أحلامهم موزعة بين “فوطة” ومنديل أطفال “الأستوبات”.. البراءة المهدرة في الأسفلت
الفقر يجبرهم على ترك مقاعد الدراسة وبعض العيون تنظر إليهم باشمئزاز
باحثة اجتماعية: الظروف الاقتصادية أجبرت الدولة على غض الطرف عن الظاهرة
ناشط: قانون حقوق الطفل يحظر عمل الأطفال في الأماكن الخطرة
يحمل عبد المحمود ابن الأعوام العشرة في يديه “مناديل وبعض الحلوى”، ويتحرك بخفة ورشاقة وسط السيارات وهو يعرض ما يحمله للبيع على سائقي المركبات. هو في ذلك يراهن دائما على الاستفادة القصوى من ثواني الانتظار المفروضة على أصحاب المركبات في التقاطعات المرورية من خلال الإشارات الضوئية، فتلك الثواني تمثل له الكثير لذا فإنه يعمل على أن يعرض ما يبيعه على أكبر عدد من مستخدمي المركبات حتى يظفر ببيع ولو “منديل” واحد.
اقتربت من عبد المحمود الذي يرابط بأحد تقاطعات وسط العاصمة الخرطوم وسألته عن أسباب عمله الشاق، فرد علىَّ باختصار “الظروف”. وعمل الصغار في ما يُسمى بالأستوبات بطرق الخرطوم المختلفة بات منظرا مألوفا، ومعظمهم قد فارقوا حجرات الدراسة وهذا ما أكده عدد منهم، وشكوا لنا من ضعف العائد ومن التعامل الفظ من قبل أصحاب المركبات بالإضافة إلى “التحرشات” اللفظية، مؤكدين أنهم ليسوا متسولين بل يبحثون عن “الرزق الحلال”.
ضغط اقتصادي
أن ترى طفلا يعمل في نهار قائظ وهو يستنشق غازات ضارة ويقف على أسفلت مرتفع الحرارة، ويتحرك بسرعة وسط السيارات رغم مخاطر هذا الأمر، لم يعد أمرا مستغرباً، وهو ما يؤكد أن شريحة كبيرة من الأطفال باتت مجبرة على اقتحام ميدان العمل باكرا. وهنا يحكي محمد الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره أن الظروف هي التي أجبرتهم على العمل في الأستوبات والشوارع، ويقول إن اتجاه الأطفال إلى هذا الضرب من العمل يعود بشكل مباشر إلى عدم مقدرتهم على العمل في المصانع والورش وتحمل الأعمال الشاقة، موضحا أن دخل البيع لأصحاب السيارات ليس كبيرا لكنه يرى أنه أفضل من عدمه
ويشير إلى أنه سيعمل في هذا المجال لثلاث سنوات أخرى حتى يقوي عوده ويكتسب خبرة ليصبح تاجرا في المستقبل، ويقول إنه يبيع كروت شحن الهواتف والمياه المعدنية، وإن بعض أصحاب السيارات يتعاطفون معهم ويشترون منهم، فيما بدأ متحسرا من تعامل البعض معهم وقال “في ناس صعبين جدا وبعاملونا كأننا بهايم، رغم أننا بشر نبيع بالحلال”، وحول أسباب تركه للدراسة يشير والحزن قد كسى وجهه إلى أنه لم يترك الدراسة وسيعود إليها، مبينا أن ظروف والده هي التي أجبرته على العمل، وقال إنه سعيد لقدرته على مساعدة والده، غير أن الصغير محمد يشكي من تعرضهم لمضايقات من الباعة الجائلين الذين يكبرونهم في السن حتى يذهبوا بعيدا، وقال بكل براءة “في أحيان كثيرة نذهب ونخلي لهم المواقع والظاهر عليهم ما عارفين أن كل زول عندو قسمة بيأكلها”.
إساءة وتحرش
ويلتقط أمجد الذي قال إنه يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما دفة الحديث فقد كان يجلس بجوار الصغير محمد وبدأ منهكا جراء وقوفه لساعات طويلة وهو يعرض بضائع بسيطة للبيع، وقال: بخلاف مضايقات الذين يكبروننا في السن فإننا نعاني كثيرا من بعض أصحاب المركبات الذين في أحيان مختلفة يوجهون إلينا مفردات ساقطة “ويفشوا غبينتهم فينا”، ونقابل الإساءات بالصمت حتى لا نتعرض للضرب منهم، ويوجد كذلك من يتحرش بنا بكلمات لا تقال للرجل ولكن لا نعيرهم اهتماما، وقطع بأنهم أولاد ناس ولولا الظروف الاقتصادية لما اختاروا مثل هذا العمل الذي يصفه بالشاق، وكشف عن أنهم يتعرضون أيضا لمضايقات أحيانا من “الشماشة” الذين يستغلون صغر سنهم وينهبون بضاعتهم وأموالهم، وقال إنه “زهج” من البيع في الأستوبات ولكن ليس أمامه غير ذلك، وكشف عن تعرضهم للمرض كثيرا بسبب الوقوف في الشمس لفترات طويلة، سألته عن وزارة الرعاية الاجتماعية فأجاب باستغراب “يعني شنو وزارة الرعاية”، ساعتها تركته وذهبت.
