أمير تاج السر : ما يفعله الإحباط
وأنا في الخرطوم، أشارك في الفعاليات الختامية لجائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي، في دورتها السادسة، والتي أضيف لها هذا العام محور أدب الطفل، إضافة لمحوري الرواية والقصة القصيرة الثابتين، اقترب مني شاب في عشرينات العمر، سألني بهدوء ولكن شممت رائحة غضب في صوته، عن روايته التي شارك بها في سباق الجائزة، ولم يرها فائزة بالرغم من تأكده بأنها لا بد ستفوز. أخبرته بضرورة نسيان أمر الجائزة، والانتباه لكتابته فقط ومحاولة تجويدها، وسيأتي اليوم الذي تكسب فيه أي رهان، معتمدة على جدارتها فقط، فلم يبد مقتنعا، لكنه لم يقل شيئا وانصرف. وفي مسابقة للقصة القصيرة، شاركت في قراءة قصصها، وتقييمها، منذ سنوات، واجهتني كثير من النتوءات حيث كان علي أن أحرر بعض القصص، قبل اختيارها، وتسميتها قصصا فائزة. كانت ثمة أخطاء كبيرة وكثيرة تشمل الجانب الفني واللغوي، وتبدو القصص في معظمها عبارة عن هلوسة، لا تعني أي شيء ولا تحمل فكرة، وغالبا كتبت على أمل أن تأتي بشيء من المال، لأشخاص يدخلون مسابقات أدبية، بنفس المؤهلات التي يعبئون بها ورقة اليانصيب. وكان أن تلقيت رسائل متتابعة من أحد المشاركين، بعد إعلان النتيجة، تحتوي على عبارات لا يكتبها الأدباء إلا داخل نصوص الشر، التي يؤلفونها. عبارات مثل السكين، والذبح، والطعن. عبارات المجزرة التي نقلتها للأدب، خسارة لواحد لم يكن كاتبا أبدا في حياته، ولن يكون كاتبا في يوم ما.
ولأنني أكتب بصورة دورية في إحدى الدوريات الثقافية، وهذه الدورية تصل إلى أماكن عديدة وبعيدة، تصلني دائما رسائل، من كتاب أو متعلقين بسكة الكتابة، تحمل القصص والقصائد، والدراسات النقدية، وحتى فصولا من روايات، تطالبني بنشرها، ولا أستطيع الرد، وتوضيح علاقتي بدورية لست فيها إلا صاحب زاوية أرسلها بالبريد الالكتروني، ولا شيء آخر. وحدث أن التقيت في دولة عربية زرتها مرة، بشاب أخبرني بأنه أرسل لتلك الدورية في خلال عامين، تسعين قصة قصيرة، ومئة وثمانين قصيدة، وأنه يكتب لها رسالة أو رسالتين في اليوم بحسب ظروفه، ويعد ما أرسله لها توثيقا شاملا لحالاته، وحالات حبيبته، وأهل بيته وشارعهم والحارة التي يسكنها، لكن مع الأسف، لم تنشر له شيئا حتى الآن، ويعاتبني لذلك. وضحت له علاقتي بالأمر التي هي ليست علاقة على الإطلاق، ورجوته أن يخفف من جهده في استهداف المجلة، لأن هذا الفيضان الذي يحركه نحوها، ضار بإبداعه كثيرا، ثم حكيت له قصة «حلحلوك» المجنون الذي كتبته في رواية لي، والذي كان يصيح في مجالس السلاطين، بشكل أسبوعي مطالبا بأن تقضى حاجته، فكان صياحه هو أكثر المواد إهمالا من الناس، بينما يأتي واحد يصيح لأول مرة، وينقل صياحه للسلطان داخل مجلسه، وربما تجاب حوائجه. بدا على صاحب الطوفان الكتابي، أنه اقتنع بحديثي عن عدم علاقتي بالمجلة التي أغرقها بإنتاجه، لكنه طلب توسطي من أجل أن ينشر له، وأصر على إطلاعي على نموذج لإبداعه المهمل، فلم أستطع الرفض، واستمعت لقصة قصيرة جدا، اسمها «دمعة» وكانت تحكي عن دمعة خرجت من العين من دون أي سبب وسارت على الخد، وسقطت. وقصة أخرى، تتحدث عن القصة ومكونة من سطر واحد: قررت القصة القصيرة جدا أن تكتب قصة قصيرة جدا، وقبل أن يخرج من دفتر الشاب نموذج ثالث، استدعوني لمغادرة مكان الفعالية، وكان أن تنفست عميقا بارتياح.
