حوارات ولقاءات

نعيد آخر حوار أجرته (ألوان) مع الراحل المقيم أستاذ الأجيال عبد الله عبيد

< أم درمان .. وحي المسالمة ذكريات الطفولة الحلوة حدثنا في البداية عن تلك الفترة؟ – ولدت بحي المسالمة عام 1929م … ولما بلغت السابعة من عمري لعبت الدافوري في شارع الشنقيطي وكنا نتبارى مع الأحياء المجاورة وبحكم قرب منزلنا من نادي المريخ كنا نداوم على مشاهدة تمارينه الرياضية ونعجب بلاعبيه أمثال حسن صباحي وشرفي ود أحمدية والزين هيلا .. وعثمان أبوزيد. < بماذا يمتاز حي المسالمة في ذلك الزمان ؟ – يمتاز باشياء قل أن تجدها في الاحياء الأخرى تجد فيه الكنيسة والجامع .. وتجد فيه مسيحيات متزوجات من مسلمين .. والهلال يعانق الصليب .. أنا جدتي (أم أبي) مسيحية اسمها (بلسم عوض) تزوجت من جموعي مسلم انجبت والدنا الذي أنجب 36 ولداً من أربع نساء. < الرياضة هل استحوذت على اهتمامك؟ – نعم كما قلت لك نادي المريخ يجاور منزلنا .. وكنا نداوم على مشاهدة التمارين واذكر عندما كانوا يمرون بنا وهم في زيهم الرياضي في طريقهم إلى الميدان شرق منزلنا مباشرة فنوقف اللعب ونسير من خلفهم وكنا نتشاجر في من يمشي على أثر الكبك الذي يرتديه اللاعب المعجب به .. ولا أذيع سراً أن قلت لكم إنني عشقت فريق المريخ الرياضي منذ ذلك التاريخ فأنا مريخابي بالميلاد بحكم أنني من مواليد حي المسالمة .. ففي ذلك الزمان كانت الفرق الرياضية تقوم على أساس الحي .. فمثلا معروف أن أكبر كتلة لمشجعي المريخ بحي المسالمة وفريق الهلال باحياء سوق أمدرمان .. وفريق الموردة الرياضي بحي الموردة ونادر جداً أن تجد مشجعاً في حي المسالمة يشجع الهلال أو مشجعاً باحياء السوق يشجع المريخ .. أو هلالياً باحياء الموردة .. وفي (دار الرياضة أمدرمان) والتي كانت الدار الأساسية للمنافسات نجد أن مشجعي كل فريق مفصولين من الفريق الآخر والمساطب الجانبية هي خليط تجمع بين كل المشجعين بحكم أنها أعلى الدرجات وأغلى الفئات وروادها مختلف المستويات في أواخر الاربعينيات اتصل بي الأخ عثمان الديم كابتن فريق الاخلاص الرياضي آنذاك .. وبحكم صلة القربى بيني وبينه طلب مني الانضمام لفريق الاخلاص الرياضي الدرجة الثانية الذي كان ابرز مؤسسيه في منتصف الثلاثينيات الإداري الرياضي الكبير عبد الرحيم شداد .. وبحكم التقدير والاحترام انضممت لفريق الاخلاص أمدرمان ولعبت به سنتان .. وكان فريق الاخلاص أحد فرق المقدمة في الدرجة الثانية وتجذب منافساته وتمارينه العديد من المشجعين وكاد أن يصل فرق المقدمة ومن ابرز لاعبيه عثمان الديم وآدم أب فرار وبابكر التجاني وسعيد خير الله (عوك) وسمي (بعوك) لانه أسرع لاعب في الجري بالكرة نحو المرمى وكان كلما استلم الكرة تضج جنبات الملعب بكلمة (عوك .. عوك ) ثم انتقلت بعد ذلك لفريق الموردة. < لماذا فريق الموردة وهنالك المريخ الذي تعشقه؟ – في أوائل الخمسينيات رحلنا من حي المسالمة لحي بانت فأصبح المشوار منها إلى فريق الاخلاص بحي القلعة للمشاركة في المباريات والتمارين يشكل عائقاً بالنسبة لي لبعد المسافة بين الحيين .. فاتصل بي أعمام واصدقاء عزاز من إدارة فريق الموردة منهم السادة النور مطر .. وعباس دياب وفرح حسن فوافقت على الفور وكان ابرز لاعبي الموردة على سبيل المثال لا الحصر (كابتن ترنة) وشقيقه يس وعمر عثمان موسكو وضرار في آخر أيامه وحامد الجزولي وشاويش جمعة والصافي والمحينة والحارس العملاق (ليمونة) وسمي بهذا الاسم لانه ما أن تصوب نحوه ضرب صاروخية يرفع يده اليمنى وبكل بساطة يقبضها باصابعه الثلاثة كأنه يقبض ليمونة. ظللت على مدى خمس سنوات لاعباً أساسياً بفريق الموردة لم أتغيب أبداً وكنت ألعب في الخانتين جناح أيمن وجناح أيسر وكان مشهوداً لي برفع الضربات الركنية العالية التي احياناً تصيب الهدف دون أن يلامسها لاعب واحيانا يقابلها ترنة بشواظه النارية أو حامد الجزولي برأسه فتسكن الشباك وكانت الفرق التي تنازل الموردة تعمل ألف حساب من رميتي الركنية حتى أن بعضهم اسماها (لمبة في خشم الباب). < ماهي المواقف الطريفة التي صاحبت مسيرتك الرياضية؟ – من الطرائف التي لا أنساها مدى حياتي مع فريق النجم الأحمر الروسي في أواخر الخمسينيات رغم أنني عزمت أن أكون في أحسن مستوى .. ولكنني على غير العادة كنت فاشلاً أضعت أكثر من فرصة وخرجت الموردة مهزومة وسنحت لي فرصة بأن أرفع ضربة ركنية عسى ولعل أذيل بها الفشل الذي لازمني .. وجاءت مخيبة للآمال ولم تكن (لمبة في خشم دكان) فما كان من مشجع الموردة الثاني عباس دياب إلا أن صرخ بأعلى صوته (الداير يلعب كورة ما يساهر الليالي في كتابة الشعارات في الحيط) وانفجر الاستاد بالضحك. < هل لعبت للفريق القومي؟ – في أواخر الخمسينيات برزت لأول مرة في تاريخ السودان فكرة تشكيل (فريق قومي) من مختلف لاعبي فرق المقدمة ليلعب ضد الفريق القومي الاثيوبي بأديس أبابا وكنت ضمن اللاعبين المختارين ليمثلوا السودان .. ضد الفريق القومي الاثيوبي .. ولكنني شلت هماً كبيراً لانني لا أملك اللبس اللائق للسفر مثل البدلة الكاملة والحذاء الأنيق والشنطة المعقولة لانني كنت موظف صغيراً بوزارة الزراعة (سكيل j) ولكن ربك رب الخير فقد استلمنا خطابات من الاتحاد الرياضي للتشاور في أمر سفرنا .. وسلموا كل منّا خطاباً لمحلات الترزي الشهير عابدين عوض ترزي القوات النظامية ليفصل لكل منا بدلة كاملة وخطاب آخر لمحلات الافندي أو مرهج أو ميرزا لا اذكر ليسلم كل منا القميص والكرفتة والحذاء والشراب وفعلاً (أدبجنا) تماماً كان الكثير منا لا يعرف ربط الكرفتة وكنت أنا شخصياً أحدهم فقد قام بربطها لي كابتن عثمان الديم ومنذ أن ربطها لم أفك عقدتها أبداً أوسعها وأضيقها عند لبسها ولم أخلعها محتفظاً بالربطة كما هي حتى عودتنا للسودان. وتجمعنا بالمطار ونحن في أجمل زي موحد بالبدل والكرفتات وكنا أول فريق قومي يغادر الى الخارج واستقبلنا الاتحاد الاتحاد الاثيوبي بالزهور والأطفال في المطار برتل من العربات الى أن وصلنا إلى الفندق ولعبنا المباراة التي كانت جيدة وانتهت المباراة بفوز اثيوبيا (2/1) سجل هدف السودان سليمان فارس حسب ما أمدني بذلك الناقد الرياضي المخضرم محمد حسن نقد ولكن الشئ الذي لا أنساه أن اغلبية المشجعين كانوا يشاهدون المباراة من قمم الجبال حول الاستاد بنفس المستوى أو أحسن من الذين داخله ولا أعرف أن تغير ذلك الوضع أم مازال مستمراً حتى الآن. < حدثنا عن رحلتك السرية للصين الشعبية ؟ – كان ذلك في عام 1954م .. ولكن قبل ذلك اجتزت امتحان الخدمة المدنية 1950م تم تعييني موظفاً برئاسة مصلحة الزراعة بالخرطوم وقبل أن أكمل العام الرابع في الوظيفة إذا بالحزب الشيوعي يفاجئني باختياري لامثل شباب السودان في مؤتمر الشباب الديمقراطي العالمي الذي أنعقد في بكين عاصمة الصين الشعبية عام 1954م. < مقاطعاً .. ولكن كيف تم تجنيدك للحزب الشيوعي؟ – في عام (1949-1950م) بدأت السياسة من خلال تكوين أول اتحاد للموظفين السودانيين وكنت أحد الاعضاء و(استمريت) في عمل النقابات بالتنسيق مع اتحاد نقابات عمال السودان .. وكان الاستعمار في أواخر سنواته والنضال في أوجه وكان الرئيس إسماعيل الازهري يمثل القائد الاوحد بالنسبة للقوى المستنيرة .. وكانت الفوارق السياسية واضحة وضوح الشمس بالذات بين كتلة الاحزاب الاتحادية وكتل الاحزاب الاستقلالية. وكانت القوة الحديثة من طلاب وشباب ونساء تحت مظلة الاتحاديين ونقود المظاهرات وكنا نلجأ لاندية الخريجين وكنا كلما نتلاقى في مظاهرة نحدد متى نتلاقى مرة أخرى ونعمل اجتماعات قبل المظاهرات ونحدد الهتافات حتى وجدنا أنفسنا داخل حلقة الشيوعيين مسارقة بالانسياب وبدأنا دراسة النظرية الماركسية والاشتراكية .. واستهوتنا المسألة من خلال الندوات التي تقام. < طيب ما حقيقة السفر الى الصين .. ولماذا السرية والغموض؟ – كما قلت لك اختارني الحزب للمشاركة في مؤتمر الشباب الديمقراطي .. وكانت مفاجأة سارة حملها لي الأستاذ الامين حاج الشيخ أبو .. وطلب رأيي فوافقت على الفور واعتبرتها فرصة العمر ولن تتكرر فطلب مني استخراج جواز سفر وتكملة التأشيرات والإجراءات لزيارة لندن في سرية تامة دون أن أبوح بذلك لأحد .. على أن أكون مستعداً في ظرف أسبوع للسفر .. بالفعل استخرجت الجواز واكملت الإجراءات واستلفت من الزميل المهندس مصطفى أبو عكر بحي بانت (جاكيت اسبور) لاننا في ذلك الوقت كنا في بداية السلم الوظيفي نلبس الرداء والقميص واحيانا نادرة البنطلون ولا يملك الموظف الصغير مثلنا في ذلك الزمن الصعب غير غيارين. وبعد انقضاء أسبوع وفي الوقت المحدد جاءني الأمين حاج الشيخ أبو بمصلحة الزراعة فكان عملي الرسمي طيلة أربع سنوات وأشار اليّ من النافذة فخرجت إليه مسرعاً وأنا فرحاً فبادرني بالسؤال هل أنت جاهز؟ فقلت له نعم مائة بالمائة فسلمني تذكرة الطائرة الخرطوم – لندن وسلمني بضع شلنات إنجليزية لأنه في ذلك الوقت كان السودان مستعمرة بريطانية مصرية وكانت العملة المتداولة هي العملة المصرية والإنجليزية لاركب بها التاكسي من مطار لندن حتى بيت السودان في (رطلنق قيت) كما اعطاني العنوان بالضبط لاسم الشارع ونمرة العمارة ورقم التلفون وطلب مني عند وصولي أن اسأل عن الزميل المهندس مرتضى أحمد إبراهيم وأسلمه الخطاب وأخبرني بأنه سيرتب لي الإقامة بلندن. < لماذا الهروب من السودان بهذه الكيفية وأنت في مهمة رسمية؟ – المهمة كانت حزبية سرية والعقبة كانت في شهادة الإجازة .. والمهنة المكتوبة في جواز سفري موظف بوزارة الزراعة وعليّ ابراز شهادة الإجازة عند المغادرة ولكن استطعت تجاوز ذلك بسلام وذلك بفضل الأخ مختار أحمد الشيخ في الزي الرسمي للخطوط الجوية وهو شقيق الشفيع أحمد الشيخ سكرتير عام نقابات عمال السودان فكان المنقذ لأنني التقيت به عدة مرات بمنزلهم بشندي فسلم عليّ بحرارة وسألني إلى أين .. فقلت له إلى لندن .. وتجاذبنا أطراف الحديث عن لندن والبرد. ولما سمع الموظف المسؤول عن فحص الجوازات وشاهد عمق علاقة زميله مختار بالمطار واستقباله الحار لي .. فأشر على جوازي وناولني إياه دون أن يسألني عن شهادة الإجازة فحمدتُ الله على السلامة وودعت الأخ مختار واتجهت نحو صالة المغادرة في انتظار على أحر من الجمر لسماع النداء المحبب الى نفسي (المغادرون على السفرية كذا .. على الخطوط الجوية المتجهة الى لندن أن يتوجهوا للطائرة وكنت اتخيل أن يداهمني رجال الأمن في أية لحظة ويعرقلوا سفري لأن المستعمر في ذلك الزمان كان يكتب على الجواز كل الأقطار ماعدا الاتحاد السوفيتي. < وهل كانت هي أول رحلة طيران؟ – نعم أول مرة اركب طائرة وكنت متحفظاً جداً ولا أريد أن أدخل في حرج .. وبدأ المضيفون يطوفون على الركاب بالأكل المجاني .. والمياه العذبة والشاي والقهوة وعربات صغيرة بها كل أنواع الخمور والسجائر. ونواصل……..الوان