتيجة معلومات مغلوطة لا أساس لها من الصحة.
وبحسب السفير السابق “عثمان السيد” في إفادته لـ(المجهر) فإن مردودات عملية القصف جاءت بعكس ما توقعت أمريكا، التي أرادت بمعلومات خاطئة مدتها بها المعارضة السودانية سعت من ورائها لتدمير النظام الحاكم الذي اكتشفت لاحقاً أنه أقوى مما توقعت. ولفت “السيد” إلى أن ما حدث في العشرين من أغسطس عام 1998جاء في إطار حملة قادتها وزيرة الخارجية آنذاك “مادلين أولبرايت” الهدف منها محاصرة السودان وإسقاط الحكومة. وقال: المؤسف في الأمر أن المعلومات التي استندت عليها “واشنطن” في قصفها جاءت من قبل سودانيين.
هذه صفقة شراء المصنع
حاولنا تقليب أوراق الذكرى السابعة عشر مع السيد “صلاح إدريس” عبر وسيط كي نحاوره هاتفياً إلا أن ذلك تعذر رغم توفر الفرصة، لكن “الأرباب” ذكر في إحدى مدوناته وهو يسترجع الذكرى السابعة عشر لقصف مصنع الشفاء، كيف أنه قام بشراء المصنع الذي وصفه بالفرصة الاستثمارية العظيمة. وأوضح أنه اشتراه، عندما أبلغه أخو ذو علاقة مشتركة وله منصب في المصنع برغبة المالكين بالبيع فالتقطها. وذكر أن التفاوض لم يكن صعباً أو طويلاً لما يربط بينهم من علاقة طيبة. وعدد “الأرباب” في مدونته مزايا المصنع الذي قال عنه إنه قد مثل خطوة مهمة في توطين الدواء، وجعل طموح التصدير واقعاً معاشاً، إضافة إلى أن المصنع كان ذا ذراع بيطري ممتد، وهذا فكر عالٍ خاصة والسودان به ثروة حيوانية عظيمة إذا ما توافر لها الدواء وبصورة ميسرة وتكلفة أقل مما كان سائداً، فإن ذلك كان خطوة مهمة لفتح أبواب الاستثمار العلمي والفاعل في هذا المجال، والأسواق قريبها وبعيدها متاحة ومرحبة وفي حاجة كبيرة لهذه المنتجات السودانية، وتحاشى الخوض في حجم الصفقة والخسائر التي لحقت به.
مالك مصنع الشفاء أكد أنه لم يكن مقصوداً في شخصه بالقصف وإنما الحكومة، وذلك في رسالة واضحة من الأمريكان يومها مفادها أننا يمكننا أن نضربكم. وبحسب “صلاح إدريس” فإن الحادثة كانت نقطة تحول سياسي كبير، في تاريخ البلاد أعقبتها تحولات كبيرة أبرزها التلاقي الذي حدث بين الحكومة والمعارضة، حيث التقي “البشير” “الميرغني” في “أسمرا”، ومن وقبله التقى بـ”الصادق المهدي” في “جيبوتي”.
اعترافات
ومن اعترافات عملية القصف ما حملته الصحف الأمريكية بأن القصف على المصنع كان رداً انتقامياً من أمريكا على التفجيرات التي طالت السفارات الأمريكية في كينيا وتنزانيا، ونتج عنها سقوط (224) قتيلاً (منهم 12 أمريكيًا) وجرح (5000) آخرين، وأن للسودان ضلعاً في التفجيرات، أيضاً من الاعترافات التي صاحبت عملية القصف هو اعتراف القيادي المعروف بحزب الأمة “مبارك الفاضل” بمد المخابرات الأمريكية بمعلومات بأن المصنع ينتج غاز الأعصاب المدمر، إلا أن “الفاضل” نفى لاحقاً التهمة عنه وقال إن من أرشد بالمعلومات المغلوطة هو مدير المصنع السابق، وهو أحد القيادات الإسلامية على حد قوله.

ما بعد الاعتداء
رغم تأكد “واشنطن” من خطئها تجاه السودان إلا أنها أصرت على إبقاء العقوبات الاقتصادية، ولكن ثمة تغييرات حدثت لاحقاً جعلت أمريكا تتراجع رويداً رويداً عن الحظر، وأهمها الصمغ العربي الذي كان النافذة للرفع الجزئي للحظر الذي بدأ بالزراعة ومن ثم الدواء وآخرها رفع الحظر التقني، ورغم تأثير الحظر الأمريكي على الاقتصاد السوداني إلا أن السودان استطاع أن ينفتح على دول الخليج في علاقاته واستثماراته في محاولة لكسر الحظر، ولكن رغم ذلك يبقى الحظر الذي تعول عليه الحكومة كثيراً وهو قطع غيار الطائرات والسكة حديد، فمنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم حلت متغيرات كثيرة في اتجاه تراجع “واشنطن” عن موقفها المتشدد على السودان، وباتت على اتصال يؤمل الجميع في أن يكون بداية النهاية لإغلاق ملف الحظر الاقتصادي على السودان، وأن تعود “واشنطون” لتعتذر عن فعلتها حسبما ترى الحكومة فهل تفعلها أمريكا يوماً؟!.

المجهر السياسي