تحقيقات وتقارير

بائعات الشاي.. صراع الحاجة والكشات.. ظروف استثنائية

خلق تزايد أعداد النساء اللائي يمتهنّ بيع الشاي والقهوة في الأسواق والأرصفة بولاية الخرطوم حالة من الانقسام في الشارع السوداني حول الظاهرة، وامتد الأمر حتى وصل الأوساط الرسمية، ففي حين يرى مسؤولون أن الظاهرة تسببت في العديد من الإفرازات الاجتماعية السالبة، ويؤكد نظراؤهم أن هذه المهنة كفلت لبائعات الشاي وأسرهن مصدر عيش شريف في ظل ظروف اقتصادية قاسية.
ويعمل في هذه المهنة بحسب إحصاءات وزارة التنمية الاجتماعية ولاية الخرطوم في (2014)م، نحو (1998) من السيدات السودانيات اللاتي تتراوح أعمارهنّ بين (30 – 40) عاما، فيما بلغت أعداد الأجنبيات في هذه المهنة نحو (1768) وأغلبهنّ في الفئة العمرية ما بين (15 إلى 30)، وفي (2016) ارتفعت نسبتهنّ، وكشفت وجود ما يقارب (13) ألفاً من بائعات الشاي في الخرطوم وحدها، (441) منهن يحملن مؤهلاً جامعياً.

مشاكل اجتماعية
وتتهم وزارة التوجية والتنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم شريحة العاملات في هذه المهنة بالتسبب في ارتفاع نسبة الإصابة بمرض الأيدز في السودان، وانحراف السلوك، وانتشار المخدرات، وتلقي اللوم عليهم أيضا في سوالب أخرى مثل التسرب المدرسي وتعطيل الإنتاج وإحداث التلوث، ويدافع مسؤولون حكوميون وخبراء اقتصاديون عن هذه المهنة باعتبارها شريفة، مطالبين بإيجاد معالجات لأوضاع تلك النسوة، واللائي يشكتين بدورهنّ من الاتهامات الجائرة ومطاردة حملات البلدية، سيما بعد حديث معتمد محلية الخرطوم أحمد عثمان أبوشنب الخاص بمنع وجود بائعات الشاي بالشوارع وحدد موعداً لذلك.

تلبية احتياجات
تقول بائعة الشاي (أم سلمة) وهي تجلس على مقعدها الخشبي القصير في الشارع العام، قبالة احدى فروع الصيدليات الشهيرة في الخرطوم، “الحاجة هي من دفعتني لهذا المكان ولو كنت أمتلك بديلاً لما خرجت من منزلي”، وتواصل قائلة “زوجي أحيل للمعاش منذ (6) أعوام وصار غير قادر على تلبية مصروفات واحتياجات بناتي الثلاث التعليمية، وكل ما نمتلكه معاشه الشهري، وهذا لا يكفي إلا بعض منصرفات المنزل، فكيف أسمح بقطعهنّ لتعليمهنّ وضياع مستقبلهنّ بجلوسهنّ معاً في المنزل”.

وتروي أم سلمة رحلتها خلال الأعوام الستة الماضية، على تلك الناصية، وما احتملته من مضايقات ومطاردات البلدية شبه اليومية، ومعاناتها من العمل في هجير الصيف وبرد الشارع، وما يتبع ذلك من مخاطر صحية بلا تأمين أو سند، وتعود لتساءل “ماذا يضر معتمد الخرطوم أو الشؤون الاجتماعية أن تمكننا من توفير متطلبات أبنائنا وبناتنا من هذه المهنة الشريفة؟ وكيف يشعرون وحملاتهم تقطع يومياً رزقنا وتصادر أدواتنا التي لا تعاد إلينا إلا بعد دفع غرامات لا نقوى عليها”.

