أمريكا ترفع العقوبات جزئياً.. طريق “التطبيع” يبدأ بخطوة
عندما أُعلن أمس الأول (الأربعاء) عن معاملات بنكية مسموح بها بين السودان والولايات المتحدة الأمريكية في إطار برنامج العقوبات المفروضة منذ أكثر من 19 عاماً، تنبه كثير من المراقبين إلى أن ثمة جديد في العلاقات السياسية المتأرجحة بين الخرطوم وواشنطن، وأن أوراقاً سياسية عديدة قد استخدمت من أجل الوصل إلى هذه النتيجة التي لا تُعد كافية حتى الآن للخرطوم رغم ما بذلته من “جهود دبلوماسية” واسعة، وما قدمته من (تنازلات) أثارت كثيراً من النقد، حيث يرى المحللون أن الخطوة بمثابة “فتح شهية” للسودان لإجراء مزيد من الإصلاحات السياسية وإيقاف الحرب وإنجاز تسوية مُرضية لكافة الأطراف. لكن للخطوة الأمريكية الاستثنائية، بعداً آخر شديد التأثير على السودان الذي كاد أن “يختنق” اقتصادياً جراء تداعيات الحظر الاقتصادي الأمريكي، إذ يعتقد الخبراء أن الخطوة ستحدث انفراجاً في أزمة التحويلات المصرفية التي أنهكت البلاد وتسببت جزئياً بفوضى سوق النقد الأجنبي وخفضت سعر “الجنيه السوداني” إلى مستويات غير مسبوقة، كما ينتظر الاقتصاديون من الخطوة الأمريكية، إعادة المصارف السودانية إلى مقاصة التسويات العالمية، ودعم انضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية، وغيرها من التأثيرات الاقتصادية التي قد تساعد في تحريك عجلة الإنتاج.
أمريكا ترفع العقوبات جزئياً.. توقُّعاتٌ باستقرار سعر الصرف
حينما دعت الإدارة الأمريكية محافظ البنك المركزي عبد الرحمن حسن للمشاركة في مؤتمر بشأن التعامل المصرفي مع السودان لم يتوقع كثيرون أن تتراجع واشنطن قليلاً عن موقفها الرافض للتعامل مع الحكومة السودانية. إلا أن عودة المحافظ ولقائه بالرئيس البشير أكدت تلك التوقعات حينما قال المحافظ للبشير إن واشنطن وعدت الخرطوم بأن تصدر قراراً بنهاية الأسبوع يُنهي الحظر المصرفي.
أمس الأول كشفت وزارة الخارجية الأمريكية عن معاملات بنكية مسموح بها مع السودان في إطار برنامج العقوبات التي تفرضها على الخرطوم، هذا القرار غيّر المسارات الظنية لكثيرين، وبالتالي أبدوا تفاؤلهم بالخطوة ووصفوها بأنها مؤشر جيد لرفع كل للعقوبات المفروضة على السودان منذ أكثر من تسعة عشر عاماً.
ودعت الإدارة الأمريكية السودان إلى مراجعة مكتب مراقبة الأصول الأجنبية باعتباره الوكالة التي تدير العقوبات الاقتصادية الأمريكية على السودان لمعرفة المعاملات المسموح بها. ويتيح مكتب العقوبات الأمريكية للسودان توفير مجموعة من الخدمات القانونية “التحويلات غير التجارية والتحويلات الشخصية، المعاملات الخاصة بالاتصالات، تصدير أو إعادة تصدير المواد الغذائية إلى السودان”. وكان المؤتمر الذي شارك فيه السودان الأسبوع المنصرم أكد عدم وجود قيود للتعامل مباشرة مع السودان بكل العملات عدا الدولار وقال إن الرخص الممنوحة للسودان تشمل أنشطة التقنية الحديثة والاتصالات وتكنولوجيا المدخلات الزراعية. وتوقع اقتصاديون أن يُحدث القرار انفراجاً للتحويلات المصرفية وأن ينعكس إيجاباً على استقرار سعر الصرف وينهي الصعوبات التي تواجه المستوردين والمصدرين. ويقول الخبير المصرفي شوقي عزمي إن فك الحصار المصرفي يُفضي إلى سرعة تنفيذ عمليات الاستيراد من خلال إتاحة الفرص لاستيراد سلع ذات جودة تحول دون اللجوء إلى البدائل. إلا أن نائب الأمين العام لاتحاد الصرافات السابق عبد المنعم نور الدين يقول إن الخطوة سوف تجنب الجهاز المصرفي المخاطرة في التحويلات التي ترفع من العمولات وتجعل البنوك تتعامل مباشرة مع المراسلين بعد أن ظلت المصارف السودانية خارج مقاصة التسويات العالمية.
