تحقيقات وتقارير

واقعه لا يعكس تاريخه الباذخ مستشفى عطبرة.. نموذج آخر للفوضى والإهمال

مستشفى عطبرة من أقدم المستشفيات بولاية نهر النيل، وهو في مصاف المستشفيات التي أنشأها المستعمر في العديد من الولايات الأخرى، فمن حيث التأسيس والعمر هو الأقدم على كل دور العلاج بالمدينة، ولكنه في نهاية القائمة لمرتاديه من المرضى الذي لا يجدونه الخيار الأمثل لما عليه من رداءة البيئة الصحية والمعينات الشحيحة، فالمريض الذي يدخله بغرض عودة العافية يذوق الويلات ومرافقيه وأهله الزائرين، فعدم الاهتمام به، طغى على كل زواياه، أكوام النفايات تستقبلك أينما يممت وجهك، وكذا الروائح الكريهة المنبعثة من العنابر بصورة مزعجة، دورات المياه بالمستشفى بالرغم من بساطة العدد، ولكن دخولها واحدة من المستحيلات لأنها لم تكن يوماً ضمن اهتمام القائمين على الأمر، مما يتطلب الوقوف طويلاً على التفاصيل.
حديث الحوادث
لن نتتظر كثيراً وأنت تدلف إلى داخل المستشفى، فكل شيء هناك يمكن أن يمنحك انطباعاً غير جيد. وخاصة الأجساد التي تئن من فرط الآلام، وحالات النزيف الحاد، وحالات التسمم.
وأنا في غمرة ذلك كله، وقعت عيناي على صغير يجثو على ركتبه أمام أمه وملامحه لا يكسوها غير الألم الشديد، وجمهرة من الناس يلفهم الخوف ويبدو أنهم أسرة تشفق على مريض جاءوا به في حالة خطرة، وعربة (تايوتا) يصدع سائقها بتعجيل فتح الأبواب له، فعليها مصابون بحالات متفاوتة، بعضههم يبدو أنه قد فارق الحياة، والآخر يكابد الرهق النزفي متشبثاً بالفانية، والعديد من الحالات المتنوعة والمتفاوتة بتفاوت درجة الإصابة. وما أكثر الحالات التي راح من ورائها نفر كريم لهم الرحمة نتيجة الإهمال والتأخير، كما روى لنا العامل بالمستشفى (ث . أ)، الذي يعمل منذ 30 عاماً وأشار في حديثه أنه من المفترض أن تكون كافة الأقسام بقسم الحوادث وغيره في حالة استعداد تام لمقابلة أي ظروف طارئة تستدعي وضع التدابير بالسرعة المطلوبة، وزاد في حديثه لـ(الصيحة): لذا من المفترض أن تكون غرفة العمليات جاهزة وكذا الطبيب المعالج أو المداوي أو مساعد تمريض أو السستر خاصة أن هنالك حالات غير معلومة نتائجها إلا بعد إجراء الفحوصات المعملية الدقيقة، وأضاف، أن قسم المعامل بالحوادث وداخل المستشفى، ليس بالكفاءة المطلوبة علاوة على أن الأجهزة نفسها ليست بالدرجة المطلوبة وربما تكون نتائج الفحوصات المعلمية غير صحيحة لأن البعض يلجأ في بعض الحالات لإجراء تلك الفحوصات خارج المستشفى، وأبدى ضجره لما يقابله، وقال إنه كثيراً ما يحدث التضارب بين الفحص المعملي الداخلي، والذي تم إجراؤه خارج المستشفى، كما أن هنالك حالات عاجلة جداً تتطلب استدعاء الاختصاصي، ولكن ليست هناك أي استجابة بالسرعة المطلوبة، وأكد أنه ربما لا يستطيع الطبيب العمومي استدعاء الطبيب المختص لأنه لا يملك صلاحية لاستدعاء الأخصائي.. كما حدث مع المصاب (محمد .ح) الذي تعرض لتعدٍّ بالسكين من صديقه، وعندما تم استدعاء الطبيب المختص (الجراح)، لم يأت وفضّل أن يتابع الحالة بالتلفون..!
