في كتاب أيام كارلوس في الخرطوم .. للكاتب عادل الباز
لا شك أن عنوان هذا الكتاب ( أيام كارلوس في الخرطوم , حكاية لم ترو) واحد من محفزات القراءة الأولى للكتاب . فالقارئ يعرف التفاصيل العامة لهذه الحكاية . ولكنه لا يعرف تفاصيلها الخاصة . وما جرى خلف الكواليس . لأن مثل هذه الحكايات , لا يعرفها حتى داخل السلطة إلا القليل مثلها مثل أغلب الحكايات التي تدور في أروقة المخابرات . لقد أحسن الأستاذ عادل الباز في اختيار العنوان , لأنه جاذب وحفز حتى للقارئ خارج دائرتنا , لأن أيام كارلوس في الخرطوم , لا يستطع معرفتها غير كاتب سوداني قريب من الدوائر التي تحكمت في وجوده وفي تسليمه للسلطة الفرنسية .
ولأن الناس والنقاد اختلفوا في أن يحمل الكتاب بطاقة الرواية , وقد تدارك الكاتب ودار النشر في الطبعة الثانية لهذا الكتاب , في أن يحذف كلمة رواية من غلاف الكتاب , ليترك للقارئ الحرية في إعطائه البطاقة الأدبية التي تناسبه . ولأن إعطائه بطاقة الرواية قد يقلل من مصداقيته الواقعية والتوثيقية التاريخية , لأن أي نص نطلق عليه لقب الرواية فيجب أن يكون فيه من الخيال القدح المعلى لذلك يطلق عليها النقد الإنجليزي لقب fiction وللكتابة الأخرى من غير جنس الرواية مصطلح non fiction . فالكاتب ليس من بنات أفكار الكاتب , وإنما هي أياماً حقيقية عاشها كارلوس في الخرطوم . ولكن لعل البعض يقول بأن فيها روح الرواية فهنالك سارد وراوي عليم , وهنالك تقنيات الرواية الحديثة , من الاستباق والعودة والتكبير والتجسيد . وهي ما نطلق عليه بتقنيات السينما في داخل النص الروائي . بل يمكن أن نطلق عليها لقب رواية سيرة غيرية , ولكنها قد لا تخل في ذلك بالمقياس الصارم لرواية السيرة الغيرية , لأن الخيال لم يخل فيها بصورة قوية .
لقد حاولت في دراستي هذه عن أيام كارلوس في الخرطوم , أن أستخدم منهج النقد الثقافي الحديث , بحيث لا يلتفت إلي جنسية النص أو بطاقته الخاصة بقدر ما يدرس دور القبول الخاص الذي وجده عند المتلقي بكل درجاته . ومعاملة الكتاب كنص , قد يخضع للأدبية وقد لا يخضع لها . فهو كنص حكائي في النهاية ( حكاية لم ترو ) , له حقيقته الجوهرية وله حقيقته التاريخية , وأيضاً له حقيقته الجمالية . وهنا يمكن أن نوظف النقد كما يقول أصحاب مدرسة النقد الثقافي قديماً وحديثاً , في مجالات أعظم من مجالات الأدبية فقط . وهذه الدراسة تتيح لنا دراسة الخطاب الموجه في كتاب ( أيام كارلوس في الخرطوم ) . وكيف تحول من إلي نص متعة وحفز للمتابعة حتى النهاية .
لقد تأثر هذا الكتاب بمهنة الكتاب , ولقد استطاع تحويله إلي خطاب إعلامي والذي هيمنت عليه ( الحكاية التي لم ترو ) . والتي رواها بصيغة الخبر المستوثق من حدوثه دون أن نطالبه بمصادره التي استقى منها حكاية كارلوس وأيامه في الخرطوم . ولقد صاغها بلغة السرد الروائي حيث تفاصيل المكان وحيث تصوير وتجسيد الشخصية تصويراً نفسياً بليغاً ورائعاً . ومن هنا يأتي الصدق الفني في هذا النص , حيث الإلتزام الصارم بلغة السرد والحكي والمتابعة الدقيقة لحركة الشخصية البطلة غير العادية حتى في داخل منزلها الخاص . ومن هذه الحركة ودقة المتابعة جرى تحفيز المتلقي ليكتشف حيوية الشخصية وممارسة إنسانيتها وحياتها العادية , لأن القارئ كان يعتبرها شخصية آلية لا تعرف غير التدبير والتخطيط , وسفك الدماء . فهو شخصية تحب وتخاف وتطاردها الهلاويس , ويشك , ويثق , ويقع أحياناً ضحية للثقة في المطلقة في الآخرين خاصة في النساء الجميلات . ولعل مصطلح ( حكاية ) يناسب تماماً هذا النص , فالحكاية قابلة أن تكون واقعية , وخيالية , وواقعية ممزوجة بالخيال . فمجهود الكاتب , وإبداعه يأتي في أنه يحكي لنا ما لا نعرفه , وما لا نستطع أن نعرفه لولا جهده الذي بذله في ترتيبها زمنيا ومكانياً , منذ دخول كارلوس الخرطوم بجواز عربي , وانتحاله شخصية رجل أعمال لبناني , وحياته في الخرطوم , ومتابعة رجال الأمن له , وحتى لحظة تسليمه للحكومة الفرنسية .
