العنف يعم المهن
تملي ظروف التعصب الرياضي على حكم كرة القدم “ستف” أن يكون جاهزا للعدو أبعد مسافة من ميدان المباراة بمجرد إطلاقه صافرة النهاية، ففي كل الأحوال هو عرضة لمواجهة مع جماهير الفريق الخاسر، ليس “ستف” وحده الذي يمارس مهنته في ميادين “الليق” ذات الحماية الأمنية الضعيفة، فاستادات أندية القمة أيضاً شهدت حوادث مماثلة إذ أن ما يتعرض له الحكام من عنف بدني ولفظي حتى وإن كانوا برأي الكثيرين ليسوا بريئين من انفجار “غضب الملاعب” عليهم، أمر يحتاج إلى نظر.
وحين كان يفترض دائما أن يكتفي الجمهور بتقريع الحكام بالعبارة الاحتجاجية الشهيرة “التحكيم فاشل”، فإن كثيرين منهم تلقوا لكمات (جامدة) من قبل اللاعبين أو نالوا حظهم من حصب الجمهور لهم بالحجارة أو قارورات المياه الفارغة، نزفوا بسببها أو أرسلوا إلى الحوادث والطوارئ، وفي أفضل الأحوال ينال حُكام مباريات كرة القدم حظاً وافراً من الإساءات والشتائم الشخصية بالغة الحدة.
في مقابل ذلك دائما ما ينتهي أمر العقاب إلى تسوية في عتبات الاسترحام فيواصل اللاعبون نشاطهم، وأقسى عقوبة نالها أحد اللاعبين لم تتجاوز الإيقاف لمدة عام، إذ بالتأكيد لم يتم إيقاف لاعب اعتدى على حكم مدى الحياة.
مهنة أخرى يكنى منسوبوها بـ”ملائكة الرحمة” طالتها حوادث العنف، طبيب في إحدى الولايات خدمته الصدفة بوجود مرافقين لمرضى أثناء إجراء عملية جراحية لسيدة قضت على يديه إثر مضاعفات نجمت عن العملية الجراحية، أهل المتوفاة لم ينتظروا ريثما يشيعوا الجثمان إلى مثواه راضين بقضاء الله وقدره، فمدوا أيديهم نحو الطبيب وأفرغوا فيه شحنات غضبهم بلكمات وركلات كادت تودي بحياته. وفي ظل الإفلات الدائم من العقوبة، والتسامح بعد مضي اللحظات الغاضبة، يمر الموضوع بسهولة. أقصى ما استطاعت أن تفعله المؤسسات الطبية المعنية بحماية أعضائها استصدار إقرار بالموافقة على إجراء العمليات الجراحية مشفوعا بموافقة أهل وذوي المريض حتى لا يتحمل الطبيب المسؤولية حال حدثت وفاة.
في مستشفى بحري أخرج مرافق لمريض مسدسه وأطلق عيارا نارياً على طبيب شاءت الأقدار أن لا يصيبه في مقتل، الحادثة مرت من تحت زحام الأطباء وزوارهم دون أن يتوقف عندها الوسط الطبي ويستدرك مصير “ملائكة الرحمة” أمام سطوة السلاح الناري.
والحال كذلك، وعند الاستدلال بما يتعرض له أصحاب المهن من عنف، علينا أن ننظر جيدا إلى الصحافيين، فعلى الأقل هم أكثر من يعانون العنف مقارنة بمنسوبي المهن الأخرى، إذ يواجهون صنوفا من التضييق وصلت حد القتل والشروع فيه، في غالب الأحوال يقع العنف على الصحافيين الذين يغطون الأحداث الميدانية، وعليهم أن يكونوا مستعدين تماما لجابهة مخاطر محتملة، أقلها، وهم يغطون حدثاً مثل مسيرة احتجاجية ربما تضطر السلطات لتفريقها بقنابل مسيلة للدموع، فإن عليهم حينها ان يوسعوا صدورهم لينالوا أنصبتهم من الغاز. حادثات اعتداء كثيرة اقترفت بحق الصحافيين ولو بصورة معنوية، ورغم أن هنالك نصوصا قانونية تمثل حماية للصحافيين لكنها بحسب رأيهم غير مفعلة، بل كثيراً ما يتم لي ذراعها لإدانتهم.
من مدينة بالولاية الشمالية ينضم أصحاب مهنة رفيعة لقائمة العنف، قاض في مدينة دلقو وسط محكمته الموقرة يتعرض لهجوم مباغت من أحد المتهمين حين أتى بحركة بهلوانية عابرة لمنصة الاتهام وأصاب القاضي الموقر إصابات بالغة، وفي الواقع لم تسلم حتى حراسة قاضي محكمة دلقو الجزئية من الهجوم الضاري للمتهم. مكمن الحيرة أنه حتى أصحاب القانون والقضاء الجالس أصبحوا مستهدفين بالعنف، بيد أن السلطة القضائية تفاعلت بسرعة مع الحادثة وطلبت تقريرا بها بحسب ما ورد في (آخر لحظة).
لا يمكن النظر لكل تلك الحادثات بمعزل عن الحالة السياسية العامة في البلاد، وبرأي كثيرين فإن هناك انتقالا سلسا لحالات العنف من مهنة إلى أخرى، وفي غياب إجراءات كافية وقوانين حماية صارمة لن يأمن أصحاب المهن من عنف متزايد ربما يأتي بكوارث في مقبل الأيام، وما لم تسن تشريعات وقوانين رادعة وناجزة فإن الأمر إلى تفاقم. وفي كل الأحوال يبقى قصور الإجراءات والتساهل مع المعتدين محفزاً للمواطنين على أخذ القانون بأيديهم.
تقرير – حسن محمد على
صحيفة اليوم التالي