صور أكثر وضوحاً
ومضى العامل في حديثه لـ(الصيحة)، إن هناك اجتهادا من بعض الأطباء الجدد من الجنسين، على عكس ما يقوم به الأخصائيون الكبار الذين كان يعول عليهم إنسان الولاية، وأشار الى أن الشعور العام والسائد لدى الأطباء العموميين أنهم غير مقيمين التقييم اللائق بهم، فمرتباتهم ضعيفة علاوة على ان البيئة طاردة، وأكد أن هناك العديد من الحالات المستعصية والمعقدة التي تتطلب وجود الطبيب الاختصاصي صاحب التخصص المطلوب لعمل اللازم ولكن هيهات، وأضاف، أن المرضى القادمين للمستشفى أصبح لديهم الإحساس التام والذي وصل إلى حد اليقين، بأن إجراءات التداوي العلاجية تتم بسلحفائية بطيئة للغاية وما أكثر معاناة الكثيرين وأنت تشاهد مدى الآلام وقوة الاحتمال والصبر عسى ولعل يجد من يأخذ بيد المريض لطوق النجاة والشفاء والشافي الله رب العباد.
عنبر الجراحة يشكو الجراح
الوضع الراهن للمستشفى قمة في السوء والمتابعة، فعنبر الجراحة يشكو شح الاهتمام، وطغيان الأوساخ عليه، وليس هناك قدر يسير من الاهتمام بالمرضى، أما الحديث عن مستوى النظافة، فحدث ولا حرج، روائح كريهة نتنة تنبعث من داخل المستشفى علاوة على سوء دورات المياه التي أوشكت ان تدخل العنبر، الذي يكاد يكون خالياً إلا مرضى متفرقين، كانت بعض الأسرّة خالية من فرشها، فبدت أكثر سوءاً من المستشفى نفسها، والأرضية التي عليها متسخة تماماً، في قبالتي مريض يلف قدمه اليمنى بقطعة قماش طبية، ألقيت عليه التحية وتمنيات الشفاء، فجلس على سريره واعتدل في جلسته وباشرته بالسؤال عن حاله هنا، بدت عليه ملامح الرهق وهو يحكي لـ(الصيحة) بعد أن ذكر اسمه (أحمد علي)،و الذي تذوق الكثير من معاناته الممتدة من جروح السكر، في إشارته أنه كان متابعاً لحالته الصحية بمركز(نصر الدين) المختص بمرض السكر والملحق بالمستشفى، وقد أبدى غاية ضجره بعد أن تم تغيير الطاقم العامل القديم والذي كان يحوي صفوة من الأطباء، وسسترات يتمتعن بروح المعالج العالية، على عكس بعض الطاقم الطبي الموجود به حالياً على حد قوله، وأكد أنه ومنذ زمن طويل ظل متابعاً بالمركز، الأمر الذي جعله يخلق مقارنة في مستوى الخدمات التي يجب أن تقدم لمريض السكر الذي حري به أن يجد كل أسباب الراحة، وزاد في قوله بألم بالغ أظهرته عباراته التي كان يحاول لملمتها في تعب واضح من فرط شعوره بالألم على كل الأصعدة، إنه الآن يقيم بعنبر الجراحة منذ يوم وليلة بعد أن تم تحويله من قسم الطوارئ وتصنيف حالته التي تحتاج للمزيد من الرعاية والعناية كونه يعاني من جرح سكري أصاب مؤخرة قدمه من أسفل، وأضاف في إشارته لمدى الزهد في الخدمات ، أنه ومنذ أن كتب له التحويل بالعنبر، لم يزره طبيب حتى لحظة حديثه معنا، على أنه ينال وعوداً كثيرة من الممرضين الذين يأتون إليه بين الفينة والأخرى، وبعض الأحيان كما ذكر في قوله، يقوم بإرسال المرافق معه، إليهم لأجل متابعة نظافة الجرح.!!
البيئة تشتكي
الصرف الصحي داخل المستشفى، علاوة على الأجهزة المعملية الموجودة مروراً بأجهزة رسم القلب، وأجهزة الأشعة وأجهزة قياس الضغط بالإضافة لمعاناة المرضى بقسم غسيل الكلى والانتظار الطويل والممل للمرضى لساعات عديدة مع نقص المحاليل الوريدية وغيرها، صور أخرى تكشف حقيقة التردي المريع بمكان ينبغي أن يكون مهيأ ولو بأبسط سبل الراحة وتوفير الكثير من الاهتمام، خاصة وأن التحصيل بباب المستشفى أصبح 5 جنيهات، فأقسام المستشفى من السوء بمكان، بحيث لم تتهيب الممرضة (ه. أ) الحديث معنا حوله.
