تحقيقات وتقارير

الدواء..ينهار المواطن ليبقى القطاع

حينما قررت جمعية حماية المستهلك, في الربع الأخير من العام (2011) قيادة حملة لمقاطعة اللحوم البيضاء والحمراء والطماطم والبيض لارتفاع أسعارها بصورة جنونية، قال الأمين العام للجمعية د. ياسر ميرغني, إن الحملة تأتي تحت شعار (الغالي متروك) وعنوانها (قاطعوهم حتى تبور سلعهم ). وعبر ميرغني عن ثقته في نجاح الحملة في تخفيض الأسعار, وقال إن المقاطعة لو استمرت ثلاثة أيام فقط, فإن الأسعار ستعود إلى (رشدها) لأن السلع ستبور وتتلف. اليوم, الكرة ولجت مرمى الدكتور الصيدلي ياسر ميرغني، والذي بلا شك قد يكون فتح فاه مستغربًا لزيادة أسعار الأدوية بنسبة تراوحت بين الـ( 60%) الى(150% )، قبل أن يتم التراجع والإعلان عن أسعار أدوية الأمراض المزمنة، ولن يستطيع أن يعلن حملته التي أعلنها من قبل ضد اللحوم بسبب ارتفاع الأسعار , لأنه لا يمكن ترك الدواء الغالي هنا، فنتيجة ذلك معروفة.
قرار كارثي
القرار الذي أصدرته الحكومة بتحرير أسعار الدواء الأسبوع الماضي قبل أن تتراجع في مؤتمر وزير الصحة نهار أمس, عن جزء من أدوية الأمراض المزمنة كالسكري والضغط وغيرهما, وإقالة الأمين العام للصيدلة والسموم. وبسبب قرار التحرير قفزت أسعار الأدوية إلى أضعاف سعرها السابق، يعتبر من القرارات الكارثية التي اتخذتها الحكومة في مسيرتها التي امتدت (27) عامًا، فهو ليس أقل من توقيع اتفاقية نيفاشا وما جرته من كوارث على السودان، وليس أقل من قرار تأييد دخول صدام حسين للكويت، بل إن قرار رفع الدعم عن أسعار الدواء يكاد يكون هو الأعظم لأنه يمس المواطن مباشرة, ولا يمس سياسات أو جهات محددة.
وقفت بالأمس أمام صيدلية المك نمر بالخرطوم شرق، أتابع رد فعل من يدخلون الصيدلية ويخرجون. ومعروف أن تلك الصيدلية تقع في شارع المك نمر مما يعني أن معظم من يدخلها يعدون من ميسوري الحال، لأنها لا تقع في حي طرفي بل في قلب الخرطوم، لاحظت أن معظم من اشتروا أدوية بل ومن تحدثت معهم, يؤكدون إن لم يتم التراجع عن تلك الزيادة في أسعار الأدوية أو أية معالجة يمكن أن تخفض سعره, فإن كارثة ستحل بهذا البلد.
حسبي الله
إدريس محمد إبراهيم, خرج من الصيدلية مستاءً بعد أن عرف أن سعر الدواء الذي كان يستخدمه من قبل زاد سعره من (74) جنيهاً إلى (170) جنيهاً، وحينما أردت أن أسأله عن إمكانية شرائه، رمقني بنظرة حادة, كأنني أنا الذي حررت الدواء , واكتفى بقوله (حسبي الله ونعم الوكيل) وكررها ثلاثاً. لقد جاء تبرير الحكومة لتلك الزيادات في الدواء لمنع انهيار القطاع والذي يحتاج لـ (400) مليون دولار، وهو الأمر الذي أدى لحدوث ملاسنات بين وزيرة الدولة بالصحة سمية أكد وبعض الصيادلة في ندوة عقدت الأسبوع الماضي بالخرطوم.
فحديث الوزيرة وتبريرها للزيادة لم يكن مقنعاً, لأن الحكومة في الأصل كانت تدفع لشركات الأدوية (10%) فقط لاستيراد الأدوية بالسعر الرسمي الذي كان سائدًا آنذاك وهو( 6.5) للدولار مقابل الجنيه، بينما تقوم الشركات بتوفير الـ (90%) من السوق السوداء حسب السعر الجاري. أي أن الزيادة التي أقرها مجلس الأدوية والسموم لا تتناسب والـ (10%) التي تم عدم منحها للشركات لاستيراد الأدوية. وقد فعلت الحكومة خيرًا أن أقالت الأمين العام لمجلس الأدوية والسموم أمس, وذلك للتسعيرة التي أقرها المجلس. ولكنني أعتقد أن السبب الرئيس في ذلك, هو تلك الشركات التي كانت تنهب ملايين الدولارات من البنك المركزي مستخدمة أسماء وهمية ادعت بها أنها تعمل في استيراد الدواء. الوزيرة سمية أكد, لم تكتف بالتبرير للزيادة أعلاه, بل قالت إن نسبة الـ(10%) المخصصة للدواء من حصيلة الصادرات لم تزد عن (46) مليون دولار. بل وأوصت المواطنين بالدخول تحت مظلة التأمين الصحي، موضحة أن وزارة المالية رفعت اشتراكات التأمين الصحي للفقراء.
ليت وليت