ويُبدي كثيرون أملهم في أن تنجح الخطوة في فتح اعتمادات لاستيراد مدخلات الإنتاج وقطع الغيار للقطاعات الزراعية والصناعية مما يساعد على تحريك عجلة الإنتاج كما يتوقع أن تساعد في انضمام السودان لمنظمة التجارة العالمية التي تمنع قوانينها العقوبات الأحادية على الدول الأعضاء.
وأشارت تقارير إلى أن حظر التحاويل المصرفية عرّض البنوك لمشاكل عديدة حالت دون قيام البنوك بدورها في التنمية وتمويل القطاعات المختلفة بسبب ضعف رأس المال والذي ترتب عليه ضعف التمويل.
وكان أمين الأمانة الاقتصادية بالمؤتمر الوطني الدكتور حسن أحمد طه صرح في وقت سابق بأن العقوبات المصرفية على السودان خرجت من الأحادية إلى الدولية وأن جميع البنوك التي تعاملت مع السودان في فترة الحظر تم تغريمها بواقع 18 مليار دولار على رأسها بنك باركليز الذي وافق على سداد حوالي 300 مليون دولار لوزارة العدل الأمريكية لتسوية اتهامات جنائية لانتهاكه عقوبات أمريكية في تعاملات مع كوبا وإيران وليبيا والسودان. وفي تقرير لصحيفة ووول ستريت الأمريكية كشف تحقيق عن تورط تسعة بنوك أوروبية من بينها “باركليز” ومجموعة “ليدز” و”كريت سويس” السويدية تعمدت التهرب من القوانين الأمريكية في تقديم المساعدات للدول الواقعة تحت عقوبات الحظر الاقتصادي “السودان وإيران وكوبا” مما استدعى فتح تحقيق دولي، وكشف التحقيق أيضاً عن قيام ثلاثة بنوك أخرى “لم يسمها” بدفع ملايين الدولارات لتسوية القضية. وليس بعيداً عن ذلك، معاقبة البنك الفرنسي “بي إن بي- باريبا” وتغريمه (6.45) مليار يورو للحكومة الأمريكية بعد أن اعترف بعدم احترامه لقانون فيدرالي أمريكي يمنع التبادلات التجارية والصفقات المالية مع ثلاث دول وهي كوبا وإيران والسودان.
خطوة الحوار بين السودان وأمريكا الأخيرة في تقديري كانت “موفقة” في سبيل ترقية العلاقات بين السودان والولايات المتحدة الأمريكية.. هذا ما ذهب إليه الخبير الاقتصادي دكتور هيثم محمد فتحي، مستنداً في تقديره على أنها جاءت بعد مطالبة السودان المتكررة في ذات الشأن خاصة الزيارات الأخيرة المتكررة لمنظمات المجتمع المدني ومطالبة الكثير منهم. واعتبر الدكتور هيثم فتحي أن خطوة إنهاء أزمة التحويلات تأتي تمهيداً لرفع الحظر الكلي عن السودان بسبب ضغوط اللوبي المسيطر داخل أميركا فضلاً عن انزعاج أمريكا من اعتماد السودان على دول الشرق التي تتمثل دولتي الصين واليابان. ويمتلك بنك السودان قبل العقوبات المصرفية شبكة من المراسلين يتراوح عددهم بين 45-50 مراسلاً تقلص هذا العدد إلى 5 مراسلين بسبب القيود المصرفية. ويرجِّح محللون أن تكون الخطوة إحدى المرجعيات لإلغاء الديون على السودان أو أن تسمح لإعفاء كلي أو جزئي للديون البالغة 46 مليار دولار لم تفلح كل المجهودات في إعفائها برغم استيفاء السودان لكل الشروط الفنية. وتوقع فتحي أن يكون للسودان نصيب كبير من القروض والهبات والمنح لكنه يشدد في ذات الوقت على تحديد القنوات المصرفية التي تمهد العمل بين السودان وأمريكا.
وقال تعميم صحافي صادر عن سفارة الولايات المتحدة بالخرطوم إن وزارة الخارجية الأمريكة استضافت مؤتمراً حول العقوبات الأمريكية على السودان بغرض شرح أنواع الأنشطة المسموح بها في ظل العقوبات وتوضيح ما لا يزال محظوراً.
وأوضح المبعوث الخاص للسودان وجنوب السودان دونالد بوث أن الولايات المتحدة تأمل في رؤية السودان يتمتع بسلام داخلي واستفادة كاملة من الشراكة مع المجتمع الدولي. وأبدى بوث عن أمل حكومة الولايات المتحدة أن يستفاد من التصاريح والتراخيص الموجودة على أكمل وجه لصالح الشعب السوداني، وكثير منها ذو طبيعة إنسانية.
