هاشم كرار : سكت الغنا.. والباقى بس ياهو الكلام!
هذه المقالة، هي «رجع الصدى» لذات المقالة بذات الاسم.. في اليوم التالي لرحيل الفنان السوداني الضخم محمد وردي.. ذكراه التي كانت قد حلت قبل أيام.
أطرب الحياة، وأطرب الموت..
الأخير، لم يرد أن يمدّ إليه، يده الباردة، من أول مرة. طاب له الجلوس إلى جواره، طروبا، في مستشفى فضيل لأسبوع كامل، وحين مدّ اليد الباردة، راح الامبراطور يغالب السكرات بالسلم الخُماسي، في ما أتخيل، و.. وراح الموت، يغني طروبا.. وراحت أودية صقيعه، وثلوجه، وارتعاشاته، ورجفاته، وذهوله، ورهبته، وسكوته، تشيل وراءه:: أحبك حقيقة.. وأحبك مجاز!
-2-
بكى العود. صرخت اللزمة. اتنخج الساكسفون. جعّر الطبل. سالت دموع الأورغن. الكمنجات، اتكن، بكن.. ولولت الأغنية، ترمّدت، لطمت خدا، شقا جيبا. منحّت حى ووي.. ووب حى.. راح النشيد يشيل الفاتحة.. الفاتحة، ووداللمين –من بين جُملة المغنين- وحيدو- اتحزم، واتلزم، وشال الهم.. شال هم كيف يشيل «كتف الغنا الميّل!
– 3 –
لم أكن في مقابرفاروق، والناس شتى، بين دعاء ودموع، ومنهم من يزرع وردي، في باطن الارض، نشيدا، وأغنية بالعربي الفصيح، والدارجية، والرطانة.
لو كنتُ، لكنتُ قد خرجتُ عن نص الدعاء على حافة القبر، كما خرج الفنان الكحلاوي، وغنى- ذات تشييع- على حافة قبر الكاشف: « وداعا روضتي الغنا.. وداعا معبدي القدسي!
ماكنتُ هناك، ليتني لوكنتُ.. ولو كنتُ، لكنتُ قد خرجت عن النص، أغني.. وأغني.. ولكان ودالشريف- أحد عشاق الامبراطور الكبار- قد شال معي:» باسمك الأخضر ياوردينا الأرض تغني.. الحقول ازدهرت وعدا وقمحا وتمني!
-4-
كما الرسم.كما النحت. كما التصوير. كما الشعر. كما الكتابة.. الغُنا عذاب!
لو كنتُ أعرفُ أن الكتابة عذاب، ما كنتُ لأكتب. ذلك حديث للطيب صالح، تذكرته على هامش حوار في الدوحة، مع وردي- وعينا المصور الفنان على عبدالرحيم يعذبها زووووم- ووردي يقول لي «قدري أن أتعذب بالغُنا حتى النهاية»!
الغُنا عذاب.. ووردي تعذب أكثر من نصف قرن، لنستعذب نحن الغنا الطاعم، كريق الحبيبة.. تعذب ليُرخي فينا أذنا.. ليشكل وجداننا.. ويشكل فينا وطنا «حدادي مدادي.. مابنبنيهو فرادي.. ولا بالضجة في الرادي.. ولا الخطب الحماسية»!
– 5-
عاش عبقريا. هكذ يقول صوته، ويقول انتخابه للأغنيات، وتقول ألحانه، وتقول موسيقاه.. وتقول وقفته المهيبة، إذ هو يشيل صدره، يمد من شأو صوته» كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل» أو يرخيه» لو بهمسة.. أو بنظرة.. قول أحبك!»
مات عبقريا.هذا مايقول به يوم تشييعه.. اليوم الذي اجتمع فيه جملة السودانيين، على بكية ودمعة ودعاء، وأسف أسيف!
– 6-
من لبنان لنا فيروز. ومن أم الدنيا لنا الست.. ومن فرنسا لنا أديت بياف.. ومن كل بلد في الدنيا لنا عبقرية غنائية.. وعبقريتنا للبنان ومصر وفرنسا، والدنيا بأجمعها، محمد عثمان حسن وردي!
عبقرية وردي، في قدرته الفذة، على جمع الأجيال على قلب أغنية.. على قلوب أغنيات. عبقريته في أنه ظل، لأكثر من نصف قرن، يصعد بالأغنية السودانية من قمة لقمة، دون أن يلهث، ودون ان ينحدر باللحون والإيقاع والمعاني.. دون أن ينحدر هو، وينحدر بنا!
عبقريته، في أنه- مثلا- جعلنا- أنا وابني- نجتمع حول أغنياته، في «زمن جايي، وزمن ماشي، وزمن لسه» دون أن أعود أنا سنين إلى الوراء.. إلى سنين مراهقتي، ودون أن يشاركني ابني أرق وسهاد وتعب وراحة حب مابعد الخمسين!
عبقرية وردي في دوزنة احساسي واحساس ابني معا.. أنا من جيل الخمسينات، وابني من جيل الألفية الثالثة.
يالله! ما أجمل أن نغني مع وردي- أنا وابني- بكل دقة من دقات قلوبنا لحبيبتين مختلفتين.. واحدة من جيل السبعينات، والأخرى من جيل الفيسبوك، وتغريدات تويتر.. نغني:« أول غرام، ياجمل هدية!»
أولم أقل لكم أنها.. تلك عبقرية وردي؟!
له الرحمة والمغفرة الرااحل الاستاذ وردي