منوعات

المسحراتي أحد رموز رمضان.. صمود التقليدية رغم الحداثة والعصرية


ياصائم قوم اتسحر … ياصائم وحّد الدائم …..رمضان كريم ..الله اكرم ، عبارات تكاد تكون اقرب الى الموسيقي المحببة الى نفوسنا تحمل في مضمونها الكثير من الذكريات وترتبط ارتباطا وجدانيا وثيقا بطقوس رمضانية متوارثة، منها مدفع الافطار وطبل المسحراتي .
على الرغم من أن المسلمين في كل بقاع العالم يتوحدون في صوم شهر رمضان، فإن لكل دولة عاداتها وتقاليدها في استقبال الشهر الكريم، والاحتفال به.
إن جاز التعبير فإن أول مسحراتى في التاريخ الإسلامى هو بلال بن رباح مؤذن الرسول صلى الله عليه وأله وسلم، حيث كان يطوف بالشوارع والطرقات لإيقاظ الناس بصوته العذب الشجي طوال ليالي رمضان، وقال رسول الله صل الله عليه واله وسلم فى ذلك (بلال ينادي بليل فكلوا وأشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم) والذي كان يتولى إقامة آذان الفجر.
ومنذ ذلك التاريخ أصبح المسحراتي مهنة رمضانية، ومن أشهر المسحراتية في عهد الإسلام الزمزني في مكة، الذي كان يصعد إلى المئذنة معلناً من فوقها بدء السحور، وفي كل مرة يكرر فيها النداء، كان يدلي بقنديلين كبيرين معلقين في طرفي حبل يمسكه في يده حتى يشاهدهما من لا يسمع النداء.
في السودان ظل صوت المسحراتي مرتبطا في اذهاننا بذلك الشخص الذي يحمل هم ايقاظنا لتناول وجبة السحور وهي من أهم وجبات الشهر الكريم لقوله صل الله عليه وسلم (تسحروا فان في السحور بركة ) مما يجعلنا مدينين له بالعرفان والتقدير، وهو يدق على طبله والالآت المصاحبة له من النحاس والبلاستيك والآلات التي تصدر صوتا رخيما .
مهنة المسحراتي احدى الطقوس الرائعة والجميلة خلال رمضان في السودان.. والمسحراتي نجم في الريف رجل اجتماعي مميز، يحبه الأطفال ويفرحون لسماع صوته عندما ينادي بصوت رخيم، ضارباً طبلته (يا صايم قوم أتسحر)، بما يضفى لوناً خاصاً على الأجواء الرمضانية ويتبعه عشرات الشباب بالتصفيق والأناشيد.
والمسحراتي في الخرطوم يقوم بواجبه نعم.. ولكن لا يتمتع بما يتمتع به المسحراتي في الريف، ففي الأحياء الراقية والبنايات الفاخرة لا يهتمون بالمسحراتي كثيراً، وتمر ساعة السحور كأي ساعه عادية من اليوم، الأمر الذي جعل رغبة التجوال عنده ضعيفة وسط هذه الأحياء.
ففي العاصمة لا تسمع سوى (طرق النوبة)أي ضرب الدُف وأغلب الناس يستيقظون على صوت التقنية الحديثة، عكس الريف فان غاب المسحراتي قد تغيب وجبة السحور عن كثير من المنازل .
أما في الأحياء الشعبية والطرفية بعواصم الولايات نجد أن ملامح المسحراتي تأخذ من الريف الكثير، وعليه يمكن القول إن المسحراتي نجم اجتماعي يتلألأ في سماء الريف بينما يفقد بريقه في العاصمة .
الآن اين المسحراتي؟ اين ذلك الطبل الذي يشارك في طرقه كل شباب الحي بنشاط وحيوية؟ وعندما يشعرون بإضاءة البعض لأنوار منازلهم أو حين يشعرون أن أهل الدار قد استيقظوا لتناول وجبة السحور والتي غالباً ما تكون عبارة عن تمر وزبيب وأرز وحليب يزيدون من إيقاع طبلهم ونغمتهم التقليدية (يا صائم قوم اتسحر).
ومع التطور المتسارع في مجال التقنية وتوفر الاجهزة الذكية في كل بيت نري أن المسحراتي نفسه قد هجر طبله وادمن الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي وربما يكون قد ضبط ايقاع طبله مع احد البرامج او مايقدم علي تلك القنوات او تغريده علي تويتر او فيس بوك او واتساب .
في الماضي كان المسحراتي مهنة يتوارثها الأبناء عن الاباء والاجداد الا ان ظروف الحياة والهجرات الداخلية والخارجية حالت دون ذلك
والان هل اختفي دور المسحراتي في القرى والارياف أيضاً ؟ أم أنه مازال حاضرا لواقع يقول أن هذه المهنة قد قفدت بريقها!!! وفي طريقها للتلاشي إلاّ من بعض نشطاء الشباب في الأحياء القديمة والعريقة داخل العاصمه والمدن الكبيرة.
أحد مسحراتيه مدينة امدرمان العريقة وفي حي الهجرة كان المرحوم الحاج سالم بشير مصطفي من شباب الختمية ورث المهنة عن ابيه ومن بعده إبنه المرحوم عبد المحمود سالم ومن بعده واصل أبناء أخته ياسر وناصر وسالم ابراهيم المهنة وبعد أن انتقلت الاسرة الى مدينة المهديه لازال الاخوة يقومون بايقاظ سكان الحي مستعملين الطبلة والالآت المصاحبة يساعدهم بعض شباب الحي النشطاء.