وشجع بوث المؤسسات المصرفية أن تستفسر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، وهي الوكالة التي تدير العقوبات الاقتصادية الأمريكية على السودان لتوجيهات بشأن معاملات محددة، وقال: “عندما تكون في شك، أسال”. إلا أن نائب مساعد وزير الخارجية أندرو كيلر قال: “إننا نريد شركات القطاع الخاص أن تَفهم نطاق الأنشطة التجارية المسموح بها بموجب العقوبات الحالية، بما في ذلك المعاملات التجارية المسموحة”. ومثالاً لذلك فقد أوضح مسؤولون أمريكيون حدود الولاية القضائية للعقوبات الأمريكية للمعاملات التي لا تشمل السلع الأمريكية أو أن يكون لها صلة بالولايات المتحدة. وأوضح كيلر أن التحويلات غير التجارية والشخصية وللعمليات الإنسانية مسموح بها في إطار برنامج العقوبات على السودان. وأكد كيلر أن العقوبات الفعالة ليست لجعلها وسيلة ضغط فقط بل جعل تخفيفها ملموساً. وتم تطبيق الحظر الأمريكي الاقتصادي على السودان في نوفمبر من العام 1997م في فترة الرئيس الأمريكي بل كلينتون بواسطة القرار 13067 الذي قضى بفرض الحظر التجاري على دولة السودان. وبحسب تقارير أمريكية فإن قيمة العمليات الاستثمارية التي تم تعطيلها للفترة ما بين 2000-2008م بلغت 745.300.000 دولار وفي أكتوبر من عام 2009م قام الرئيس أوباما بتجديد الحظر على السودان وتمديده في يناير نوفمبر 2013م. وفي أواخر العام 2015م كشف وزير الزراعة الدخيري أن أميركا تدرس حالياً استثناء محصولي السمسم والقوار من القيود المفروضة على السودان وذلك أسوة بالصمغ العربي المستثنى من العقوبات، كما قررت الإدارة الأمريكية في عام 2010م تخفيض الحظر على تصدير المعدات والخدمات الزراعية إلى السودان.
أمريكا ترفع العقوبات جزئياً.. حافزٌ جديد لتعاونٍ سياسيٍّ قديم
قرار الإدارة الأمريكية الذي سمح بمعاملات مصرفية محدودة مع السودان، قد يبدو في ظاهره قراراً اقتصادياً ومصرفياً، إلا أن المنطق يُشير إلى أنه جوهره سياسي، إذ أن القرار وليد لمتغيرات سياسية كثيرة طرأت على العلاقة بين الخرطوم وواشنطن.
(الصيحة) طرحت على المحللين السياسين والخبراء في الشأن الأمريكي حزمة من التساؤلات لتقرأ من خلالها تداعيات عملية الرفع الجزئي للعقوبات الأمريكية عن السودان، ومن أجل التعرف إن كانت العقوبات التي تم رفع جزء منها خاصة بجانب الإدارة الامريكية التنفيذية أم المنصوص عليها في قانون العقوبات التشريعي الذي أصدره الكونغرس، وما هي الخطوات التي أحرزها السودان في الملفات التي اشترطت الإدارة الأمريكية على السودان إنجازها والمرتبطة بملف السلام في دارفور والمنطقتين وملف الإرهاب والهجرة غير الشرعية التي تعرف اصطلاحاً بالإتجار بالبشر.
في هذا السياق يقول المحلل السياسي د. حسن مكي إن السودان أوفى بما يزيد من المطلوب منه تقديمه في هذه الملفات، لكن (الأمريكان) تعاملوا معه بالتقسيط عندما أعلنوا عن رفع جزئي للعقوبات، موضحاً أنه كان يتوقع حسب المصفوفة الأمريكية رفعاً للعقوبات بنسبة (100%) وليس جزئياً.
واعتبر مكي، الخطوة الأمريكية “فتح شهية” للسودان، أي تحفيزه لتقديم المزيد والإيفاء بالتزامات سياسية أخرى، وفهم مكي من الخطوة الأمريكية أنها رسالة مفادها “مازلنا نطمع في المزيد”. وعن عملية رفع العقوبات التشريعية التي فرضها قانون الكونغرس قال مكي: “لايزال الوقت مبكراً”. معتبراً ما تم من رفع مجرد إشارات، لأن العقوبات تشمل التعامل بالعملة الأمريكية (الدولار) التي هي أساس الاقتصاد السوداني، إذ لا يزال التحويل بالدولار عبر البنوك ممنوعاً وكذلك التعامل مع البنوك الأمريكية التي تملك أسهماً في أي بنك في العالم، وكذلك التعامل مع الصناعات الأمريكية. وغير ممسموح مثلاً الآن للخطوط الجوية السودانية شراء طائرات (البوينج) الأمريكية وكذلك السكك الحديد. وأبدي مكي أمله في أن يتم رفع كل العقوبات الأمريكية قبل (20 نوفمبر) موعد الانتخابات الأمريكية ونهاية فترة الرئيس أوباما، مؤكداً أن السودان أوفى بكل المطلوب منه لكن ما تم مقابله هو رفع جزئي للعقوبات الهدف منه فتح شهيته لتقديم المزيد. وعن الأثر الذي أحدثته مطالبة إسرائيل واللوبي الصهيوني للإدارة الأمريكية في وقت سابق برفع العقوبات عن السودان، قال مكي إن اللوبي الصهيوني والكنسي في الوقت الحالي لا يتحركا ضد السودان كتكتل وإنما يتحركان كأفراد وكل شخص متروك له الخيار في تحديد موقفه، مؤيد أو معارض.
