بعد فشل التقنيات التقليدية.. شركات التقنية تبدأ بتخزين البيانات على «الحمض النووي – DNA»
مُنذ زمن بعيد، ونحن نعتمد على التقنيات التقليدية في عملية تخزين البيانات. فنعتمد على الأقراص بأنواعها، كالأقراص الصلبة «Hard Disks» التي تتضمن العديد من الأقراص المغناطيسية، التي تُخزِّن البيانات مغناطيسيًّا على مسارات دائرية، أو الأقراص المرنة «Floppy Disks» التي شاع استخدامها في تسعينات القرن الماضي، وكذلك الأقراص المُدمجة «CD-DVD» التي تُخزَّن فيها بيانات بسعة أكبر من الأقراص المرنة. لكن مع التطور المستمر، تزداد متطلبات تخزين تلك البيانات، ولا تستطيع التقنيات التقليدية السابقة مواكبة تلك المتطلبات، خاصةً مع البيانات الضخمة.
فالبيانات الضخمة «Big Data»: عبارة عن مجموعات من البيانات ذات أحجام كبيرة جدًّا متزايدة باستمرار، قد يتراوح حجمها من بضع عشرات من تيرا بايت، إلى العديد من بيتابايت في المجموعة الواحدة، مما يجعلها تتخطى قدرة البرامج التقليدية في إدارة، ومعالجة البيانات؛ لذا تحاول شركات التكنولوجيا البحث عن بديلٍ آخر، يستطيع استيعاب هذا الكم الهائل من البيانات، وهو ما نتطرق إليه خلال تقريرنا هذا.
اجتماع مُغلق.. وأزمة تلوح في الأفق
عدم قُدرة التقنيات التقليدية على التعامل مع البيانات الضخمة أدى إلى أزمة حقيقية؛ مما دفع التقنيين من شركة مايكروسوفت، وإنتل، وأي بي أم إلى عقد اجتماع مُغلق مع عُلماء الكمبيوتر وعلماء الوراثة في «أرلينغتون» بولاية فيرجينيا في نهاية أبريل (نيسان) الماضي، لمُناقشة الحلول السابقة لتلك الأزمة. حيث عُقد الاجتماع لاستكشاف إمكانات تقنية التخزين الحديثة التي توصلوا إليها منذ سنواتٍ عِدة، وهي استخدام الحمض النووي DNA، في تخزين تلك البيانات. وذلك عن طريق تحويل الملفات والبيانات الرقمية، إلى مواد بيولوجية تُخزَّن في الحمض النووي كالمعلومات الوراثية التي يحملها الحمض النووي عادةً. فمن المُمكن نظريًّا استبدال مرافق تخزين البيانات بعدة أنابيب اختبار متناهية الصِغر.
الحمض النووي.. ولغة برمجية جديدة
يتراوح طول الحمض النووي بين 20 إلى 40 نانومترًا، ويُعتبر وسيلة التخزين طويلة الأمد للمعلومات الوراثية، والجينية حتى تُنقل من الآباء إلى الأجيال القادمة من الأبناء. حيث تعتبر المعلومات الجينية هي المسؤولة عن التطور البيولوجي للكائنات الحية. فيتكون الحمض النووي من سلسلتين من وحداته البنائية التي تسمى بالنيوكليوتيدات، مرتبطتين ببعضهما البعض على شكل لولب مزدوج. حيث تتكون كل نيوكليوتيدة من سكر خماسي الكربون، ومجموعة فوسفات، وقاعدة نيتروجينية.
ويوجد 4 قواعد نيتروجينية فقط هي: أدينين «A»، جوانيين «G»، سيتوزين «C»، وثيامين «T». ترتبط كل قاعدة نيتروجينية على شريطي الحمض النووي بالقاعدة النيتروجينية التي تواجهها على الشريط المقابل. حيث يرتبط الأدنين مع الثيامين، والجوانيين مع السيتوزين بروابط هيدروجينية. وبذلك فهناك 4 احتمالات فقط للترابط. لذا عند حدوث تلف لأحد القواعد النيتروجينية على شريط من شريطي الـ DNA، يُمكن تعويضها بسهولة بالاعتماد على القاعدة المقابلة على الشريط الآخر.
لذلك يعتبر الحمض النووي نظامًا مُبرمجًا بلغة مكونة من 4 قواعد، بداخل نواة خلية الكائن الحي. حيث يُمثل كل تتابع من تلك القواعد جينًا معينًا، وهذا التتابع لا يمكن تطابقه تمامًا مع أي جين آخر. فكل جين يتكون من مئات أو آلاف القواعد النيتروجينية. التي يتم نسخها بواسطة جزي الـ mRNA، ومن ثم ترجمتها إلى أحماض أمينية لتعطي البروتين المُقابل، ليقوم بوظيفته المحددة داخل خلية الكائن الحي.
الحمض النووي.. ومحاولات سابقة
لم تتوان الجهود، ولا المحاولات، لاستخدام الحمض النووي في عملية تخزين البيانات الرقمية الضخمة على نطاق واسع. ففي عام 2012، أعلن الباحثون في كلية طب جامعة هارفارد بقيادة مهندسي البيولوجيا «Sriram Kosuri» و«George Church» أنهم استطاعوا تخزين نسخة من إحدى كُتب الكنيسة بالإضافة إلى معلومات أخرى داخل الحمض النووي، وبكثافة حوالي 700 تيرابايت في الجرام الواحد.