ويقول ياسر أنه عشق هذه المهنة وكان يرافق خاله هو وشباب الحي الصغار بحمل الطبول والادوات الصغيره ويسيروا خلف خاله الذي كان يحمل الطبل الكبير مرددين بعض المدائح النبوية والانشاد الديني يجوبون الشوارع فرحين ويخرج لهم سكان الحي من نساء ورجال واطفال يبادلونهم التحية ويقدمون لهم العصائر والتمر والرقاق باللبن والارز . وقال ياسر إنهم لا يزالون محافظين على نهج جدهم وخالهم إلاّ ان بعض الأناشيد والمدائح تغيرت مع التطور الذي طال كل شئ ولكن مايرددونه لا يخرج عن الإطار الديني والاخلاقي احترماً للمهنة وتقديسا للشهر الكريم.
ويرى ياسر أن المهنة لازالت تحمل بريقها كما كانت في الماضي رغم التطور فقد يحتاج الصائم لمن يذكره وقت السحور حتى ولوكان مستيقظا عندما يسمع صوت الطبل يتذكر ان وقت السحور قد حان وان الناس لايمكن ان يستغنوا ابدا عن صوت المسحراتي الرخيم وآلاته المصاحبة مع وسكون الليل والتي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بجمال وعظمة هذا الشهر الكريم، وتهرب الكلاب واللصوص عند سماعها فتكون الشوارع هادئة وآمنة، وحتى الاحياء الراقية في مدينة امدرمان يقوم بعض شباب الاحياء القديمة المجاورة لها بالطواف وايقاظ أهلها إلاّ أن التجاوب لايكون بالصورة المطلوبة.
ومن الطرئف والنوادر انه في كثير من الأحيان يكون مستغرقين في الانشاد والضرب على الطبل ويسرقهم الزمن حتي يسمعوا الآذان الاخير من غير ان يتناولوا شئ او يكونوا بعيدين من منازلهم مما يضطرهم شرب ماء فقط من أقرب سبيل وقال إنهم يبدأون دائماً من الساعة الثانية والنصف الى الآذان الأول، وذلك خلال الاسابيع الثلاثة الاولي من الشهر الكريم بنفس القوة والحماس ويقل نسبيا في الاسبوع الاخير وذلك لان الناس مستيقظين بطبيعة الحال لصلاة القيام او الذهاب للاسواق .
أما في مدينة عطبره بولاية نهر النيل فكان للمسحراتي رأي آخر : طارق عبد الله محمد احمد ورث المهنة وعشقها منذ الصغر عن جده وابيه واعمامه يساعده شباب الحي النشطاء : محمد عوض محمد وعلى عبد الإله واحمد المصطفى محمود قالوا إن الوضع في عطبره يختلف وذلك بعدم تجاوب سكان بعض الأحياء مع المسحراتي وأن أغلب الأحياء لا تحتاجه لان اهلها مستيقظين بطبيعة حالهم ، إلا أن هناك بعض الأحياء الطرفية في مدينة عطبره تعتمد على صوت المسحراتي اعتماداً كاملاً.
وقال طارق الذي ورث المهنه انهم مستمرون بنفس الروح رغم عدم التجاوب الذي يجدونه من البعض، وقال إنه يجد لهم العذر في بعض الأحيان لأن غرضه من هذا هو اخذ الأجر والثواب وجمع الحسنات في هذا الشهر العظيم .
اما في مدينة الدامر شباب متطوعين لم يرثوا المهنة من احد وهم محمد عبد الرحمن علي وعمر محمد احمد والواثق مصطفى على يستعملون الطبول في ايقاظ الناس مصاحبا بالمدائح النبوية في بعض الأحيان بغرض الترفيه يتجاوب ويتفاعل معهم سكان الأحياء ويقدمون لهم العصائر والتمر وفي بعض الأحيان تقدم وجبة السحور رغم ان بعضهم يكون مستيقظا بل يحتاج للتذكير فقط بقرب طلوع الفجر .
ومن الطرائف والنوادر التي حدثت لهم في مرة من المرات كانوا يضربون الطار قرب باب أحد المنازل فخرج لهم صاحب المنزل منفعلاً واشتبك معهم حتى تجمع كل أهل الحي وقال لهم (انتوا من زمن المسحراتية).
وصية قدمها شباب الدامر للصائمين بأن يبتعد الصائم في خلال الشهر الكريم عن الاجهزة التقنية والقنوات الفضائية والتفرق للعبادة والاعتماد على المسحراتي في الإيقاظ اليومي حتى نتمسك ونحافظ على عاداتنا وتقاليدنا الجميلة المتوارثة والرجوع للجزور .
اما في الدول الاسلامية الاخرى يعتبر أول من أيقظ النّاس على الطّبلة هم أهل مصر، أما أهل بعض البلاد العربيّة كاليمن والمغرب فقد كانوا يدقّون الأبواب بالعصي، وأهل الشّام كانوا يطوفون على البيوت، ويعزفون على العيدان والطّنابير وينشدون أناشيد خاصّة برمضان .

رقية أحمد الشفيع

الخرطوم 23-6-2016م (سونا)