عبد الباقي الظافر

حافة الهاوية..!!


جاء الجند إلى مؤخرة الصندوق القتالي يصرخون..كان هذا خبراً ساراً بالنسبة لي..خرجت لاستقبل جنودي الظافرين..خالجني شعور بالخوف على خصمي الذي اشتاق لرؤيته..بحماس كبير تقدم قائد القوة النقيب ياسر فتحي ناقلاً الخبر “سعادة المقدم تمكنا من اصطياد فيل ضخم”..الرجل الذي كنت تبحث عنه في الأسر بصحبة سبعة من جنوده..تثاقلت خطواتي لم أقوى على الحديث ..صمت لفترة..حينما استشعرت استغراب النقيب سألته بسرعة “أين جار النبي ..هل هو مصاب”.. حينما أتتني الإجابة بالنفي حمدت الله في سري.
تحركت نحو موقع الأسرى يزفني موكب من الجند ..صورة جار النبي شاخصة أمام عيني..السؤال الذي لم أجد له إجابة لماذا تمرد هذا الشاب..عشرة سنوات لم أتمكن من فك الشفرة.. منذ السنة الثانية بالمدرسة الإبتدائية التقيت بجار النبي في قشلاق كوبر..جاء جار النبي في صحبة والده من مدينة نيالا..من هنالك ابتدأت علاقة صداقة بشكل غريب ..تحرش أحد تلاميذ الصفوف المتقدمة بي فتصدى له جار النبي..كانت تلك معركتنا الأولى في الحياة ..كسبناها معاً من تلك الموقعة اقتربت قلوبنا.
زادت العلاقة رسوخاً حينما وصلت لأسرتنا ..كان يفصلنا شارع كبير..أختي فائزة باتت صديقة شقيقته إنصاف..أمه ست النفر باتت تمر على أمي كل صباح في رحلة شراء الخضار من سوق كوبر..في الأمسيات تجمعنا المذاكرة..يوم هنا ويوم هناك..في نهاية الأسبوع نمضي لسينما كوبر..هنالك ولد حلمنا للالتحاق بالجيش..شرطة السجون لم تكن تشبع طموحنا لخوض معارك رأيناها في السينما.
مضت خطتنا كالمعتاد..نجحنا بتفوق في امتحان الشهادة الثانوية..شققنا طريقنا لاختبارات الكلية الحربية..اجتزنا كل الاختبارات..الاختبار الكبير والآخير كان اختبار مقابلة القائد..هنا افترقنا..لم يظهر اسم جار النبي في القائمة النهائية.. تقبل الخبر فيما أدمعت عيناي..أخبرته أنني لن أذهب إلى الكلية الحربية دون رفقة صديق عزيز..هون علي مسح على رأسي برفق..ابتسم حينما قال لي ” الآن تحقق نصف الحلم يا خالد”.
كنت اشتاق لنهاية عطلة الأسبوع لألتقي صديقي جار النبي ونذهب معاً للسينما.. لم يعد في عينيه ذاك البريق..معدل اللهفة بدأ ينخفض من جانبه..كنت أزور منزل خالتي ست النفر وأمكث ساعات دون أن أحظى بلقاء صديقي..ذات مساء قابلته صدفة في دكان الزين الفوال..أخبرني انه اكمل التقديم للجامعات الهندية ..بعدها غاب عن حياتي..علمت أن الأسرة عادت لنيالا بعد تقاعد عم عثمان يعقوب.
في إحدى الدورات الحتمية بجبيت التقيت بضابط صغير من أبناء نيالا..نقل لي الضابط أسوأ خبر..تمرد جار النبي والآن يقود استخبارات إحدى الحركات المسلحة..لم يكتفِ الضابط بذاك الخبر..مدني بتفاصيل أن حار النبي الآن من أشرس قادة التمرد..منذ ذلك التاريخ كنت أخشى هذه المواجهة..ترتجف يدي حينما تحتل ذكراه ذاكرتي..أخاف أن تصيبه رصاصة صادرة من بندقيتي ..حينما نقلت إلى شمال دارفور بدأ كابوس جار النبي يسيطر علي..وددت أن التقيه ..حتماً سأقنعه أن يلقي عن كاهله السلاح.
وقفت أمام جار النبي وجهاً لوجه..طلبت من جنودي ان يفكوا قيوده ..حاول كلانا النظر في عيني الآخر ..ارتد البصر إلي حيث الذكريات..كانت الغرفة الضيقة بسعة قشلاق كوبر..طلبت من جنودي أن يردوا له سلاحه الشخصي..هتفت في وجهه “خلف دور يمين مارش”..استجاب لتعليماتي..حينما أكمل استدارته للوراء لمحت الدموع تنزل بغزارة على وجهه الأغبر.. أصدرت تعليمات مشددة لجنودي ألا يعترض أحدهم طريق جار النبي ..كنت أدرك أنني أخالف القواعد العسكرية وعلى استعداد لدفع الثمن ولو كان الطرد من الخدمة..كتبت كل ما حدث في تقرير وطلبت من أحد الضابط ان يحمله صباحاً إلى الفاشر.
بعيد صلاة الفجر عاد جار النبي لمعسكرنا على رأس قوة مسلحة..رفعوا الراية البيضاء على رأس سياراتهم ذات الدفع الرباعي..كانوا نحو مئتي فرد مسلح..خشي ضباطي أن يكون الأمر مجرد حيلة لاحتلال معسكرنا..كنت واثفاً أن جار النبي لا يفعل ذلك..تقدمت نحوه أعزل من كل سلاح.. حينما وصلت عربته ترجل..تعانقنا بشدة..كانت الدموع حاضرة بشدة.
جاءنا قائد اللواء في المساء مهنئاً.. سألني ماذا تطلب من مكافأة قلت له أن يكون جار النبي بيميني..وعدني أن يرفع الأمر للقائد العام.