“الإخوة الأعداء” لوهلة دبت الصراعات داخل مكونات المعارضة فصفق “الوطني” من مقاعد المتفرجين.. كيف لا وقد انسحب ربيع الانتفاضة تدريجياً لصالح خارطة الطريق
(بارك الله فيك أيها الدكتور جبريل) بهذه العبارة انشرح صدر مريم الصادق المهدي وهى تتلقى رسالة جبريل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساوة، الموسومة (في الطريق إلى خارطة الطريق) .. لكنها بالمقابل ليست سعيدة بقراءة المتحدث البعثي محمد ضياء، وهو يفند مخرجات نداء السودان ذات العطر الباريسي، ويحاول جاهداً أن (يشخبط) على جدرانه بقلم ظل – على الدوام – يستعصم بمواقفه الراسخة من خارطة الطريق. ضياء هو أول من لفت الأنظار نحو البيان وبذل ملاحظات وصفت بالذكية، كما أنه بصورة أخرى اختصر موقف حزبه في عبارة (خارطة الطريق شرعنة التمكين بمباركة دولية) ومضى يلهب ظهر قوى نداء السودان بما يعزز من الفرز المطلوب، يقول ضياء في خلاصة حديثه : “نحن أمام حالة جديدة ستشكل أهم ملامح الفرز الجديد بين قوى اﻻنتفاضة وقوى معسكر التسوية” .. لا ينتهى دخان المعركة هنا، المعركة متعددة الأطراف، وإنما يشمل فضاءات أخرى، وينفتح على معتركات جديدة، تبعث ما كان خافياً في الصدور، وبالأحرى تجتذب شخصيات ذات وزن ثقيل، الإمام الصادق المهدي من جانب، ورجال الحزب الشيوعي من جانب آخر، المهدي ينقل الصراع إلى سوح المحاكمات تاريخية، ويبتدر مكتوبه بما أسماه (رسالة وصال وشفافية)، حيث أنه استعار من قاموسه السياسى جملة أوصاف وتشبيهات ساخرة، إلى من يعتبرهم أدعياء الوطنية وهواة الإفراط، بل هم الغلاة الذين أوهموا السهاة أن مجرد التوقيع على خارطة الطريق الأفريقية تهاون في المصلحة الوطنية – على حد قوله – يعود المهدي ويعدد مواقفهم من النظام، والمراد الخافي من جبر خاطر أمبيكي، ويكون أيضاً للشعر نصيب في تلك الرسالة المهدية “من ليس يفتح للضياء عيونه هيهات يوماً واحداً أن يبصرا” .. لكن ثمة من يرى أن الإمام ليس على وفاق بالأساس مع البعث والشيوعي، ولا يمكن أن يفوت فرصة كهذه لصدهم، ومعانقة داره التي تغرّب عنها لأكثر من عامين، وربما لم يكن يظن أنه سيبلغ الثمانين من عمره هو قابع في منفاه الاختياري .
بالطبع الحزب الحاكم هو الأكثر سعادة بحالة التشاكس الماثلة بين صفوف المعارضة، فهى على الأقل إن لم تخضعهم للتوقيع على خارطة الطريق التي ارتضاها سوف تضعف شوكتهم، لذلك يجلس ليصفق على مقاعد المتفرجين، ومما لا يخفى أن الصراعات التي دبت داخل مكونات المعارضة، عبر مسيرة طويلة من حكم الإنقاذ أوحت للكثير أن حالة الإنفراد بالقيادة أعظم أثراً من الرغبة في تنحية النظام، ويكاد يكون عداد الرهان عليهم تدنى تماماً ليبلغ درجة الصفر، حتى طالتهم المزيد من النعوت الساخرة؛ (الإخوة الأعداء، الرجال المتشاكسون)، وما عداها من توصيفات، فانطمرت كل حجج المدافعة عن انجاز التحول الديمقراطي في طريق ينتهي بالعجز، بينما ينسحب ربيع الانتفاضة تدريجياً لصالح الحوار.
ولو أن مخرجاً سينمائياً نصب كاميرات ديجتال داخل مقار المعارضة السودانية لحصل على أقوى مشاهد الإثارة والتشويق السياسي. ثمة حوار يتصاعد، وثمة اتهامات متبادلة، وفي منتهى الحبكة تتوارى الفكرة الرئيسة وتندلع النيران الصديقة فوق الثياب، سواء في مقر الحزب الشيوعي بالخرطوم (2) أو في قروبات الواتسب المتعددة والمثقلة برسائل الاشتباك. ذروة الصراع هنالك تمثل الانعكاس الحي والأكثر احتمالاً –ربما- لتخثر الأحوال في الجسم المناهض للسلطة، الموقف داخل كيانات المعارضة انعكس على ما يسمى بالقوى الشبابية، إذ تحاول شتى الرسائل والبيانات شرح مواقفها بصورة تستهدف تلك القطاعات التي أدمنت الفرجة، حتى لا تخسرها، بينما الأوضاع على حقيقتها يصعب القفز فوقها، ومن المرجح جداً أن تنقل الاتهامات إلى داخل الخرطوم في حالة أنجزت قوى نداء السودان مشروع التسوية السياسية.
يندلع القتال بالداخل والخارج؛ بندقية البعث على صدر الحركة الشعبية، وبندقية الشيوعي على صدر الأمة، وبندقية (قوى المستقبل) على صدر الجميع. التحالف الذي يضم (17) حزباً ويقوده محامٍ ضليع وشهير ظل يعمل منذ سبتمبر (2009) على هدف واحد وهو إسقاط النظام، لا تراجع، لا استسلام، حتى تزامنت حملة أرحل مع قيام الانتخابات، بعد كل هذه السنوات الهاربة بدأ التحالف نفسه يعاني من نزيف داخلي، ويشتكي من مضاعفات صراع الإخوة الأعداء، أزمة تجر خطامها أزمة أخرى وينفجر المشهد، مجدداً يتصاعد الدخان بين حزب البعث والحركة الشعبية، وفيما يسخر مبارك أردول لسان الحركة من دعوات البعث العربي يسخر البعث من نداءات الخارج. أردول رغم خلفيته السلفية حيث كان في الماضي منضوياً تحت لواء جماعة أنصار السنة، إلا أن النزعة الأفريقية تغلبت عليه، فأضحى البعث بالنسبة له عبثاً لا طائل من ورائه.. ضياء لسان البعث وفارسه المغوار تتقاطع خطواته في مناهضة النظام مع خطوات الحركة، لكنه يتبع خطة لا ترضى عن إسقاط النظام بديلا، وفي الوقت نفسه هو ساخط على معظم النداءات الخارجية بما فيها نداء باريس وخارطة الطريق، ولا يروقه تسول الحلول في العواصم الغربية. يسند ظهره تاريخ مصادم امتد لقرون ولم ينته بوضع حبل المقصلة على رقبة صدام حسين، هنا يتساءل الكثيرون هل موقف محمد ضياء هو موقف كل البعثيين، بالطبع لا تبدو إجابة واضحة، إذ يتصدر ضياء المشهد البعثي منفرداً ويتوارى من عداه!
عزمي عبد الرازق
صحيفة اليوم التالي