مواسم ومناسبات
تجولنا في أكثر من سبع إشارات ضوئية بالخرطوم ولاحظنا أن البضاعة التي يعرضها الصغار ليست ثابتة على صنف محدد فهي متغيرة من مكان إلى آخر ومن زمان إلى آخر، وفي شارع المك نمر سألنا عن السبب الذي يكمن وراء هذا الأمر فعلمنا أن عملهم يرتكز على المناسبات والمواسم، وبعضهم يعمل في بيع الفواكه، وهنا يشير أحدهم إلى أن لكل فترة نوع محدد من الفواكه وقال: في الصيف نبيع الليمون كثيرا وتزدهر تجارته في هذا الشهر الفضيل، وفي الشتاء تتصدر المنقة الأسواق، وايضا البرتقال له وجود، وكشف عن أن التجار يوزعون البضاعة عليهم ويأتي ويجمعون المبالغ لاحقا، وأضاف: وأحيانا نشتري مباشرة منهم فبعضنا استفاد من هذه التجارة وبات يمتلك رأس مال جيد، وأوضح أن الأطفال دون العاشرة لا يسمحون لهم بالعمل في الأستوبات بل يتم تكليفهم بتعبئة الفواكه في الأكياس ويتم منحهم أجرهم، وأشار إلى أنهم في شهر رمضان بخلاف الفواكه يعملون على بيع السجادات والسبح والمصاحف الصغيرة، وفي الشتاء يبيعون ملبوسات الأطفال، وقال ضاحكا “كل موسم عندو بضاعتو”.
أما عبدو الذي كان يجلس بجانبه فقد بدأ غاضبا من تعامل البعض معهم وقال: يوجد من يتظاهر بشراء كيس فواكه وينتظر إلى أن تنتهي ثواني الانتظار ويفتح الأستوب وبعدها يغادر بعربته مسرعا دون أن يدفع، ومثل هؤلاء نتركهم لله القوي، وحيال هذا ليس أمامنا غير التسليم ومنح التاجر حقه كاملا وذلك لأنه لا يعترف بهذه الأعذار، مؤكدا تعرضهم للكثير من المخاطر في مهنتهم هذه مستشهدا بتعرضه من قبل لحادث نتج عنه كسر رجله.
قلوب بلا رحمة
ويعمل أطفال آخرون في مهنة مسح زجاج العربات ايضا بالاستوبات وفي شارع المك نمر شاهدنا طفلا يحاول مسح زجاج عربة مظللة ولكن تفاجأ الصغير بسائق العربة ينزل الزجاج ويزجره بعنف ليفتح الاستوب ويتحرك بالعربة بسرعة كبيرة رغم أن الطفل كان على مقربة منه، ولأن هذا الأمر أثار دهشتنا ومخاوفنا على سلامة الصغير، ضحك الصغير حينما علم إشفاقي عليه، وقال إنهم يتعرضون كثيرا لمثل هذه المواقف خاصة من أصحاب العربات التي وصفها “بالسمحة”، والغريب في الأمر أنه أكد بأن أصحاب الأمجاد والتاكسي يتعاملون معهم بإنسانية، وامتدح ايضا أصحاب عربات “سمحة”، وقال: فيهم ناس طيبين وبحترمونا، وقال إنه اختار هذه المهنة وذلك لأنها لا تحتاج إلى رأس مال وأن ظروفه هي التي دفعته، وأكد عدم تركه الدراسة واردف: “اعمل حتى اتمكن من توفير ملابس المدرسة والكراسات والرسوم الكتيرة”.
