عبد الباقي الظافر

الحلم المستحيل


أمسك قسم فرج الله بالصندوق الذي يحوي حبوب السيولة.. صب في يده اليمنى عدداً من الحبيبات تكفي لإنهاء حياة فريق من كرة السلة.. قبل أن يرسلها إلى جوفه دخلت إيمان إلى الغرفة البائسة.. انقضت على يده فتبعثرت الحبيبات كسنوات عمره الضائع.. أمسك بيدها متوسلاً أن تتركه يرحل من الدنيا بسرعة.. أخبرها كل شيء.. ذهب المال انزوت النجومية.. لم يبق من البطانة إلا الذين يطالبونه ببعض الدين.. أرادت إيمان أن تعترف ولكنها تراجعت في آخرلحظة.
زادت دقات قلب قسم .. تصبب العرق من جسده الناحل.. بات مثل لاعب كرة تمدد على النجيل الأخضر بعد انتهاء مباراة في غاية الأهمية.. طلبت إيمان عربة الإسعاف.. لأول مرة تجلس إيمان في حجره وتنظر إلى وجهه بمودة.. كان كلاهما يراجع مسيرة طويلة.. قسم هرب من الحرب الأهلية ينشد الأمان وهو ابن أحد عشر عاماً.. نام في الشارع واتخذ من الخيران مأوى.. انتهت حياته إلى خادم في منزل خضر التوم.. صاحب الدار كان يحسن معاملته.. ولكن بعد أقل من عام مات الرجل الطيب وبات قسم بعضاً من الميراث غير المرغوب فيه.. حظه ساقه أن يكون ضمن حصة الابن الأكبر مبارك.. أول قرار اتخذه الوجيه مبارك أن جعله من ضمن عمالة الفرن البلدي.. يعمل دون أجر معلوم.
إيمان مازالت تنظر إلى قلب سيدها الجديد.. كان الصدر يتحرك علواً وانخفاضاً مثل مهر أنهى جولة سباق ناجحة.. تلك المرة الأولى التي تنظر بإشفاق إلى قسم فرج الله.. حينما تمعنت تقاطيع وجهه وجدت وسامة لم تلمحها من قبل.. شفتان رغم غلظتهما إلا أنهما مملوءتان فحولة.. عينان تشعان ذكاءاً.. الفقر جعلها تقبل العمل سكرتيرة للرجل الذي كان يعمل صبياً في بيت جدها خضر التوم.. كلما أغدق عليها سيدها في المال كانت تقدم تنازلات.. طلب منها ذات يوم أن تصنع فنجاناً من القهوة بحجة أن العاملة حاجة علوية انصرفت مبكراً.. التنازل الأول تبعه ثانٍ وثالث.. ثم باتت التعليمات تجد السمع والطاعة.. تحولت إيمان من سكرتيرة إلى طباخة تقدم الطعام مصحوباً بالخمر.. قاومت كثيراً محاولة الوصول إلى شرفها.. ضحت بالكرامة واستمسكت بما هو أغلى.
لم يكن قسم فرج الله شريراً.. فقط كان يقاتل بصلابة من أجل استعادة كبريائه.. لم ينس أبداً أنه خرج من بيت مبارك التوم في ليلة شتوية تلاحقه اللعنات العنصرية.. عشرون عاما انقضت على تلك الحادثة.. هام على وجهه حتى دنى من مدرسة «كمبوني» بوسط الخرطوم.. استشعر بوجوده الحارس بشارة الفكي.. أحسن الرجل الستيني وفادة اليافع الذي يشاركه ذات الأصول القبلية.. في الصباح استلم وظيفة عامل نظافة في المدرسة العريقة.. كان يقف عند النافذة ليلتقط العلم.. لمحه وكيل المدرسة فحوله إلى طالب نظامي.. برع قسم في الدراسة وكرة السلة.. من تلك المدرسة حقق هدفه بأن يصبح ثرياً ليعود وينظر في عيني مبارك التوم بلا خوف ولا وجل.. لاشيء غير المال يجعل الإنسان محترماً في هذه البلاد.
عبر تصويبه الجيد سافر إلى أمريكا.. بات نجماً في فريق السلة بجامعة هوبكنز العريقة.. ادخر كل أمواله ليوم استعادة الكرامة.. جاء الخرطوم يبحث عن منزل مبارك التوم.. لم يجد غير الذكريات.. أفلس الرجل ثم مات على حسرته.. بعد طول بحث وتنقيب وجد ابنته إيمان التي اضطرت لقطع الدراسة بسبب ضيق ذات اليد.
حينما وصل قسم إلى مستشفى الشعب أدخل إلى غرفة العناية المكثفة.. بين الوعي واللا وعي دس في يد إيمان ظرفاً يبدو بالياً.. كانت إيمان تبكي بشدة.. كل شيء يألفه الإنسان حتى القهر والاستعباد.. من غير اكتراث فضت المظروف البائس.. شهادة تنازل من آخر بيت كان يمتلكه قسم فرج الله.. زاد نحيب إيمان وإحدى الممرضات تدفعها إلى الخارج.. أخذت على نفسها عهداً أن تتزوجه إن خرج من وعكته.