أما المواطنة (منى التهامي)، فطالبت بضرورة أن يكون الأطباء وفق مهنتهم، رسل خير وإنسانية وترياقاً لتضميد الحالات والمواجع، والحالات التي تتطلب إنقاذ المرضى، وأن لا تكون هنالك مطالبة بدفع رسوم وقيمة العملية قبل إجرائها، كما حدث مع ابنها الذي جاءوا به متألماً ليتم الفحص عليه، وتم تقرير عملية زائدة له، ولم يكن معهم أي مبلغ مالي ، والذي حُدّد لهم 1000 جنيه، إلا بعد أن اضطروا لاستدانة جزء من المبلغ بعد أن باعوا بعض ممتلكات المنزل، وهي ترى من باب أولى القيام بإجراء العملية وإسعاف وإنقاذ المريض أو المريضة، فالمريض سيظل بالمستشفى لا يستطيع القيام أو الخروج إلا بعد تحسن حالته وليس هنالك استعجال والتشديد للدفع مقدماً.
المعاناة المجسّدة
المواطنة (ن.ع)، استفاضت في حديثها بمرارة عن عدم الاهتمام الواضح، وشكت مر الشكوى من ارتفاع المبالغ المتحصلة من المريض، وزادت ان رسم الدخول من الباب 5 جنيهات، والغرف الخاصة الملحقة بقسم الحوادث، يصل إلى 100 جنيه، وهي تصعب علينا خاصة وأن مريضنا يتم حجزه بالمستشفى لأيام طويلة، وأن العلاجات معظمها من الصيدليات الخارجية، وأشارت إلى عدم اهتمام إدارة المستشفى بنظافة العنابر، الأمر الذي يجعل البيئة غير صالحة للاستشفاء، بل تؤدي إلى مرض المرافق نفسه، فالذباب ينتشر نهاراً والبعوض يتجول ليلاً، إضافة الى الروائح الكريهة وانعدام التكييف في بعض الغرف بسبب تعطل المكيف، أو عدم وجوده أحياناً، حتى في العنابر الخاصة، أما المواطن (الباقر عثمان) فقد شكا من التردي داخل المستشفى والإهمال، وتجاهل إدارة المستشفى لصحة المريض، وقال، إن المياه مقطوعة وأكوام النفايات تنتشر داخل المبنى، والمكيفات بعنبر الباطنية رجال تدخل الروائح النتنة إلى المرضى، وانبعاث الروائح الكريهة التي تزكم الأنوف تصيبنا بالضيق نحن المرافقين، فكيف حال المرضى، وأضاف أن انتشار الذباب والبعوض وجيوش القطط في تزايد مستمر، وعدم وجود دورات مياه صالحة بالعنابر، هذا إضافة الى عدم الاهتمام بالمتابعة والنظافة، مما اضطررت إلى تحويل والدي إلى مستشفى التأمين الصحي، بالرغم من غلائه.
المواطنة رانيا، والتي تجلس على كرسي متهالك بعنبر الصدرية مرافقة لزوجها، اشتكت من الإهمال في نظافة المستشفى، وتحدثت عن معاناتهم في عدم متابعة الطبيب بشكل مباشر، فقط يكتفون بمرور الممرضين، وشكت من عدم وجود التغذية بالمستشفى، أما في قسم الأطفال، فالملامح العامة يغلب عليها غياب النظافة، غير أن الرائحة الكريهة تعم المكان.
المواطنة (إلهام .ع) ترافق ابنتها ذات العامين منذ 4 أيام، وتشكو عدم مرور الطبيب منذ يوم كامل، فقط يطل عليهم بالعنبر أطباء الامتياز، فالإهمال واضح ولا حياة لمن تنادي.
مسؤولية الأعباء
وترى الدكتورة ميساء عبد الله زروق أن أزمة البيئة وترديها داخل المستشفى، تحتاج الى همة من الكادر، على اعتبار أنهم المسؤولون عن ذلك، وخاصة العاملين وقالت إن إعلاء صورة البيئة يضمن إبراز وجه مشرق للوضع العام، وأضافت ميساء أن المعاناة تمتد إلى الممرضين، فهم يعانون بحكم تواجدهم المستمر بالعنبر، وكثيراً ما يؤرقهم التردّي الذي أصبح طاغياً، وزادت في معرض حديثها لـ(الصيحة)، أن المريض ومرافقه لهم الدور الأساسي في المحافظه على النظافة أو عدمها بالتزامهم بالتوجيهات واعتبار النظافة جزءاً من التزامه وليس مسؤولية ملقاة على عاتق المستشفى وعامليها فقط.

الصيحة