الجوع كافر
أما الصغير حسن فقد قال إنه ظل يعمل في شارع المطار منذ عامين وإن زملاءه كثيرا ما يطالبونه بعدم الركض بسرعة بين العربات لبيع المناديل في الاستوبات، وضحك “اعمل شنو عاد الرزق عاوز الحركة والخفة”، وقال إن والدته مريضة ولا يوجد من يوفر لها الدواء لذا قرر ترك المدرسة والعمل على مساعدتها بعد وفاة والده، فيما كانت قصة أحمد غريبة بعض الشيء فقد كشف أن والده اخرجه من المدرسة وكان وقتها بالصف الثالث وذلك حتى يعمل على مساعدته، وقال إنه وبعد نهاية العمل يعطي والده كامل المبلغ الذي حصده، فيما كان عباس الذي يقطن بمحلية شرق النيل أفضل حالا حينما أشار إلى أنه لم يترك الدراسة ولكنه يعمل أثناء العام الدراسي عقب نهاية دروسه في الفصل ويقول ضاحكا: وصلت بحمد الله الصف الثاني الثانوي وظللت أبيع المناديل والحلوى منذ ثلاث سنوات بعدد من التقاطعات وكثيرا ما كنت أحضرها معي إلى المدرسة دون أن يعرفها أحد وبعد نهاية اليوم الدراسي اتوجه مباشرة إلى مباشرة عملي.
اختفاء الدولة
الناشط الاجتماعي خالد الدخيري أشار في حديث لـ(الصيحه) إلى أن عمل الأطفال في الأماكن الأكثر خطورة مثل المصانع والورش والتقاطعات (الاستوبات) ممنوع بحكم قانون حقوق الطفل الذي صادق عليه السودان منذ 2004 وتم تعديله في 2010، ويرى أن الوضع الاقتصادي الذي يعيشه السودان أجبر كثير من الأسر على ترك أطفالها يعملون في مهن خطيرة مثل البيع في الاستوبات، وقال إن هذه الظاهرة بدأت في التنامي وبات عدد الصغار الذين يعملون في التقاطعات كبيرا وهذا يمثل خطرا كبيرا عليهم لخطورة الطرق، وقال إن الدولة تبدو غافلة تماما عن معاناة هؤلاء الصغار وغير مهتمة لشأنهم، وغير مكترثة لقانون حماية الطفل، وأبدى تعجبه من صمت الجهات المسؤولة على عملية بيع أطفال لم يتجاوزوا العشرات سنوات للسجائر وقال إن هذا يجعل منهم مدمنين في المستقبل، وتساءل عن موقع وزارة الرعاية الاجتماعية من اعراض حياة هؤلاء الأطفال التي يصفها بالبائسة، مطالبا بتفعيل قانون الطفل.
مخاطر نفسية وجسدية
أما الناشطة في مجال المرأة والطفل، فاطمة سالم، فقد أكدت أن قانون المرأة والطفل يمنع عمل الأطفال، إلا أنها وفي حديثها لـ(الصيحة) تؤكد على أن الظروف الاقتصادية أجبرت الدولة على غض الطرف عن الكثير من الظواهر السالبة بدلا عن التعامل معها بجدية وبحث مسبباتها، وقالت إن الدولة تفرض قيودا على منظمات المجتمع المدني مما جعلها غير قادرة على التدخل لحماية هؤلاء الأطفال، مؤكدة أن عمل من هم دون الثامنة عشرة يعرضهم للكثير من المخاطر الجسدية والنفسية.
واقع مؤسف
ووفقا لمسؤولة الرعاية والحماية الخاصة بالأطفال في مجلس رعاية الطفولة السوداني نجاة الأسد، فإن العوامل الاقتصادية والاجتماعية هي السبب الرئيس في عمالة الأطفال بالبلاد، مشيرة إلى أن الظروف الحالية من حروب ونزوح ألقت بظلالها على شريحة الأطفال ودفعت بعضهم إلى ترك الدراسة والاتجاه إلى سوق العمل للالتحاق بمهن هامشية، ومع عدم وجود إحصائية دقيقة لأعداد عمالة الأطفال فإن المسألة لم تعد ظاهرة تعمل الأطراف المختلفة على محاصرتها، بل أضحت واقعا يتمدد يوميا في أغلب المدن السودانية.
وكان آخر تقرير رسمي أعلن في الخرطوم قد كشف أن 57% فقط من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و16 عاما يلتحقون بالمدارس بينما هناك 43% منهم خارج الدور التعليمية.
ضعف الميزانيات
وتتباين رؤى الجهات الرسمية وبعض منظمات المجتمع المدني حول المعالجات المطلوبة لحماية الأطفال في البلاد رغم اتفاق الجميع على المسببات الحقيقية لعمالتهم. وارجع المدير التنفيذي لمعهد حقوق الطفل ياسر سليم شلبي الظاهرة إلى ضعف الميزانيات المرصودة للطفل في البلاد وغياب مجانية وإلزامية التعليم لمرحلة الأساس رغم ما نص عليه الدستور وقانون الطفل لسنة 2010، وذكر أن عدم كفالة تلك الحقوق للأطفال في ظل ضعف الوعي المجتمعي قاد إلى تشرد ونزوح وعمالة الأطفال، داعياً إلى ضرورة تنزيل تلك القوانين على أرض الواقع.
تحقيق: بهجة معلا
صحيفة الصيحة