حنة العيد في السودان من طقس اجتماعي إلى تجارة رابحة
حنة العيد طقس نسوي سوداني قديم خاص بالمتزوجات، ينقشن فيه الحناء على اليدين والقدمين، في السابق كان طقسا اجتماعيا تقليديا، حيث تتجمع مجموعة من الجارات في منزل إحداهن يتبادلن رسم الحناء، أو تقوم بذلك إحدى المتطوعات من ذوات الخبرة من فتيات الحي، لكن ذلك كله أصبح من الماضي أو في نطاق ضيق في القرى والبوادي.
لحنة العيد أصول وعادات وأذواق تكونت عبر السنين، حيث تكتفي المرأة بعد سن الأربعين بنقوش خجولة ومحتشمة تتركز على أسفل القدمين ومقدمة البنان ونقش خفيف على الكف، أما المرأة في نهاية الأربعينات فتكتفي في العيد بتخضيب البنان وأسفل القدمين – وحدها الشابة التي تسرف في نثر النقوش على اليدين والقدمين إلى منتصف الساق برسوم لا تخلو من السحر والأنوثة، أما الفتاة غير المتزوجة فلا يسمح لها بتاتا -لكن مؤخرا تخلى المجتمع عن صرامته وأصبحت الفتيات يضعن نقوشا جريئة على الكفين تفيض بالعواطف الجياشة، فغالبا ما ترسم فراشة حائرة أو زهرة غامضة أو رسما سورياليا تجريديا لا يخلو من الإغراء البريء.
تحولت جلسة الحناء كما يسمونها في السودان إلى حرفة رائجة تمارس في صوالين أنيقة تشرف عليها “الحنانات” المحترفات بمبالغ تتضاعف في المناسبات.
الحنانة – أي التي تمارس رسم الحناء – تتحول في الأعياد إلى نجمة لا تحظى بمقابلتها إلا بمواعيد أولية مسبقة تؤكد فيما بعد أو تؤجل إلى حين وقد تلغى بالكامل.
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تلغي امرأة سودانية جلسة الحناء، فهذا طقس لا يكتمل العيد إلا بممارسته على أحسن وجه في مجتمع صارم لا يحبذ التجميل بطرق عصرية.
نفوش الحناء مع أسوار ذهبية وأقراط في الأذن هي ماورثته السودانيات عبر القرون وظل صامدا بجوهره مع تغيرات خفيفة بعد تحولات اجتماعية طفيفة، ودخول روافد أجنبية، لكن الحناء مع الثوب والأسوار ظل شكلا ثابتا تتجلى به المرأة السودانية في الأعياد والمناسبات.
تقول السيدة مها الرضا، صاحبة صالون مسز لندن، إن الحناء ليس طقسا تجميلا وحسب، ولكنها تعكس السعادة العائلية والدلال الذي تحظى به الزوجة في حياتها.
وتضيف الرضا أن حنة العيد لاغنى عنها إطلاقا وإلا سوف تتعرض المرأة إلى تساؤلات وشكوك بخصوص سعادتها الزوجية.
وعن الحنانات تقول مها الرضا إن رسم الحناء مهنة لها أصول صارمة تبدأ من عجن الحناء لتكون طرية بدرجة محددة، حيث تعجن مع العطور الهندية، مثل الميسو ثم ترسم بعد دهن القدمين والكفين بزيت المحلبية لتعطي الحناء بريقا ولمعانا، لكن لجلسة الحناء أسرار لا يعرفها الرجال.
تقول مها الرضا إن جلسة الحناء تتحول إلى منتدى حوار نسائي يطرحن فيه مشاكلهن بحرية وجرأة كبيرة، ويتحللن من كل القيود وينطلقن في فضفضة معلنة يحكين فيها حياتهن في مجتمع يهيمن عليه الرجال. وتضيف الرضا: في الغالب تتناول تلك الحوارات المشاكل الزوجية وكيفية المعاملة مع الرجال حتى تمضي الحياة بدون مشاكل، وفي الغالب تتصدر إحداهن طرح تجربتها مع الزواج ثم تتحول إلى محاضرة عن فن التعامل من أجل الحفاظ على الأسرة متماسكة وتجنب الخلالفات.
الحنانات فنانات تشكيليات شعبيات يستوحين نقوشهن ورسومهن من الطبيعة ومن الحياة من حولهن، وتحتاج مهنتهن إلى درجة عالية من التركيز لأن أي خطأ لا يغتفر، خاصة بعدما أصبحت الحناء تخلط بصبغة البيجن، ما يجعلها سريعة التماسك والظهور.
“العربية.نت” حاولت أن تقتحم ذلك العالم الحريمي الساحر المغلف بالأسرار -ولكن ليس سهلا بل محرما بتاتا أن تقتحم عتبة صالون الحنانة قدما رجل، لذلك لم يكن هنالك سبيل آخر سوى إجراء الحوار مع إحدى الحنانات المشهورات التي فضلت حجب اسمها عبر التلفون.
تقول الحنانة “س ن”: الثلاثة أيام التي تسبق العيد هي ليالٍ ذهبية لكوافير الحناء، حيث تستقبل بين 300 و400 امرأة في الليلة الواحدة بمتوسط دخل يفوق 70 الف جنيه أي ما يعادل عشرة آلاف دولار.
حمى حناء العيد تتجاوز صوالين التجميل وتجتاح المنازل أيضا، حيث تحول كصير من الحنانات منازلهن إلى صالون مؤقت تستقبل فية النساء وتحدد المواعيد عبر التلفون.
الحنانات المشهورات يمكن أن يجنين ثروة من المال في ثلاثة أيام، حيث تتبادل نساء المجتمع المخلي أرقام هواتفهن، وتبدأ المضاربات في السعر ليحظين بجلسة لرسم الحناء في اللحظات الأخيرة قبل العيد بساعات لتكون في حنتها في بريق يخلب الأذهان.
الأرباح الطائلة للحنانات جذبت بعض خريجات كلية الفنون الجميلة لدخول ذلك العالم المتنامي في تطوره وأصبحت أقدام النساء وكفوفهن لوحات متحركة.
شهرة الحنانات السودانيات أطبقت الآفاق وخرجت خارج الحدود إلى بعض دول الخليج ومصر وأوروبا، وقلما يخلو من معرض للتبادل الثقافي من حنانة ترسم للعابرين نقوش سريعة في شيء من المرج والبهجة.
لكن شبحا بدأ يلوح في الأفق قد ينسف تلك المهنة ويجعلها من الماضي، ويحول الحنانات إلى متقاعدات على رصيف الحسرة، خاصة مع تسارع إيقاع الحياة حيث أنتجت بعض الشركات الصينية قوالب بلاستيكية جاهزة تحتوي على أشكال مختلفة من النقوش يمكن للمرأة أن ترسم الحناء دون الحوجة لحنانة، لكن مها الرضا متفائلة ومطمئنة لديمومة مهنة الحنانة يعكس رغبة المرأة الشرقية في الدلال (social event) تقول مها إن جلسة الحناء.
وتضيف مها لحظة رسم الحناء لحظة توحد بين امرأتين يتداعين في حديث عميق لا تقوله المرأة إلا لامرأة أخرى.
العربية نت