التحلق حول (ست الشاي).. تنامي الظاهرة
انتشرت في الآونة الأخيرة في السودان ظاهرة (ستات الشاي) وهن سيدات يبعن المشروبات الساخنة كالشاي والقهوة على قارعة الطريق، وعلى الرغم من أن الظاهرة قديمة إلا أنها في الفترة الأخيرة تنامت بشكل ملحوظ ودار حولها الكثير من الحديث الهامس والجهير. وتنتشر الظاهرة بصورة ملفتة في الحدائق العامة والشوارع المكتظة بالزبائن الذين يتحلقون أمام (ست الشاي) لاحتساء المشروبات الساخنة، كما دخلت أيضاً عند بعضهن المشروبات الباردة مثل عصير التانج، وبعض المشروبات البلدية التي تجد طلباً لدى الكثير من المترددين. وما يشد الانتباه أن بائعات الشاي أصبح لبعضهن أكشاك أو دكاكين و(رواكيب) مظلات من القش والمواد البسيطة مشمعات وأحياناً أمكنة بالحدائق وأخيراً أصحبت هنالك أكشاك تخصص لهن في شارع النيل تحت إشراف المحليات بولاية الخرطوم.. في هذه المساحة نتناول هذه القضية بمحاورها المختلفة عبرهذا التحقيق.
المتتبع لواقع مهنة بيع الشاي عبر ما يعرف بـ(ست الشاي) في السودان يجد أن هذه المهنة يمتهنها عدد كبير من النساء السودانيات اللاتي أجبرتهن الظروف لفقد الزوج أو لظروف العائل ليكون عملها جزءاً من التزام أسري جعلها تجلس على (بنبر) وبالقرب من النيران لساعات طويلة، ومؤخراً باتت هنالك منافسة بين (ست الشاي) السودانية و بين ستات الشاي الأجنبيات الأثيوبيات والجنوبيات وغيرهن، حيث تطورت مهنتهن من بيع شاي فقط إلى مشروبات أخرى ساخنة وباردة ولجذب الزبائن بعضهن يعملن على تزيين الأماكن وتقديم الماء البارد وأنواع البخورات المعطرة.
جولة ميدانية
وللوقوف على الظاهرة كانت لنا جولة في بعض أماكن (ستات الشاي) والحديث معهن ومع بعض زبائنهن لنقف على الظاهرة عن كثب.
البائعة علوية تبيع جوار إحدى المستشفيات قالت إنها اضطرت لبيع الشاي في الشارع بسبب ظروفها الاقتصادية، فهي أرملة وتعول أبناءها وهم أطفال، وقالت لبيع الشاي والمشروبات فن وكل سيدة لها تميزها، فهذا التميز يمكن أن يكون في شكل الأكواب والمقاعد و(الترابيز) المزركشة لجذب المارة و(الكييفين)، وتقديم الماء المثلج للزبائن، وذكرت أنها لم تجد أي مضايقات أو معاكسات من الذين يتحلقون حولها لشرب الشاي.
وتقول بائعة الشاي (مودة) أنا شابة من أسرة فقيرة ومحتاجة أتعلم (بقرا) في جامعة، امتهنت مهنة بيع الشاي لتعليم نفسي ولم أجد أي مضايقات ولا معكاسات وتقول: ما حصل جاتنا كشة، لأن الكشة تجئ بناءً على بلاغ أو أن هناك ممارسات خاطئة وما كل ستات الشاي سيئات.
ويقول أمجد طالب جامعي: نحن زبائن دائمون لـ(ستات الشاي)، ونحن كشباب نتلاقى مع ست الشاي خاصة في شارع النيل، لأن الشاي والقهوة لا يحلو شربهما إلا في شارع النيل.
ويقول آخر إن هناك روبط قوية بين ستات الشاي والمجتمع وعلاقة نفسية مع ست الشاي، وهي كالطبيب النفسي أحياناً يكون عندنا مشاكل نناقشها أثناء جلوسنا لشرب الشاي.
أما الحاجة زينب آدم في الأربعينيات من العمر مطلقة وتعول 5 أطفال قالت: مللنا لعبة القط والفأر مع رجال البلدية الذين دائماً ما يمنعونا من بيع الشاي في الأسواق.
وتساءلت الحاجة حواء قائلة: ماذا نفعل ليتركنا رجال البلدية نعمل بهدوء حتى لا نضطر للتسول وعندئذ سيطاردونا أيضاً، لماذا لا يتركونا نعمل وهذا أفضل من التسول.
