ما بخاف من شيء برضي خابر المُقدر لا بُد يكون.. سيرة الشاعر الأُمي
كبراعته في نظم الشعر من (قاموسه) الخاص، الذي لم يكن لسواه من رفقائه في فترة ازدهار شعراء الحقيبة، الشاعر محمد علي عبد الله الأمي، كان ترزياً بارعاً اشتهر بحياكة الجلابيب البلدية و(قفاطين الألايجا) ومفردها قفطان، والألايجا نوع من الحرير الأبيض كان يجلب من بلاد الشام ومصر ويلبس فوق الجلابية يرتديه الوجهاء وعلية القوم. وكان أهل الأبيض والتي انتقل إليها بعد أن انفض سامر شعرائها، وانتقلوا إلى مدن السودان المختلفة في ستينيات القرن الماضي، ولد شاعرنا بحي الركابية بأمدرمان في عام 1918م، ويمت بصلة القرابة لفنان الجيل الخالد خليل فرح وعشا معه فترة من حياته، وكان من التقاة الذين اعتمد عليهم البروفيسور الراحل علي المك في تحقيق ديوان خليل فرح.. وكان شهما كريما وكانت داره منتدى للشعراء والفنانين.
شبح اللقب
ظل شبح لقب (الأمي) الذي طارد الشاعر طوال حياته ولم يتخل عنه حتى بعد رحيله، بل لم يشفع له التحاقه بالخلوة وتلقيه فيها مبادئ التعليم وحفظه بعض من القرآن، كان هذا اللقب سبباً في تجهمه الدائم، خاصة وأنه ألصق به وحده رغم أن عدد من شعراء الحقيبة كانوا (أميين)، لم يتلقوا قسطا من التعليم فيما عدا الخلوة، إلا أن الشاعر محمد علي كان شديد الغضب من مناداته بالأمي.
صاغ الأمي درراً رائعة من شعر الحقيبة وانتقل بعمله إلى مدينة الأبيض، وقضى بها جزءا كبيرا من حياته، ولقد شهدت عاصمة كردفان على أيامه ازدهارا كبيرا في الشعر والأدب، حيث عاصره بها الشاعر الكبير المبدع سيد عبد العزيز وحدباي عبد المطلب ومحمد عوض الكريم القرشي وحميدة أبو عشر، يقول أصدقاؤه ومعارفه إنه كان سريع الانفعال، ومع ذلك صاغ شعرا رقيقا للغاية مثال رائعته التي تغنى بها أمير العود حسن عطية (سألته عن فؤادى). “سألته عن فؤادي وعن سبب هيامه أجابني ما هو عارف / عشقته وجماله نظمته في فنوني / جفاني صدّ عني تركني لي شجوني”..
الدعابة والإخوانيات
كان محمد علي الأمى يتمتع بروح الدعابة وله الكثير من الإخوانيات، وكان الأمي مواطناً غيوراً زاهداً يستبد به الفرح، فعندما نال السودان استقلاله عام 1956م صاح، “زهر الحقول غنى في روضتو الغنا/ ورقصت غصون البان قوم ودع الآلام ما شئت أتمنى/ عيدكن صبح عيدين بلقاه اتهنى/ وطنك كسوة السود حرية حرة تسود”.
يعد الأمي أحد الشعراء العظماء الذين تميزوا بالرقة وجزيل النظم، ومن الذين كان لهم دور رائد في تطور الأغنية السودانية. وكان ممن نظموا غناء للحقيبة والغناء المعاصر، بل وشارك كشيّال (فردة كورس) في أول أسطوانة صدرت عام 1936م بصوت بشير الرباطابي، ونظم كثيراً من الأغنيات ذائعة الصيت منها: “مستحيل عن حبك أميل، سألتو عن فؤادي، عيون الصيد، اسمعني واشجيني، اسمعني نشيدك، هواك وهواي بي جاروا، أنت حكمة ولا أية ولا إنسان، ما بخاف من شيء برضي صابر والمقدر لابد يكون”.
المقدر لا بد يكون
لكن أغنية ما بخاف من شيء، تعد من الأغنيات ذات الدلائل الاجتماعية لحسن الخلق والرضا بالمقسوم من رب العباد، حيث يرجع البعض أن الأدب وحسن الخلق التي حوتهما القصيدة تعود لنشأة الشاعر في حي الركابية بأم ردمان وقرأة القرآن في سن مبكر حيث يقول مطلعها. “ما بخاف من شيء برضى خابر المقدر لابد يكون/ إن أتاني الهم جيشو دافر يلقى يا خلاي صبرى وافر/ يلقى عزمي التام ليه خافر ويلقى قلبي شجاع ما جبان”.
كان للشاعر الفضل في جمع الملحن برعي محمد دفع الله والمطرب عبدالعزيز محمد داود، وكان اللقاء بمدينة الأبيض، حيث كتب أول أغنية لحنها برعي لأبي داود، ومنها انطلق هذا الثنائي البديع، وكان ذلك من خلال أغنية (أحلام الحب) التي تقول: “زرعوك في قلبي يا من كساني شجون/ ورووك من دمي يا اللادن العرجون”.
تاج الأغاني
ويعد الأمي من أوائل الشعراء الذين جمعوا شعرهم وقام بطبع ديوانه الأول (تاج الأغاني) عام 1946م، ولم يسقه إلى طبع ديوان أشعاره سوى شاعر الدوبيت أبو عثمان جقود ديوان (السياحة النيلية في الأغاني السودانية) عام 1929م وديوان العبادي عام 1934م، وأشهر دواوين الأمي هو ديوان (أغاريد) الذي طبع ثلاث مرات.
اليوم التالي