عبد الباقي الظافر

وداعا أيها الشيخ..!


“والدك رجل صالح يا صديق”..قلت تلك العبارة والساعة تشير إلى ما بعد الحادية عشرة مساء.. القصة تبدأ بتكليف غريب وضعه شيخ حسن على عاتقي قبل ثلاث سنوات..مصدر الغرابة أن الشيخ الترابي أوكل لي تلك المهمة التي ربما أفصح عنها إذا سمح بطلها من الضفة الأخرى، ولم تكن لي صلة تنظيمية بالمؤتمر الشعبي ..المهم حملت نتائج التكليف وأردت أن أنقل التفاصيل مباشرة إلى مسامع الشيخ ..تهت عن المنزل الذي أعرفه جيداً..كلما أحاول إصابة العنوان الصحيح أجد نفسي في المكان الخطأ..أخيراً قررت الاستعانة بدليل..أوقفت عربتي وترجلت نحو عربة سوداء أنيقة يتأهب صاحبها لتخزينها ..اقتربت من الرجل وإذا بي وجها لوجه مع صديق حسن الترابي..ضحكت وقلت له تلك العبارة ..مضينا سوياً أنا وصديق إلى الشيخ ..الساعة تقترب من منتصف الليل..هنالك تحدثنا عن المهمة التي من خلالها علمت باللقاءات السرية التي جمعت الشيخ الترابي مع الرئيس البشير.
قبيل شهر وتحديدا في الليلة الأخيرة من شهر يناير أخبرني صديقي إمام محمد إمام أن الشيخ يريد مقابلتك .. اتصلت على ثالثنا الصديق العزيز عثمان ميرغني.. حملتنا إلى دار الشيخ بالمنشية دابة الدكتور عبدالوهاب السيسي..ذات الحفاوة التي يتم بها استقبال كل الضيوف .. كوب من العصير أعقبتها مائدة عشاء مبسطة.. وقتها كان الشيخ مشغولاً مع ضيوف جاءوا من وراء المحيط لحضور فعاليات الحوار الوطني.. بعد قليل جاءنا الترابي بذات الحيوية .. دخل معنا في جدال ساخن حول الحوار الوطني..أغلظ علي غير مرة ووصف قراءاتي للحوار الوطني بأنها ساذجة، وأن لا بديل للتسوية غير هذا الحوار الرابح.. افترقنا ولم أكن أدرك أن تلك ستكون ليلتنا الأخيرة في رحاب الشيخ الترابي .
رحل الترابي بهدوء لا يشبه مسيرته السياسية الصاخبة..كان آخر همه توحيد الحركة الاسلامية ..آخر وصاياه كانت نهار الجمعة الماضية حينما تحدث عن الإيفاء بالعهود أمام رئيس الجمهورية في مناسبة اجتماعية ..في أكثر من مناسبة كان الشيخ يلوح بدنو الأجل ونحن لا نفهم ذلك..راهن على الحوار الوطني حتى آخر لحظة من حياته.. حاول جمع الصف جهد إيمانه.
رحلة الترابي الطويلة كانت مسيرة متصلة من التحديات.. جاء من فرنسا مدرساً للقانون بجامعة الخرطوم.. وجد أولى معاركه في إعادة بناء تنظيم الأخوان المسلمين التقليدي ..الخطوة الأولى كانت سودنة التنظيم وفك ارتباطه بالتنظيم العالمي بمصر.. قبل أن تنتهي معاركه في التحديث داهمته ثورة أكتوبر ..أطلق رصاصة الثورة الشعبية حينما كان يتحدث عن مشكلة الجنوب.. صالح مايو بعد أن قاتلها في دار الهاتف.. انقلبت عليه مايو دون سابق إنذار فمنحته صك البراءة بعيد الانتفاضة.
صنع الترابي ثورة الانقاذ بشعار أذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب إلى السجن حبيساً ..وحينما حادت الثورة عن الطريق أصبح أبرز معارضيها..بل إن الثورة التي صنعها من مر الذكريات منحته لقب أبرز السجناء وأطولهم إقامة في المعتقلات .. بذات الصخب عاد الترابي إلى تلاميذه أو عادوا هم إلى أحضانه.
نهار أمس كان الترابي يكتب آخر اجتهاداته في الحوار الوطني..خرج من البيت مبكراً..حينما داهمه الألم كتب اسم الطبيب الذي يمكن أن يداويه..لكن كانت الأقدار أسرع..رحل الترابي آخر نسخة عالمية من البضاعة السودانية.