ويقول أحمد مهندس، تمثل (ست الشاي) نموذجاً للمرأة السودانية الكادحة التي تحدت الظروف من أجل الحصول على قوت يومها عبر هذه المهنة التي يرى السودانيون أنها أصبحت جزءاً من المجتمع.
النظرة إلى بائعة الشاي
يرى خبراء الاجتماع أن مهنة الشاي في السودان قديمة كانت تمارسها النساء الفقيرات والأرامل المتقدمات في السن في الأسواق الشعبية وبعض المقاهي التي فقدت بريقها، وكانت مهنة محدودة غير لافتة للانتباه، ولكن حدث تطور في المهنة أدى إلى لفت الانتباه إلى (ست الشاي) كظاهرة اجتماعية تشكل تجمعاً عفوياً لعدد كثير من المواطنين خاصة الشباب، وكانت التجمعات عندها محظورة لكن في التسعينيات صدرت عدة قرارات حكومية بخصوصهن أشهرها القرار الذي أصدره العميد يوسف عبد الفتاح الذي يلزم بائعات الشاي بالاحتشام ولبس الجوارب لتغطية أرجلهن.
وعزا علماء الاجتماع تنامي الظاهرة لظروف الفقر والحروب الأهلية والهجرة الكثيفة من ولايات السودان إلى الخرطوم، ومن الأرياف إلى المراكز الحضرية، تلك الظروف جعلت كثيراً من النساء يتجهن لإعالة أسرهن عن طريق بيع (الشاي) والمشروبات الساخنة، وقد تعاطف المجتمع السوداني مع (ست الشاي) حيث إنهن نساء يعملن في بيع المشروبات في الطرقات ليقمن بالإنفاق على أسر كبيرة وكثيرات منهن ساهمن في تربية وتعليم أبنائهن ومنهم من دخل كليات مرموقة مثل الطب والهندسة، وهي من المجالات التي تحظى بالاحترام في ثقافتنا السودانية.
تغير نظرة المجتمع
خبراء الاجتماع أشاروا أيضاً إلى أن نظرة المجتمع تجاه (ست الشاي) عملت على دفع الحكومة للتعامل بواقعية أكبر مع من يعملن في هذه المهنة التي أصبحت مهنة معترف بها رسمياً ويتم العمل فيها بترخيص من السلطات المحلية، وكذلك اتحاد المرأة السوداني. وأصبحت (ست الشاي) في الآونة الأخيرة رمزاً من رموز النضال، حيث يتجمع حولها السياسيون ويتبادلون النقاش والمنتديات وتبادل الآراء حول (البنابر).
ولكن رغم ذلك فلا تزال ثقافة احتقار ستات الشاي تتردد أصداؤها بصورة خافتة، خاصة بعد ظهور بائعات الشاي الأجنبيات (الأثيوبيات والأريتريات) ومع هذا أصبحت (ست الشاي) محترمة على نطاق واسع.
وتقول الخبيرة الاجتماعية ثريا إبراهيم إننا في السودان نعاني من مشكلة الترفيه والبعض يرى أن الجلوس مع (ست الشاي) جزء من الترفيه، وهذا الفهم في حد ذاته مشكلة خاصة لبائعة الشاي التي يسبب لها جلوس الشخص فترة طويلة مضايقات ويجعل الناس يتحدثون عنها، كما أنه يعيقها في عملها وهي تمر بظروف اقتصادية وأمثال هؤلاء لا يفهمون ظروف بائعة الشاي وينظرون لها بائعة في الشارع فقط ويسلكون سلوكاً يسبب لها الازعاج.
وترى ثريا أنه لا بد من أن يكون هناك نظام لهن وذلك لسلامتهن، وتقول: يجب أن توفر لهن خدمات ومخصصات خاصة في الجانب الصحي، وينبغي على الدولة أن تقوم بعمل دراسات لدمجهن في القطاعات العامة وتقدم لهن كافة الخدمات الاجتماعية بحيث يستفدن من التأمين الصحي والدعم الاجتماعي، لأنهن أكثر إنتاجاً وأكثر احتياجاً، وترى أن هذه المهنة كل ما رأت رعاية من الدولة، كان دخلها عالٍ وتساهم في الاقتصاد. وقالت ثريا لا بد أن تكون هناك ضوابط للأجنبيات اللائي يمتهن هذه المهنة خاصة الضوابط الصحية وضوابط دخولهن.