ليت الوزيرة سمية أكد تحمل يوماً بطاقة التأمين الصحي المعروفة باسم شوامخ والتي تتبع لولاية الخرطوم, أو بطاقة التأمين الصحي القومية, لتدرك معاناة المرضى الحقيقية في الحصول على الدواء، صحيح أن بطاقة التأمين تمكنك من مقابلة الطبيب أو الاختصاصي وإجراء الفحوصات، لكن بكل تأكيد لا تمكنك من الحصول على معظم الأدوية المكتوبة, مما يعني أن خيار اللجوء للتأمين الصحي لمواجهة ارتفاع الأسعار سيكون كخيار (المستجير من الرمضاء بالنار)، اللهم إلا إذا تم تعديل قائمة الأدوية المدرجة في التأمين الصحي، فإن ذلك الخيار يصبح فاعلاً.
عدد من الصيادلة طالبوا بالتراجع عن قرار زيادة أسعار الدواء، مشيرين إلى ارتفاع أسعار بعضها بنسب كبيرة مثل بخاخات الأزمة. وطلب رئيس اللجنة التمهيدية لشعبة الصيدليات حمدي أبو حراز من الحكومة, العدول عن القرار أو تجميده، واعتبره سابقة في تاريخ السودان. ونوه إلى أن القرار سيؤدي إلى تدني سمعة الصيدليات وانهيار رأسمالها وفشلها في توفير الأدوية بما فيها مسكنات ألم بسيطة، لافتاً إلى أن الصيادلة في خط المواجهة مع المرضى وأن ذلك لا يرضيهم ولا يرضي المرضى أخلاقياً.
دفع الثمن
رئيس شعبة الصيدليات نصري مرقص, يؤكد في حديث له, أن قرارات البنك المركزي سيدفع ثمنها الفقراء من المرضى, وهم من سيدفعون ثمن هذا الخطأ. ويرى مرقص عدم وجود أية إيجابيات لقرارات البنك المركزي، واصفاً مبرراته بأنها مضللة وغير حقيقية.عضو لجنة الصحة بالبرلمان هاشم سوار الدهب, في حديث للجزيرة نت, يرى أن نتائج هذه الزيادة ستظهر خلال الشهر المقبل، وربط استقرارها في معدلات محددة بضرورة توفير البنك المركزي للعملة الحرة. وعاد ليقول إن تغيير سعر صرف للدولار من سبعة جنيهات إلى 15.800 جنيه سيرفع الأسعار (لكن هذه النسبة لن تصل بأي حال إلى ثلاثة أضعاف). واستبعد سوار الدهب, حدوث شح في الأدوية, (لأن ذلك كان سيحدث بسبب فشل البنك المركزي في توفير العملات الحرة المطلوبة للاستيراد)، مضيفاً (أما الآن فيمكن للشركات أن تلجأ إلى السوق الموازية لتوفير الأدوية).
عدم وجود تناغم
طلب هيئة التأمين الصحي لولاية الخرطوم، ووزارة الرعاية والضمان الاجتماعي لتعديل الاشتراكات المالية للأسر الفقيرة تحت مظلة التأمين الصحي، بجانب إيجاد معالجات فورية لمواجهة الزيادات في تسعيرة الدواء والزيادات المتوقعة في تكلفة العمليات الجراحية عبر مستشفيات التأمين الصحي، هذا الطلب يؤكد عدم وجود تناغم في مؤسسات الحكومة، فطيلة كل تلك الفترة كانت هيئة التأمين الصحي غائبة، بجانب وزارة الرعاية الاجتماعية والتي مناط بها أن تقوم بالدور المجتمعي للفقراء والمساكين ولغير القادرين على مجابهة ارتفاع أسعار الأدوية، وإلى أن تجتمع تلك المؤسسات وتفكر في كيفية وماهية زيادة دعم الأسر الفقيرة، فإن كثيراً من الأسر ستعاني من القرار وآثاره. وأن وزارة المالية التي تقول إنها تتكفل بـ (300) ألف أسرة فقيرة من خلال تغطيتهم تحت مظلة التأمين الصحي، ستجد أن قرار تحرير الدواء أدخل(300) ألف أسرة فقيرة جديدة دائرة الفقر, مما وفرته وزارة المالية والبنك المركزي من تحرير الدواء ستجد نفسها تدفعه على الفقراء من بند الكفالة.
الشركات الوهمية
وبالنظر لتداعيات القرار وصدوره, نجده لا ينفك من قضية الـ (34) شركة وهمية التي أشرنا لها سابقًا, والتي احتالت واستولت على ملايين الدولارات من البنك المركزي لشراء أدوية، وبمعاونة موظفين بالبنك المركزي بحسب ما قال وزير العدل، فالحكومة استخدمت القاعدة العسكرية (الخير يخص والشر يعم)، في التعامل مع شركات الأدوية، ونسيت أن مجلس الأدوية والسموم حينما اكتشف أنه تم تزوير بعض أختامه وإمضاءاته من قبل الشركات الوهمية, لم يحرك ساكناً، بل اكتفى بإيقافها وكفى.
آخر العلاج الكي
أخيراً, نتمنى أن تتراجع الحكومة عن ذلك القرار كلياً وليس جزئياً, حتى لا تجد أن المواطن قد انهار, وبقي قطاع الدواء شامخاً، مع العلم أن زيادة البدلات التي تحدث عنها وزير المالية في مؤتمره الليلي الشهير والبالغة (20%) لا تكفي أي مواطن في ظل ارتفاع الأسعار عموماً والدواء خاصة، كما أنه لابد من دعم الصناعة الدوائية المحلية, فبدلاً من دعم الـ(19) مصنعاً التي تبقت وصمدت، فإنها لا تستطيع المجاراة مما يعني خروجها المبكر من السوق، وإن انعدم الدواء أو أصبح سعره في غير متناول اليد , فإن (آخر العلاج الكي).!!

الانتباهة