تقنين المهنة
وترد (بائعة الشاي) على الاتهامات الموجهة لهنّ بالتسبب في العديد من الظواهر السالبة ومنها ترويج المخدرات وانحراف السلوك بالتأكيد على أن لكل قاعدة شواذ، مطالبة الجهات المعنية أولا بتقنين هذه المهنة ومنحهنّ تراخيص دائمة مع تشديد الرقابة واتخاذ إجراءات قانونية صارمة ضد من كل يثبت عليها أي انحراف، مضيفة “السلطات على دراية دائمة بمن يتورط في تلك المحرمات، فلماذا التعميم والاتهامات الجائرة، ولماذا نترك نهباً لحملات البلدية التي لا تعيد أدواتنا إلا بعد دفع مبالغ تقصم ظهرنا”.

رزق حلال
وتنتقد رئيس وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل عطيات مصطفى الهجوم الذي يمارس على ممتهنات هذه المهنة التي ترى أنها نظفية، مؤكدة أن أي تقصير من الجهات المعنية في متابعة الخلل الاجتماعي وحسم المتلاعبين بالقيم والمتاجرين بالسموم، يجب أن لا تتحمله المرأة التي خرجت للبحث عن رزق حلال بطريقة قانونية.

وأضافت: “العمل في بيع الشاي وظيفة تؤديها المرأة للمحافظة على أسرتها وحمايتها، لأننا في الدولة قصرنا في توفير قنوات أخرى لتلك الأسر، لذلك أنا ضد الهجوم على مهنة محددة واتهامها بالعمل على نشر ظواهر سالبة في المجتمع، لأن في ذلك إجحاف لحق أولئك النسوة القانوني والإنساني، فالممارسات السالبة والخاطئة في المجتمع يمكن أن تحدث من طبيب أو مهندس أو غيرهما من المهن، فهل يعني ذلك اتهام كل الأطباء أو المهندسين بهذه التهم، طبعا لا.

ورأت عطيات أن من أولى واجبات أمن المجتمع ووزارة التنمية الاجتماعية، بناء الأخلاق ومنع الرذيلة ورعاية الأسرة وكفالتها وتوفير الأساسيات التي تضمن لها ظروف معيشية كريمة، لا تجبر اللجوء لهذه الممارسات الخاطئة، مطالبة بتوجيه كل الطاقات المتاحة تجاه تعديل الخلل الموجود بالدعم المطلوب للشرائح المحتاجة، وبسط العدالة الاجتماعية.

جفاف وتصحر
في السياق، أوضح الخبير الاقتصادي عبد العظيم المهل أن خروج شريحة من النساء لبيع الشاي في الشوارع مبرر اقتصاديا للظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد منذ سنوات عديدة، منوها إلى أن الظاهرة التي تتفرد بها الخرطوم دوناً عن المدن السودانية الأخرى، ليست وليدة اللحظة، وإنما برزت بعد الجفاف والتصحر الذي ضرب السودان في العام (1983). وأدى إلى نزوح الآلاف من الأسر إلى المدن دون مهارات حضرية أو تحصيل أكاديمي، ومن ثم فاقمت الحروب والنزاعات المختلفة من الظاهرة بدرجات متفاوتة.

ويشير الخبير الاقتصادي إلى أن من إيجابيات هذه الظاهرة زيادة الدخل الأسري بصورة شريفة وتقليل كلا من نسبة الإعالة في الأسر وعدد العاطلين والعاطلات بصورة كبيرة، فضلا عن مساهماتها في التوزيع العادل للدخل بين فئات المجتمع، وإشاعة نوع من الرضا بين فئة من المجتمع تواجه صعوبات جمة في حياتها اليومية.

لكن المهل يعود ليعترف بأن لهذه الظاهرة سلبيات أيضا مثل تشجيع التقاعس عن العمل لدى الموظفين والعمال، والتبطل لساعات طويلة أثناء ساعات الدوام الرسمي بدعوى شرب الشاي أو القهوة، مما يؤدي إلى ضعف الإنتاجية، وكذلك قتل الطموح لدى الشباب الذي يمضي سحابة نهاره جوار بائعات الشاي بدلا عن التوجه لنشاط حقيقي يحسن وضعه أو يكسبه خبرات، داعيا إلى ترشيد هذه المهنة وفق رؤى علمية محددة وإيجاد بدائل مناسبة في اتجاه تطوير هذه المهنة وتحديثها.

الخرطوم – زهرة عكاشة
صحيفة اليوم التالي