أ.د. معز عمر بخيت

مصطفى السني”.. قصيدة اكتملت أغنية وملاذاً وتحدياً

أدهش فنان السودان الأول بأوروبا “مصطفى السني” الحضور السوداني الرائع بالبحرين حين شدا على عصب البين ومسافات التواجد بين أضلع المدى وآهات الاغتراب بأعذب أغاني الخلود في ذاكرة الطرب السوداني. ردد المطرب صاحب الصوت الأنيق “مصطفى السني” أغاني الزمن الشامخ في عرش الإبداع في وطني فهطل غيث المحبة وهجاً وعذوبة ونقاء. كان ذلك في أمسية حالمة أقيمت قبل عشر سنوات على قاعة (حوار) بفندق (كارلتون) البحرين وسط جمع طيب وحبيب إلى كل نفس مفعمة بالأصالة وحب الآخرين فازدانت الصالة بأجمل الحلوين. وعندما غنى “مصطفى” تحول الجميع إلى كرات ضوئية ملتهبة تناثرت في كل فضاءات الفرح بين ابتسامة الرضا وهمسة الزمن المشرق على الطريق. قدم “مصطفى” عدداً من أغانيه الخاصة فأكد أن ليل الفتح الساحر سوف يجيء، وكان أعذبها (حرب الكلام) كلمات وألحان “عثمان محيي الدين”، (أمي سلام) كلمات “عبد السلام ساتي” وألحان “نادر رمزي”، ثم أغنية رائعة الكلمات واللحن والأداء صاغتها الشاعرة “مي حسن أمين” التي يقول مطلعها: طولت منك أنا، يا سيدي كيف أمسيت.. وأصبحت سيدك مين، أنا لسة سيدي الريد.. وقاد سيمفونية الإبداع الموسيقي العازف الشاب “محمد بلال” فكان نجماً آخر في سماء البحرين.
استعدت هذه الذكرى وأنا أتابع بعض حلقات (أغاني وأغاني) في رمضان، التي كان “مصطفى” أحد نجومها، وهو ما تنبأت به منذ أمد طويل عندما كان يملأ ليالي أوروبا بصوته الفخيم ويحلق في مدن الضباب وسواحل القطب الشمالي وأرخبيل البلطيق ورفيرا البحر الأبيض المتوسط، فالتقيته على تلك المدن وعلى شواطئ الخليج وضفاف النيل الخالد حتى عاد لأرض الوطن، فأشرقت به شمس الأماني الساطعة. لذلك لم أجد أبلغ من ذلك اللقاء الذي أجريته معه قبل سنوات عديدة لأقدمه للقارئ الكريم كي يسافر عبر وجدان هذا المبدع من ذلك الحين وحتى تألقه القريب.
متوهج فيه الصباح وزاهٍ في فنه الراقي ربيع، متوسد عصب الجراح ورائع في كل إحساس بديع.. “مصطفى السني” أحد أبناء هذا الوطن الذين يتحولون في لحظات الدفء والدهشة المتعثرة بالبعد إلى دوائر متحركة ترسم خارطة الإبداع في شورع العتمة والاحتمال. قدسية الإلفة تسكنه وحبوب اللقاح تنتظره على مياسم الزهر والجنين المنتظر. يتوضأ السحر ليؤدي فريضة الإبداع لكنه لا يلتحف الغيم ستاراً بل تلتحفه حدائق الفرح ليمنحها خاتمة للصيف على ضفاف التيمز وهو يسجل كل حروف الإبداع السوداني على عاصمة الضباب والمشاتل الأخر. عكس الريح تسافر باتجاه الريح لتحتضن كل حقول التفرد المشتتة في زوايا الكرة الأرضية لتعيدها لحقول الوطن بكل ضفاف المحبة والتواصل المعتق. هو فصل آخر أفاء وعتق الدواخل بالجسارة وعطر التمني والاحتفاء.
التقيت بـ”مصطفى” في محطات كثيرة بأوروبا وهو يعطر سماء التداعي بأنفاس الحنين والشجن. كان آخر لقاء لي معه ببريطانيا حيث التقيته في مناسبات عديدة، بدءاً بلقاء متفرد بضيافة الأستاذ الصحفي الكبير– رحمة الله عليه– “حسن ساتي”، ثم بمدينة سوانزي بويلز ثم ببريستول بإنجلترا، وفي كل مرة كان يدور بيننا خلال فواصل الطرب عذب الحديث عن كل هموم الأغاني والرائعين بصحبة الضياع والفرقة. محصلة بعض تلك اللقاءات كان هذا المدخل للتحية والتعارف والتقديم لمتلقٍ بالوطن الحبيب يؤثره نديم الوتر والعشق النائم على وسائد الغربة، وإبداع بنيه في أمسيات تحلق خارج الحدود.