بينما عام 2013، أعلن الباحثون بقيادة علماء البيولوجيا الجزيئية من معهد المعلوماتية الحيوية الأوروبي (EBI) في المملكة المتحدة «Nick Goldman»، و«Ewan Birney» أنهم حسّنوا نظام الترميز الخاص بالحمض النووي لرفع كفاءة التخزين إلى أكثر من 2.2 بيتابايت في الجرام الواحد من الـ DNA، أي بثلاثة أضعاف الجهود السابقة.
من البيانات الرقمية.. إلى البيولوجية.. إلى الحمض النووي
يتم تخزين البيانات الرقمية عادةً باستخدام الترميز الثنائي للقيم العددية الصفر والواحد الصحيح. حيث تُترجم كافة البيانات التي يتم إدخالها إلى صورة الـ0 والـ1، ومن ثم يتم عكسها حتى الحصول على الترميز المخصص لكل عملية. لكن كيف يتم تحويل تلك الرموز الثنائية المسؤولة عن البيانات الرقمية إلى مادة بيولوجية يمكن إدخالها وتخزينها في الحمض النووي الـ DNA؟
أي ملف رقمي: فيلم، أو بيانات طبية، أو حتى ويكبيديا يمكن ترجمتها إلى ملف وراثي، ثم تخزينه كشريط من شريطي الحمض النووي DNA. حيث تمر عملية تخزين البيانات في الحمض النووي بـ 5 مراحل أو خطوات رئيسية، هي: التشفير، والتخليق أو التصنيع، ثم التخزين أو الحفظ، وبعد ذلك تأتي عملية الاسترجاع، ثم أخيرًا عملية فك التشفير.
فتبدأ عملية التشفير بترجمة الترميز الثنائي إلى الشفرة الوراثية المكونة من 4 شفرات جينية، والتي تُمثل اللبنات الكيميائية للحمض النووي. حيث يترجم الترميز (0 0) إلى الأدينين (A)، والترميز (01) إلى الجوانين (G)، والترميز (10) إلى السيتوزين (C)، وأخيرًا الترميز (11) إلى الثيامين (T).
فعندما تريد إحدى شركات التقنية تخزين مجموعة من البيانات الضخمة ذات تشفير ثنائي مكون من (00 11 10 10 11 00 11 01) بداخل الحمض النووي، تترجم الشركة هذا الترميز إلى الشفرة الجينية، والتي ستصبح (G T C T A T G)، «عملية التشفير». ثم تُرسل هذا التتابع الجيني إلى إحدى الشركات البيولوجية المُصنعة، التي تقوم بتصنيع تسلسل الحمض النووي السابق «عملية التخليق».
ثم حفظه في أنابيب اختبار، في ظروف باردة مناسبة «عملية التخزين». وعندما تحتاج الشركة استرجاع المعلومات، تقوم باستخراج الـ DNA، وفك التسلسل النووي الموجود بداخله «عملية الاسترجاع». والذي يترجم مرة أخرى إلى الترميز الثنائي للحصول على البيانات الأصلية «عملية فك التشفير».
لماذا الحمض النووي DNA؟
للحمض النووي عديد من المميزات التي تجعله الوسيلة الأفضل بلا منازع في حفظ وتخزين المعلومات. فهو أكثف وسائل التخزين الموجودة، حيث يتميز بقدرة عملاقة في تخزين المعلومات، والبيانات، والشفرات. ففي جرام واحد من الـ DNA يمكن تخزين ما يقارب من زيتابايت «أي ما يساوي 1021بايت». بالإضافة إلى أنه يتميز بطول الأمد، حيث يمكن استخدامه لتخزين البيانات لفترة تتجاوز الألفي عام. فحتى الآن نكتشف الأحماض النووية للحفريات التي انقرضت منذ مئات السنين.
وبفضل التقدم السريع في التقنيات الوراثية، أصبحت عملية حفظ البيانات وتخزينها في الحمض النووي أسهل وأسرع، وكذلك أرخص من ذي قبل. وحاليًا، هناك العديد من الشركات البيولوجية التي تقوم بتخليق الحمض النووي وفقًا لمواصفات العملاء، مثل شركة «تويست- بيو ساينس» في سان فرانسيسكو، والتي تخدم شركات التقنية الحيوية في المقام الأول، حيث تقوم بالتعديل والتبديل على الجينوم الخاص بالميكروبات، للحصول على منتجات تساعدهم في عملية تخليق الحمض النووي صناعيًّا، الذي قد يستخدم في تخزين البيانات. كما تقوم الشركة ذاتها بعملية منفصلة لتخليق ما يقارب 10 ملايين شريط قصير من أشرطة الحمض النووي لشركة مايكروسوفت، وللمزيد من التفاصيل حول تلك الاتفاقية يمكنكم الاطلاع على هذا الموضوع.
اجتماعات جديدة تحت إشراف وكالات الاستخبارات!
أما الآن، فهناك العديد من الاجتماعات التي تبحث برامج استخدام الحمض النووي كقرص صلب، أو استخدامه كذاكرة الوصول العشوائي (RAM)، والتي تتم تحت رعاية مشاريع البحوث المتقدمة لوكالة الاستخبارات الأمريكية. كما يتوقع المستشار في مجال التقنية الحيوية «روب كارلسون» أن تشارك في تمويل تلك البرامج وكالات الاستخبارات من عدة بلدان، حتى تستطيع التعامل مع كم المعلومات والبيانات الضخمة التي يتم جمعها بتكنولوجيا المراقبة.
ساسة بوست