لقد أفلح الأستاذ عادل الباز , أن يحول نصه ويدخل به إلي مصطلح الأدب والأدبية , حتى لا يكون خطاباً إعلامياً جافاً . وحتى يخضعه لخطاب المؤسسة الثقافية , والتي ترى بأن الأدب له مواصفاته البلاغية والجمالية في خطابه الموجه للمتلقي . وقد كتب نصه بتقنية ( السيناريو ) , وهي ليست تقنية عابرة , وإنما كتابة سيناريست متخصص , وكلمة سيناريو كلمة يونانية تعني المنظر , أو المشهد ( scene) , فقد حول حكايته عن كارلوس إلي مشاهد مستقلة مرقمة , وكل مشهد رغم استقلاليته فهو يقودك إلي المشهد الآخر , رجوعاً وعودة . في 218مشهدا , يبدأ المشهد الأول بحياة ( كارلوس ) في مطار عمان , وينتهي المشهد الأخير بالكاتب يدخل غرفة كارلوس الخاصة بعد تسليمه وهو يفتش ويبحث عن الوثائق الخاصة التي تركها بعد ترحيله المفاجئ . ومن هنا يمكن أن نعرف كتاب أيام كارلوس في الخرطوم بأنه فيلم توثيقي مكتوب على الورق . فكأنما نرى شخصية كارلوس تتحرك حية أمامنا , وتمارس حياتها العادية . وهذا الفيلم الوثائقي المقروء هو من النصوص النادرة في بلادنا . إن المتلقي والقارئ لهذا الفيلم , يحس بتطور الأحداث , واندفاعها إلي الأمام بين كل مشهد وآخر . ورغم معرفتنا للنهاية , فالمتلقي كان مُشوقاً ليعرف البداية والتي أدت لهذه النهاية .
إن المشاهد لا تصور لنا أحداثاً متحركة فقط , وإنما كانت تبرز لنا ملامح الشخصية البطلة والشخصية الثانوية , ملامحهما الفسيولوجية والنفسية , مستخدماً تقنية الصوت والصورة audiovisuelle . لقد استفاد من تقنية الكاميرا , وتوظيفها في خدمة السرد والحكاية , فقد كانت الكاميرا تتابع شخصية ( كارلوس ) في مشاهد خارجية , ومشاهد داخلية , فالمشهد الخارجي يمثل شخصيته الرسمية الجادة التي دخل وتخفى بها , وهي شخصية رجل الأعمال اللبناني والذي يبحث عن مشاريع يمكن أن يستثمر فيها , والمشاهد الداخلية تصور شخصيته الحقيقية , وهي شخصية الإنسان الذي وجد نفسه في بلد غير بلده وقد لا يكون مرحباً به , ويمكن طرده أو تسليمه في أي لحظة . لقد قرأنا بهذه المشاهد الداخلية نفسية كارلوس واكتشفنا مواضع الضعف ومواضع القوة فيه .
وبما أن السيناريو , قد تحول إلي فيلم مكتوب , فقد تطلب لغة سينمائية متخصصة , فقد كتب بلغة سردية مشوقة ومثيرة , استخدم فيها أفعال المضارع المتحركة , والتي تحفزك لمتابعة الحدث حتى النهاية . وخاصة عندما ينقل الحوارية الدائرة بين الضابط السوداني وضابط الأمن الفرنسي وهي لغة مكثفة ومختصرة ولغة تفاوض علمية حقيقية , وعندما ينقل لنا الحوار الخاص والمكشوف والذي كان يدور بين كارلوس والضابط صلاح ونكتشف مقدرة ( كارلوس ) في الإقناع والتجنيد لصالح ما يؤمن به من أفكار ثورية وفلسفة نضالية , كان يؤمن بها من صميم قلبه . ولقد كان صادقاً وهو ينقل أحاسيسه وفخره بالشعب السوداني وهو يقول ( بأنهم أحسن العرب أخلاقاً ) . لقد سرد الكاتب عادل الباز , الحياة السرية الخفية للخرطوم , في ذلك الوقت , وهو يتجول مع كارلوس في أحيائها الراقية ويكشف حياة تلك المجتمعات الخفية غير الظاهرة في السطح . وهي تحتاج لأكثر من رواية للكتابة عنها . والسؤال هل يمكن للرواية أن تستفيد من تقنية السيناريو , وتقسم الأحداث إلي مشاهد بصرية مستقلة ؟ يمكن ذلك , فالروائي الذي يقرأ هذا الكتاب يمكن أن يستفيد جيداً من هذه التقنية في تجسيد الشخصية , وفي تحفيز القارئ للتركيز والمتابعة , ودرامية الحدث , إذا كانت رواية أحداث . ويأتي السؤال الثاني , هل يمكن أن يكتب الأستاذ عادل الباز رواية تقوم على الخيال fiction ؟ وأعتقد بأنه يمكن له أن يفعل ذلك , فلغته ساردة , وسلسة وطيعة , ومخزونه المعرفي والثقافي , مع خبرته في الإعلام وصياغة الخبر , وأسفاره الكثيرة تتيح له أن يصوغ رواية كاملة تقوم على الخيال الذي يمكن أن يتغذى من الواقع السياسي أو الاجتماعي . ولعل هذا الكتاب قد يفتح شهية الكتابة وفتح الكثير من الملفات لمعرفة تاريخنا السياسي الحديث منذ الاستقلال وحتى الآن , دون أن يضر ذلك بأمننا القومي . على أن تصاغ فنياً بتلك التقنية الرائعة التي كتب بها الأستاذ عادل والتي جعلت كتابه الأكثر بيعاً best seller , كما تقول الإحصائيات .
عز الدين ميرغني-الوان