في لقائي به فاجأته بسؤال عادي يسأله كل سوداني عند التلاقي بسوداني آخر: من وين إنت يا “مصطفى” ودرست وين؟ فقال بهدوئه المعتاد: أنا من رفاعة، ودرست بالمزاد الابتدائية وبحري (1) المتوسطة وبحري الحكومية، ثم جامعة الملك عبد العزيز بالمملكة العربية السعودية– جدة بكلية الاقتصاد– محاسبة.
ثم سألته عن البداية وعن انطلاقته في عالم الغناء فقال: بدأت الغناء بالأناشيد المدرسية– تعلمت العزف على العود منذ أولى ثانوي عام -لم أدرس الموسيقى، ولكنني ثقفت نفسي بالقراءة أو بالاحتكاك بدارسي الموسيقى فتعلمت الكثير منهم .من السعودية كانت الانطلاقة (جدة)، حفلات الأعراس، الأعياد والمناسبات الوطني . انتقلت إلى بريطانيا عام 1993م، وكانت هذه انطلاقة أخرى، أشارك السودانيين كل مناسباتهم الخاصة والوطنية والأعياد وكثير من الجاليات الأخرى .
قلت له: أنت الآن خارج الوطن وأنا أعلم بمشاركاتك التي تحاول أن تكون لك من خلالها رسالة معينة.. فأجابني: نعم، فعلى الجانب الآخر، مشاركاتي للمساعدة في نشر الموسيقى السودانية وتطويع الأذن الأجنبية للتمتع بها، فقد شاركت في عدة مهرجانات ممثلاً للسودان ومنها على سبيل المثال:
Institute for African alternatives, The Medical foundations, United Nations Association, Children in need, Coin st. festival
كما سجلت بعض الأعمال في (CD) المكتبة البريطانية – من التراث، وأجريت معي عدة مقابلات إذاعية في الـ(BBC) العربية والإنجليزية وأيضاً في إذاعات عربية.. وسجلت أسطوانة لـ The Medical Foundation . وهي تحوي أغاني لعدة مطربين من أغلب أنحاء العالم مع قراءات شعرية، ومن ممثلين وإعلاميين وكتاب وشعراء بريطانيين لدعم المنظمة، وقد شاركت بأغنية من كلمات وألحان “بشير القمر” اسمها (أسمر يا مغرور). سجلت أيضاً أسطوانة (CD) في عام 1996م لشركة تهتم بالتراث والفولكلور (Nimbus) Rec عود وإيقاع.
وشاركت في مهرجان أقيم بجامعة (درم) في أسبوع عن السودان، سمنارات ونقاشات، شاركت مع الأستاذ “السر قدور” وكنت أقدم نماذج غنائية عن الحقيبة بينما كان هو يستعرض تاريخ الغناء السوداني. وهذا الأسبوع دعي له كثير من المثقفين من داخل وخارج بريطانيا، سودانيون وأجانب.
كما قمت برحلات كثيرة داخل بريطانيا لزيارة عدة مدارس ابتدائية ومتوسطة لتعريفهم بالأغنية الأفريقية عامة والسودانية تحديداً، وقد لاقت الموسيقى تجاوباً لا يصدق من الأطفال فيها وخارجها (السويد – فرنسا – إيطاليا – سويسرا – هولندا – أيرلندا – فنلندا – أمريكا وكندا)، وسجلت بعضاً من أغاني الحقيبة – سيرة – دلوكة – وغناء خاص، والآن بصدد تسجيل (شريط) به أغانيّ الخاصة مع أوركسترا (فرقة كاملة).
سألته: مع من تعاملت من الشعراء؟ فقال: تعاملت مع عدة شعراء وملحنين، منهم على سبيل الذكر الأستاذ “عبد الله محمد الزين”، “بشير القمر” (شاعر وملحن)، “نادر رمزي”، بروف “معز عمر بخيت”، “مي حسن أمين”، “أسماء الطيب الجنيد”، “عبد السلام ساتي”، الموسيقي والملحن والشاعر “عثمان محيي الدين” و”عز الدين طه” .