مهنة هامشية
البروفيسور دهب الخبير الاقتصادي قال إن مهنة (بيع الشاي) هي واحدة من المهن الهامشية كما تعرفها بعض السلطات الحكومية، ولكن هناك مئات المهن الهامشية التي لها مساهمة في الاقتصاد المحلي الوطني، بالتالي لا يمكن استبعاد مهنة (ست الشاي) باعتبارها تجارة تتداول سلعاً، منها المشروبات، وأنها من المهن التي يسمح بها القانون ويقبل عليها الجمهور، وفي هذه المهن هناك جانب إنساني وهو إتاحة فرصة عمل للنساء الفقيرات والأرامل اللائي لم يجدن عملاً وهي مهنه كأي مهن أخرى فيها الصالح والطالح، بالتالي لا يمكن التعمق في حالات فردية ومثل هذه المهن هناك من يرون ضرورة تقنينها وإعطاء من يعملن فيها ترخيصاً بمزاولة المهنة، لأن السلطات المحلية ما زالت تطارد مثل هذه الشرائح الاجتماعية الضعيفة وتحرمها حقوقها في اكتساب العيش في الأسواق والشوارع والحدائق العامة.
مزاج المحليات
والتقنين القانوني لمهنة بائعات الشاي من وجهة نظر المحامي والقانوني المعروف كمال عمر أن (ست الشاي) تحكمها قوانين محلية، وهذا القانون جائر وظالم يتعامل معها بطريقة أقرب لـ(بائعات الخمور) ويتم تنفيذه بأوامر محلية، وفي أغلب الأحيان يكون تصرفياً وليس تشريعياً وخاضعاً لمزاج المحلية ويعتمد على أوامر محلية، لأن المركز القانوني ضعيف لا تتوفر فيه كافة سبل الحماية، مما جعل الآخرين يعانون بجانب ما فيه من انتهاكات كثيرة لبائعات الشاي، ويضيف: القانون ظلمهن لأنهن يقمن ببيع أفضل مشروب للمواطنين، باعتبار أن السودان من أكثر الدول تناولاً للشاي، وشدد في حديثه على ضرورة وجود تحالف عريض لحماية حقوق (ست الشاي) المرأة المسكينة المتكسبة بالحلال.
تشخيص نفسي
ولمعرفة الجانب النفسي للقضية يرى البروفيسور علي بلدو أستاذ الصحة النفسية بالجامعات السودانية أن الجلوس معهن يحمل في طياته ثلاثة مضامين وعوامل مختلفة، الأول مع ست الشاي نفسها والثاني مع من يجلسون معها والثالث مربوط بالشاي نفسه، ويمضي في حديثه قائلاً: إن الشاي في المجتمع السوداني ارتبط بالمنازل والشعور بالأمان الأسري والاسترخاء والرغبة في الإشباع العاطفي، وكذلك الرغبة في استرضاء شيطان الكيف، كذلك فيه جلسات تواصل اجتماعي ونقاش وتبادل للأفكار واستعراض الواقع الحياتي ومحاولة الوصول إلى حلحلة الكثير من الإشكالات العالقة والشعور بالفرح أحياناً والحزن في أحيان كثيرة، كما نشاهده في المأتم ارتبط شرب الشاي بالحزن فيما ارتبط الشربات بالأفراح.
وقال بلدو إن الشباب الذين يدمنون الجلوس أمام (ست الشاي) معظمهم يكون هارباً من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية الكثيفة المحيطة به مثل العطالة وعدم التوظيف والشعور بالإحباط، و في ظل التضييق على الحريات فإن بنبر (ست الشاي) يكون منبر من لا منبر له، وركن نقاش مستمراً، وكذلك يكون مكان ست الشاي مكاناً للتفاكر حول البحث عن وظيفة وسفر خارجي وهو منتدى يومي مجاني. وأما الجانب الأخير وهو المتعلق بـ(ست الشاي) نفسها والتي دفعتها الظروف الاقتصادية لامتهان هذه المهنة، وبذلك تكون واقعة تحت تأثير نفسي عميق من حيث النظرة السالبة لهذه المهنة، وكذلك التعرض لمضايقات وتحرشات الزبائن والجلوس لفترات طويلة وتعرضها لنظرات وتعليقات غير لائقة أحياناً مما يسبب لها الشعور بالخوف والقلق. ونواصل
تحقيق- لبنى الشيخ الحسين
صحيفة آخر لحظة