عبد الباقي الظافر

خرج الحبيب ولم يعد .. !!


قطعت قناة الدار برنامجها المعتاد لتعلن اختفاء الباحث الجيولوجي الدكتور حبيب الأزرق..مراسلة صحيفة وسط المدينة جاءت بآخر التفاصيل ..كان الأزرق يدرس عرضاً من شركة أوربية للعمل في معملها المركزي في باريس..والدته الحاجة سكينة المدني أبدت اعتراضها على الفكرة فيما كانت زوجته مديحة الباقر أكثر حماساً من زوجها.. أرسل الأزرق إيميل قبل اختفائه يطلب من الشركة إمهاله أسبوعاً للتفكير ولكنه لم ينتظر الرد.. كان آخر ظهور له داخل منزله الصغير المكون من طابقين عند الرابعة ظهراً إثر عودته من العمل.. طلب من زوجته إعداد وجبة الغداء ثم صعد لوالدته في الطابق العلوي ودس في يدها بعض المال..ثم ولج إلى مكتبه وترك مفتاح العربة والهاتف السيار.. مرت أكثر من أربعة وعشرين ساعة من الغياب وبعدها اضطرت الأسرة لإبلاغ الشرطة.
لم يكن احد الناس يتوقع أن تنتهي قصة نجاح حبيب بهذا الغموض..ولد حبيب الأزرق في قرية عند منحنى النيل .. تزوجت والدته التاجر بمدينة توريت بجنوب السودان.. حاج أحمد الأزرق أمضى مع زوجته ثلاثة أشهر ثم سافر إلى مقر عمله على أمل أن تلحق به زوجته لاحقاً ..حينما اكتملت الإجراءات والترتيبات كانت الزوجة حبلى فاقترحت الأسرة أن تبقى سكينة بينهم حتى تضع حملها.. قبل ان تفرح الأسرة كانت أحداث توريت التي شهدت عنفاً إثنياً تحمل أخبار مقتل أحمد الأزرق..جاء الابن إلى الدنيا يتيماً وكتب عليه أن يعيش فقيراً لأن الفوضى لم تخطف روح الأب بل تم إحراق كل الثمرات والثروات.
رفضت سكينة المدني كل عروض الزواج وتفرغت لتربية ابنها الوحيد وكانت تحلم كغيرها من الأمهات بأن يصبح ابنها طبيباً شهيراً..حينما اشتدت ضغوط الحياة هجرت سكينة المنزل الريفي وجاءت لضواحي أم درمان لتبيع المأكولات الشعبية في الأمسيات على قارعة الطريق.. كان دائماً يجلس بجانبها ابنها الصغير ذو العشرة أعوام ليحرسها من أصحاب الغرض.. في ذات الوقت يساعدها في توزيع طلبات الجمهور.. حينما يقل عدد الزبائن كان حبيب يمسك بكتاب بات متسخا بسبب بيئة المكان.
في ذلك المساء المظلم كان حبيب يقف أمام أحد البيوت المجاورة للمكان الذي تبيع فيه أمه الطعام.. شده صوت صادر من تلفاز تحلقت حوله الأسرة.. بات يسترق السمع إلى مسلسل مصري يضج بالحياة.. بعد دقائق كانت صبية موفورة العافية تماثله سناً تخرج من الباب في طريقها إلى الدكان المجاور.. فر حبيب هارباً ناحية امه ..حاولت الصبية إيقافه ولكنه كان خائفاً.. تبعته الصبية إلى حيث أمه.. دقائق و سادت الالفة بين صبي في العاشرة وطفلة في الثامنة.. بعدها عادت الصبية ترافق الغريب إلى المنزل ..حينما انتهرتها أمها كان والدها يربت على رأس اليتيم.. من ذلك التاريخ نشأت علاقة بين حبيب وزوجته لاحقاً مديحة الباقر.
منذ اللحظة الأولى لم تكن بائعة الطعام مرحبة بخطوات التقارب بين ابنها والعائلة مستورة الحال بمقاييس ذاك الزمان.. خشيت على ابنها من المقارنة بين شظف عيشه ودعة الآخرين.. حاولت كثيراً ولكن الفتى كان يتسلل بين الحين والآخر ليشاهد المسلسل اليومي.. حينما بلغ الثانوية كان يقضي غالب يومه مع الأسرة البديلة بسبب توفر خدمات الكهرباء .. تلك الأسرة لم تكن تفعل كل ذلك في سبيل الله فقد رأت في نبوغ الحبيب بما يشىء بمستقبل باهر.. ولم تكن للنبوءة غير أن تتحقق .. الإذاعة تعلن حبيب أحمد الأزرق العاشر على مستوى السودان .
درس حبيب بكلية العلوم بجامعة الخرطوم.. تصدر دفعته ولكنه رفض إكمال الدراسة بكلية الطب مفضلاً تخصص الجليوجيا.. تزوج من مديحة الباقر فور تخرجه.. بدأ يحصد النجاحات.. في عام أنجز الماجستير في إنجلترا .. ثلاث أعوام أخرى أنهى فيها الدكتوراة متخصصاً في معدن اليورانيوم النادر بجامعة باريس.. رفض الغربة ليعيش بين قلبين عشقهما.. أمه الحاجة سكينة وزوجته مديحة ..الجمع بين السيدتين لم يكن أمراً يسيراً.. كلاهما تعتقد يقيناً أنها صنعت مجد حبيب الأزرق .. ظن حبيب أن توفير المال يقلل المشكلات باعتبار أن الصراع اصله على الموارد.. كلما اجتهد في ذلك زاد أوار المشكلات..حينما يصعد لمقام أمه يجد الدموع تملأ عيونها.. حين يهبط لمقر زوجته يجدها تبكي شاكية جور أمه مستشهدة بأولادها.
عاد حبيب في ذاك اليوم وفي نيته أن يحسم الصراع.. كانت فكرته تتركز في بيع المبنى الأنيق وشراء منزلين تبعد بينهما مسافة ورفض فكرة الاغتراب .. اعترضت زوجته على الفكرة.. حينما أبلغ امه انفجرت غاضبة بمظنة أن ابنها يريد أن يتخلص من همومها.. خرج الدكتور حبيب من منزله بنية ألا يعود إلا بعد أن يجد حلاً.