من جانبه يقول أمين العلاقات الاقتصادية بالمؤتمر الشعبي د. بشير آدم رحمة إن العقوبات الأمريكية التي فُرضت على السودان كانت من جانب أحادي جلها يتعلق بمشكلة دارفور، وقال د. بشير لـ “الصيحة”: “هناك عقوبات كبيرة وأساسية مرتبطة بإصلاحات داخلية وصدرت بقانون من الكونغرس ولا تُلغى إلا منه وهي المرتبطة بالسلام في دارفور والمنطقتين ومحاربة الإرهاب والتحول الديمقراطي”. مبيناً أنه في حال تمت هذه الإصلاحات ستوضع الحكومة السودانية تحت المراقبة لفترة قد تصل لستة أشهر لاختبار مصداقيتها فيما تم من تحول إيجابي في المواضيع آنفة الذكر. هذا فيما يتعلق بالعقوبات الصادرة من الكونغرس، منوهاً إلى أن هناك عقوبات صدرت بأوامر من الإدارة التنفيذية في البيت الأبيض المتعلقة بالتحويلات المالية والتعاملات التجارية ووضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهي شأن مختلف. ويرى د. بشير أن القرار الأخير هو رفع جزئي لحظر التحويلات المالية الشخصية الخاصة بالطلاب والرحلات العلاجية والسياحية، إلحاقاً لما تم من رفع الحظر في فترة سابقة عن السلع الإلكترونية والمعدات الزراعية عموماً والصمغ العربي، وهذه جميعها يتطلب التعامل فيها مع السودان الإذن من مكتب مراقبة الأصول الخارجية (اوفاك). وأشار د. بشير إلى أن رفع الحظر في القرار الأخير لا يشمل التعامل التجاري البنكي للصادر والوارد بين السودان وأمريكا والتعامل الذي يقتضي تحويلات للاستثمار وقال إن هذه جميعها لا تزال في قائمة الحظر، لكن ما تم يعد خطوة في الاتجاه الصحيح. وعن مطلوبات رفع الحظر الكلي قال إنه يتوجب على الحكومة السودانية أن تعمل جادة للوصول لسلام حقيقي وتحول ديمقراطي يتيح التنافس الحر للوصول لكرسي السلطة.
وفي تعليقه على ما قدمته الحكومة السودانية في الملفات التي طلبت الإدارة الأمريكية تعاون السودان فيها، أبان أن الحكومة السودانية أبدت تعاوناً في هذه الملفات ونالت رضىً أمريكياً خاصة مكافحة الإرهاب. ويتفق د. بشير مع د. حسن مكي بقوله إن الإدارة الأمريكية لا تزال تطلب المزيد من السودان بمساعدتها في الوصول لسلام في دولة جنوب السودان وأيضاً في ليبيا والقرن الإفريقي وأيضاً في مجال مكافحة الإتجار بالبشر رغم أنه لا يهم أمريكا بالدرجة الأولى لكنه يهم حلفاءها في أوربا. وعن توقعاته بحدوث مزيد من الانفراج وصولاً لرفع كامل للحظر قال: “لا تزال هناك فرصة للسودان للخروج من العزلة وهي متاحة في الحوار، وإن المطلوب من حكومة المؤتمر الوطني أن تسعى للوصول إلى تراضٍ مع المعارضة في الحريات ونظام الحكم وكافة المحاور المطروحة على طاولة الحوار أي عليها أن تقول (بيدي لابيد عمر) حتى لا تترك مجالاً لحملة السلاح ليزاودوا في المستقبل ويدَّعوا أنهم جاءوا بالحريات وإصلاح نظام الحكم- على حد تعبيره.
الخرطوم: الطيب محمد خير – عاصم اسماعيل
صحيفة الصيحة
ما اصدق الصداقة بعد العداوة امريكا والسودان علاقاتهم حتبقي من اقوي العلاقات قريب.فقط يا البشير غادر السلطة و