فوائد السفر عبر الزمن بعقولنا وسلبياته
من شأن قدرة عقولنا على تصور ما سيحدث مستقبلاً واسترجاع ما جرى في الماضي التمييز بيننا وبين باقي الحيوانات. كما أن هذه المقدرة تُكسبنا العديد من المزايا. ولكن هل بوسع تقنية جديدة أن تجنبنا ما يترتب على هذا الأمر من مضار؟
يتحلى البشر بقدرة معرفية لا يتمتع بها أيٌ من الكائنات الحية الأخرى على ما يبدو، ألا وهي القدرة على “التنقل عبر الزمن” بعقولهم.
فبمقدورنا أنى شئنا العودة بتفكيرنا إلى الماضي، لنسترجع ما جرى في أول يوم لنا في الكلية، أو ما حدث عندما كنا نتناول وجبةً ما الأسبوع الفائت. وبالسرعة نفسها، بوسع كلٍ منّا تحويل بوصلة تفكيره إلى تصور أحداث مستقبلية، مثل شكل عطلتنا المقبلة، أو أن يتخيل أحدنا نفسه وهو يحتسي قدحاً من الشاي بعد قليل.
الأمر هنا لا يتعلق بمعرفة أن شيئاً ما قد حدث أو سيحدث؛ وإنما معايشته وتصوره في أذهاننا. بعبارة أخرى؛ هو الفارق بين معرفتنا أن درجة الحرارة سترتفع عندما يحل فصل الصيف، وتصورنا لأنفسنا ونحن نجلس تحت أشعة الشمس خلال ذلك الصيف وإحساسنا بلفح الحرارة لبشرة كل منّا.
ويصف الخبير في علم النفس التجريبي إنديل تولفان “السفر الذهني” عبر الزمن بأنه جزءٌ من وعي الفرد بوجوده المتعدي لزمن بعينه، وهو ما يُمكننا من استرجاع ما حدث في الماضي وتصور أحداثٍ مستقبلية بشكل مسبق؛ سواء بسواء.
فإذا كنت بصدد الالتقاء ببعض أصدقائك لتناول الغداء مثلاً؛ فستنبهك ذاكرتك المتعلقة بالأحداث المستقبلية بأن تذهب إلى مكان اللقاء في الموعد المحدد.
ولكن سيكون بمقدورك أيضاً أن تتصور نفسك مسبقاً، باحثاً عن الطاولة التي ستجلسون عليها، ومُتصفحاً لقائمة الطعام، أو حتى وأنت تختار منها ما تشاء من أطعمة. وهنا يختلف الأمر عن انخراطك في التخطيط والتحضير بنشاط لمثل هذا اللقاء.
ما نتحدث عنه هنا يشكل مهارةً يتفرد بها البشر؛ حسبما يقول توماس سادندورف الباحث الذي يعمل في جامعة كوينزلاند الاسترالية، ومؤلف كتاب “الفجوة: العلم المتعلق بما يميزنا عن غيرنا من الحيوانات”.
وقد سمحت لنا قدرتنا على الترحال الذهني عبر الزمن بأن نتصور سيناريوهات مختلفة للمستقبل، وأن نُصيغ العالم المعقد الذي نعيش فيه الآن. فمن خلال المزج بين الذكريات القديمة، يمكننا أن نتصور أنفسنا مسبقاً في مواقف مستقبلية شتى، وهو ما يمنحنا تراكيب لا نهائية من التصورات والسيناريوهات التي نستطيع أن ننتقى منها الاحتمالات الأكثر معقولية وقابلية بالنسبة لنا، للمضي على دربها.
وكما هو الحال في عمليات إعادة مزج النغمات الموسيقية المختلفة، من شأن استرجاع هذه الذكريات في أذهاننا تمكيننا من استعراض الأحداث المستقبلية “المتصورة” بداخل أذهاننا، وهو أمر ضروري لكي يتحلى البشر بتلك القدرة الاستثنائية التي تُمَكِنُهم من التكيف مع البيئات المختلفة التي يعيشون فيه
ويقول سادندورف إن ذلك يمثل أحد العوامل التي تُكسب البشر تفردهم. ويضيف بالقول: “نستطيع تكوين سيناريو متداخل ومعقد، نظراً لأن لدينا مقدرة لا محدودة على تخيل مواقف بديلة، وتأملها وتضمينها في قصصٍ (أو تصوراتٍ) أوسع نطاقاً”.
“إنها لمهارةٌ فعالة على نحو هائل. فبوسعنا أن نتخيل مواقف تتعلق بما سنفعله غداً أو الأسبوع المقبل، أو بشأن المكان الذي سنقضي فيه عطلةً ما، أو عن المسار المهني الذي سنمضي عليه. وبإمكاننا تخيل تصورات متنوعة ومختلفة لكل ذلك. وتقييم كلٍ منها من حيث قابليته للحدوث ومدى رغبتنا في تحققه”.
ويسمح ذلك للمرء برسم مستقبله وفقاً لرؤيته الخاصة بشأنه، وبأن يسعى لاغتنام الفرص السانحة وتجنب التهديدات المحتملة حتى قبل أن تظهر هذه أو تلك.