أيضا ومنذ عشر سنوات تقريبا، وفي الخرطوم، وكنت أجلس في صالة صحيفة محلية، أتحدث عن تجربتي المتواضعة لأحد الصحافيين، اقتحم المكان رجل في نحو الستين، يحمل حقيبة مليئة بالأوراق المكتوبة بخط اليد، قاطعنا بخشونة، وطلب من المحرر أن يستمع إلى قصائده المتجاوزة في عمقها وفنياتها لكل ما هو مطروح في الساحة، ومع ذلك ترفض كل الصحف على كثرتها أن تنشر له نصا واحدا. اعتذر المحرر بانشغاله هذه اللحظة، مع ضيف وسيتفرغ له حالما ينتهي، فضرب الطاولة بغضب وهو يصرخ: أنا أهم من الضيف. وكان أن طلبت من المحرر أن نستمع إليه، فلربما يكون مظلوما بالفعل من جهات النشر، ولديه ما يضيف لحركة الشعر، لكن المسألة كانت مخيبة للآمال بصورة مذهلة. القصيدة التي ألقاها، واستغرق زمن إلقائها نصف ساعة كاملا، كانت نثرا خجولا، وبلا أي مؤهلات لتصبح شعرا، إضافة إلى موضوعها الذي كان سيرة زواج فاشل لابنة الشاعر، من رجل لا يستحق إلا الشنق. لقد رصدت القصيدة المكتوبة بعامية سيئة محاسن الإبنة ابتداء من جمال وجهها، وطغيان أنوثتها، ومتانة عظامها بحيث يمكنها أن تسقط من جبل ولا تتكسر، إلى إجادتها طبخ الملوخية، وتحضير الفول بالزيت، وطبيخ القرع الذي لا تعرفه معظم النساء. وقبل أن نلتقط أنفاسنا من القصيدة الأولى، كان الشاعر يقرأ قصيدة أخرى، وهذه المرة عن زوجته، التي سماها عجوز الغابرين ويشكو للملأ في القصيدة التي تفتقر كسابقتها لمعنى الشعر، من اضطراره أن يقيم مع امرأة «ابنة كلب» كهذه، بحسب تعبيره.
ما أردت إيضاحه من تلك النماذج التي ذكرتها عن متذمرين يحسون بأنهم أبدعوا، وظلموا من الإعلام والناس ولجان محكمي الجوائز، هو ذلك الوهم الكبير الذي لا يصنعه الموهوم، وإنما عدد كبير من المحيطين به. معظم الناس أثناء فترات الدراسة، يخربشون على الورق، في ما يظنونه إبداعا، ويأتي الزملاء الطلاب ليشيدون به، وينتقل الأمر لمدرس اللغة العربية الذي يشيد هو الآخر بتلك الخربشات، ويجعل من صاحبها موهوبا بلا وجه حق، وتنتقل الصفة للحي الذي يسكنه المخربش، إلى جلسات الدردشة، في باحات البيوت وتحت أعمدة الكهرباء، وفي أيامنا الحالية، إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وتسمع كلمات مثل: رائع، خطير، متجاوز، وهكذا يقوم من يتلقى ذلك المديح بإغراق الصحف والمجلات بنتاجه، والمشاركة في مسابقات صغرى وكبرى. ويأتي رجل ستيني، قال أي كلام في وجود أصدقاء له، وصنفوه شاعرا، ليصرخ بصوت عال في صالة تحرير صحيفة، يطالب بحقه في نشر إبداعه المتجاوز لأي إبداع.
هذا النوع من الذين سطت فكرة العبقرية الكتابية على أذهانهم بفعل الشحن المستمر، غير قابلين للأسف لإرجاعهم مرة أخرى لنقطة الصفر، وتعليمهم معنى الإبداع، وأنك يجب أن تقرأ أولا، وتقرأ ثانيا وثالثا وعاشرا، لتعرف أن «اسم الوردة» للكاتب الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو، لم تصبح نصا عظيما بسبب دردشة في حوش بيت أو شارع مظلم، و»الأشياء تتداعى» لتشينوا أشيبي، لم تصبح أيقونة أفريقية من عبارات إعجاب مستهترة وضعت على موقع تواصل اجتماعي، و»الجميلات النائمات»، بفكرتها المدهشة، ومعمارها وجمال روحها وسردها، لا بد كتبها كواباتا من عمق موهبة، لا سطحية عدم موهبة.
أظن أيضا أن الإحباط، له دور كبير في تفريخ الشقاء الإبداعي، أو المسكنة الإبداعية، الممتلئة غرورا وغطرسة، فالحياة في هذا الزمن شديدة الإحباط، لا يوجد حلم سهل التحقيق ولا طموح، يمكن أن يصبح متكأ لطامح، معظم الطرق إلى أي تخيل أو محاولة تخيل حتى، مغلقة بأقفال صلدة من التعنت وعدم المبالاة، والوسائل المتاحة، هي اختراع الأحلام، وتصديقها، ومحاولة جعل الآخرين يصدقونها أيضا. ولأن الحياة ماضية في توفير التعاسة يوما بعد يوم، بسبب الحروب، والديكتاتوريات المغرمة بفرم الشعوب حتى النهاية، لن تتوقف صيغ الإحباط عن الظهور أبدا، ستظل مرادفة للعيش اليومي للناس. هناك محبطون يصورهم الإحباط كتّابا، هناك من يصورهم نجوما في الغناء أو التمثيل، ويوجد محبطون يرون أنفسهم أفضل من علماء الفضاء حتى وأصلح لقيادة الشعوب من زعماء متمرسين.
كاتب سوداني
أمير تاج السر