ورحل آخر المفكّرين العريقين.. د. حسن الترابي !
كلما هممت بالكتابة سقطت يدي على أزرار المفاتيح رهَقاً ووجعاً ، فذاك عمر طويل امتد لنحو خمسة وعشرين عاماً ، كنا نجلس بعيداً عنه ثم اقتربنا منه لنكون حوله ، ثم كنا معه، ثم اقتربنا وابتعدنا ودارت بنا الأيام ، ولكننا بقينا نسمع له ونقرأ …
لم يكن يحب أن نكون تلاميذ يستمعون ويسجّلون ويرددون خلفه ، كان يبحث في عيوننا عن الأذكياء الواعدين ، الدائبين العاملين ، المنفتحين القانعين … كان يتفرّس في وجوهنا كالأسد الباحث عن فريسة لا ليصطادها بل ليضمها إلى حديقة الأسود من حوله .
لم يحب البابوية ولا استعلاء الجماعة على الجماعات أو الشيخ على المريدين ، أو القول على الأقوال ، أو الرأي على الآراء … كان يبحث عن المجتهدين المتفقّهين المتمكّنين العاملين ، يستمع لهم ويسمع منهم ويقرأ ردود أفعالهم ويرسم لهم ملامح الطريق ولا يكاد يعطيهم تفصيلاً إلا في أمر يكون حريصاً على التفاصيل فيه؛ كان دقيقاً لا تستغرقه التفاصيل ، مشهدياً لا يحب الخرائط الصغيرة ، يلخّص آراءه في أحكام نهائية قويّة السبك عميقة المدلول.
كان عنيداً يبلغ عناده حد القسوة ، نشيطاً مفرطاً في اجتهاده وسعيه ، عابداً يتعب العابدون من الوقوف وراءه ، وما أزال أذكر وقفاته ورائي وأنا أصلّي به في مسجد جامعة الخرطوم في ليالي السحر من رمضان ، وقد كان الشخص العظيم النفوذ في أواسط التسعينيات .
كان كتوماً كثير الصمت ، وإذا تكلم تكلم بقدرٍ بميزانٍ ، يَزِن كل كلمة، ويعني كل كلمة، وإذا لم تسعفه المفردات استخرج من القاموس العريض عنده كلمات تستطيل، لتتسع لمراده فهو الفصيح الألمعي الأديب .
كان كريماً مسرفاً في كرمه، لا تكاد تخرج من بيته إلا بمائدة كريمة تليق بمقامه وكرمه ؛ بشوشاً يملأ عينيكَ هيبةً وربما خوفاً إذ إن عينيه تتسللان بسرعة إليك ليكتشفك .
أراد أن يكون مفكِّراً عاملاً فلم يقبل أن يكون من هؤلاء المفكرين الذين يكتبون ويكتبون وينظّرون في بحر من الورق بلا تجربة ولا معركة، فخاض معاركه بنفسه، وعاش تجاربه كاملة، واستخرج منها رؤاه وأفكاره .
كان يخطئ كثيراً في مسيره الطويل، استطاع تصحيح أخطاء، وفاتته أخطاء ، واستدرك على نفسه كثيراً فيما ظنّ أنه أخطأ فيه أو جانبته الحكمة، فقد كان يعترف كثيراً لخاصّته بمواضع انحراف بوصلته .
لم يكن يحب الشذوذ رغم كثرة ما شاع عنه من فتاوى أغضبت الناس، فلم يكن يردّ عليها أو ينتصر لنفسه على أحد، فهو يرى آراءه في سياق عريض من الأفكار لا تنسجم إلا بتلك الأبنية التي يراها تنسجم مع تصوّره عن الإسلام ، وكان يقول لنا إنه لو فتح باب الجدال لأنشأ صيواناً واسعاً يدخل فيه الناس أكثر مما يخرجون، لكنه كان يقبل أن يناقشه عالم متمكّن، وقد شهدتُ على محاورته العجيبة للشيخ الدكتور عمر سليمان الأشقر رحمه الله في مسألة نكاح المسلمة من نصراني فاسمع الشيخ عمر منه ساعةً ، ثم سكتَ عنه إلا بكلمات فلمّا ألححتُ عليه أن يجيبه قال لي: يا بنيّ ! إنه صاحب حجة ، وله تأويل قوي ، ولكن قلبي لا يطمئن لمقالته ، وعندي كلام جمع غفير من الأقدمين ؛ وكل ما أستطيعه أن أنصحه ألا يجاهر بمخالفة جمهور أهل العلم حتى لو رأى في ذلك وجه صواب .
كان بعض مخالفيه من مريديه المقرّبين ممن بقي على حبّه له يقول لي: إن مشكلة الشيخ معنا أنه يسبق زماننا بمائة عام، وفاتنا بقطاره السريع، فأصبح الشيخ بعيداً عن الواقعية بتفرّده مما جعله لا يدرك الفارق الواسع بينه وبين واقعه ؛ وكان آخرون من خصومه الألداء ينصحون بعض أتباعهم ألا يقتربوا منه وإلا فُتِنوا به إذ هو أشبه بساحرٍ .
هناك الكثير مما يمكن قوله ، وقد أعددتُ لهذا اليوم الوجيع من قبل ، فجمعتُ الكثير من تجاربه الخاصة في مدوّنات ، وقرأت له وعنه ، وسمعتُ من خصومه وأصدقائه وأعدائه ، وهناك تجارب ثريّة في لجّة السياسة والمجتمع وغوامض الفكر، وعويص المسائل؛ أرجو أن أبيّنها بنقدٍ وتوضيحٍ لا مشاغبة فيها ولا معاندة لأحد .
هناك الكثير مما للشيخ الترابي ، والكثير مما عليه ، لكنه يبقى محطة فكرية استثنائية يجهلها كثير من مشايخنا وشبابنا وربما يعود الناس لقراءته بعد مضيّ زمانه فيختاروا من بين اجتهاداته مساراً مصوَّباً نافعاً .
بقلم الدكتور أسامة جمعة الأشقر
المدير العام لمؤسسة فلسطين للثقافة