وعن أغانيه الجاهزة والملحنة الآن قال: (أمي سلام) كلمات “عبد السلام ساتي” وألحان “نادر رمزي” منها: (أمي سلام كتر الشوق أعاين ليكي طول الليل.. أوسد راسي في حضنك غلبني الشيل)، و(غلطان أنا) كلمات “بشير القمر” ألحان “مصطفى السني” تقول: (غلطان أنا وخاني الحرف العلمك كتر الولف قلبي من حباك عرف كيفن يكون بكره الندم كيفن يكون عمق النزف)، و(حرب الكلام) كلمات وألحان “عثمان محيي الدين”: (ساكت بدت حرب الكلام يوم قالوا عنك مبتدي في الريد ومابتعرف غرام.. يا قلبي ليه سديت مداخل الحب وسديت المسام)، و(طلت) كلمات “عز الدين طه” ألحان “مصطفى السني”: (طلت زي الضو العظمى مسام العتمة ونشر الفرحة وزي اللون النفض الريشة وقام بي دورو تجاه اللوحة وزي الطل الراقص نشوى لمن حضن الوردة السمحة)، و(الزول أمير) كلمات “عبد الله محمد زين” ألحان “نادر رمزي”: (يا قلبي سامحو وأعذرو لسه صغير جاهل هواك ما قدرو الزول)، (يا طيب) كلمات “مي حسن أمين” ألحان “مصطفى السني”: (طولت منك أنا يا سيدي كيف أمسيت.. وأصبحت سيدك مين، أنا لسه سيدي الريد)، (قدري) كلمات وألحان “عثمان محيي الدين”: (أصلوا بعادك كان قدري.. عشان نتلم ونكسر حاجز الخوف من بكره، وكان ده طريقاً اخترناهو.. مافي بديلاً ليهو وفكره.. ده كان قدري) و(يا حارمني وصلك بغيابك) كلمات ألحان “عثمان محيي الدين”: (يا حارمني وصلك بغيابك، داسي الريده أيه أسبابك.. فضلت كتير واقف على بابك، أيه ذنبي أنا من أحبابك).
ثم سألته: ماذا تفعل خارج أطر الموسيقى والغناء؟ فأجابني: أعمل في منظمة خيرية (المركز السوداني للطفولة) برئاسة الأستاذة “منال خوجلي”، أعمل سكرتيراً للمركز الذي يهتم بنشأة الطفل في المهجر ومحاولة ربطه بالسودان وبالعادات والتقاليد ودراسة (العربي) و(الدين)، وتعليم الأطفال الموسيقى أيضاً والرقص السوداني الأصيل ممثلين جميع أنحاء السودان. وهذا المركز شارك في كثير جداً من المناسبات السودانية وغير السودانية ونال الاستحسان.
وعن ماذا يفعل الآن، قال: أعكف هذه الأيام على تجويد الأغنيات الجاهزة لدخول الأستوديو قريباً لتسجيلها وأريد طرحها في (شرائط) وأقراص (CD).
يبقى أن نقول إن هذا المدخل التعريفي هو مجرد إشارة لمبدع في ذاكرة الضوء، وإن “مصطفى السني” فنان حقيقي له صوت جميل ورخيم وذو أبعاد سداسية، وهو ملحن وعازف، وهو نجم الغناء السوداني الأول في غرب أوروبا خاصة بريطانيا. ورغم غيابه الطويل عن السودان الذي لم يزره منذ عام 1993م – 2004م إلا أنه نقل كل مرافئ الإبداع في شرايينه من وطن ينام على مدد المحنة لبلاد كانت هي الدوار والعافية، وهو قادم للوطن عما قريب فانتظروه لأنه بكل بساطة دفء خاص شهدت له كل أرصفة الوله والترقب والصباح.

{ مدخل للخروج
عصفورك غرد في بابي
فانشق القمر بنافذتي
معشوقك أسمو من ولهي
مقتولك أحيا في موتي.

(أرشيف الكاتب)

تعليق واحد

  1. فعلا …أيقنت أني قد قرأت الموضوع من قبل …وقبله أيضا

    أحسست إنك تنبش دفاترك القديمة وتبحث في الأرشيف

    هذا ما يفعله المفلس !!

    ولا أصدق أن ينابيعك الثرة قد جفت …

    ينابيعك يا ودعمر تنبثق من قلب الجبال النائمة في حضن الذاكرة ….

    من جوف الموهبة الضاربة في عمق الروح

    فلماذا تقلب القديم ونحن نتزود بإبداع الحاضر ونستشرف لهفة للقادم ؟