وليس بمقدور باقي الكائنات الحية القيام بمثل هذه السباحة الذهنية في نهر الزمن على الشاكلة ذاتها التي يفعلها بها البشر.
فعلماء النفس يعتقدون – كما يقول سادندورف – أن كلبك لا يستلقي أمام المدفأة وهو يستغرق في ذكريات “تمشياته” المفضلة، آملاً في العودة يوماً ما إلى ذاك الحقل ذي الحظوة لديه لأنه وجد فيه ذات مرة جيفةً لأرنب.
كما أن الأطفال مضطرون على أن يقتصر تفكيرهم على المكان الذي يقبعون فيه والزمان الذي يعيشونه، دون قدرة على استرجاع ما جرى أو الهروب بأذهانهم إلى المستقبل. ويظل حالهم كذلك حتى سن الثالثة أو الرابعة؛ حين يشرعون في امتلاك القدرة على تخيل أحداث مستقبلية ربما تكون فيه مشاعرهم مختلفة، إما ترقباً لأحداثٍ مأمولة بعينها أو تخوفٍ من وقوع أخرى.
وأظهرت إحدى التجارب أن ثلث الأطفال في سن الثالثة هم من كان بوسعهم فقط تقديم إجابة معقولة عن سؤالٍ وُجه إليهم حول ما الذي قد يقومون به في اليوم التالي. ولكن بعد سنة أو اثنتين من ذلك، تطور وعي وإحساس هؤلاء بالمستقبل إلى حد أن ثلثيهم تمكنوا من الإجابة على هذا السؤال.
ويشير ذلك إلى أن لدى الأطفال الصغار نمطاً متطرفاً للغاية مما يُعرف بفجوة التعاطف، وهو مفهوم يشير إلى تقليل المرء من تأثيرات دوافعه الداخلية العميقة على توجهاته وتفضيلاته وسلوكياته.
ونعاني جميعاً من هذه “الفجوة” في مواقف نعجز فيها عن تصور أحوال أخرى مستقبلية ستراودنا فيها مشاعر مختلفة عن تلك التي نشعر بها في الوقت الحاضر. فعندما كنت أحزم أمتعتي – في يومٍ كئيبٍ من أيام نوفمبر – استعداداً للسفر من لندن إلى سيدني، تلك التي كنت أعلم مسبقاً أن درجات الحرارة فيها مرتفعة، لم أستطع منع نفسي من أن أضع وسط حاجياتي كِنزةً ومعطفاً واقياً.
فقد كان مستحيلاً بالنسبة لي أن أتصور أنني لن أكون بحاجة إليهما. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن أياً منهما لم يغادر حقيبتي من الأصل طيلة فترة وجودي في سيدني.
لكننا في بعض الأحيان نتجشم المتاعب والآلام جراء قدرتنا على “السفر ذهنياً عبر الزمن”. وهنا يمكن الاستشهاد بما قالته هيلين كريشتينسِن كبيرة الباحثين في معهد “بلاك دوغ” في سيدني أمام القمة التي أقامتها “بي بي سي فيوتشر” في المدينة منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2016 حول الأفكار الكفيلة بتغيير العالم.
فبرأي كريشتينسِن، تعني المقدرة على التخيل أن الناس في بعض الأوقات يفكرون ملياً بشأن المستقبل ويجترون الماضي، وهو ما قد يصيبهم بصدمة جراء معايشتهم ذهنياً لتجارب قد تكون مزعجةً للغاية، وهو ما قد يتعارض مع تمكنهم من ممارسة مهام حياتهم اليومية وهم سعداء.
ولكن هذه الباحثة تأمل في أن تمنحنا التكنولوجيا طوق النجاة في هذا الصدد. ففريقها يعكف على إجراء تجارب يستخدم فيها تقنياتٍ مُستقاة من أساليب علاج سلوكي معرفي متوافرة على شبكة الإنترنت وفي تطبيقات متاحة لمستخدمي الهواتف الذكية.
وقبل 15 عاماً، بلور هؤلاء الباحثون برنامجاً علاجياً تم توفيره على شبكة الإنترنت، أُطلق عليها اسم Mood Gym أو “صالة المزاج الرياضية”، واستُخدم منذ ذلك الحين في أكثر من 200 دولة في شتى أنحاء العالم.
فإمكانية استخدام المرء لهذا الأسلوب العلاجي دون الحاجة للكشف عن هويته، يعني أنه يشكل طريقة علاجية مقبولة ومحببة من جانب من يحجمون عن طلب المساعدة من معالج نفسي في الحياة الواقعية.
ويراقب الباحثون الآن مواقع التواصل الاجتماعي، في مسعى للتعرف على الأشخاص الذين قد يستفيدون من هذا البرنامج العلاجي. فباستخدام ما يُعرف بتقنيات التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي، يأمل هؤلاء في التقاط الإشارات التي يمكن استخلاصها مما يكتبه الشبان صغار السن على مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي هذا الشأن، قالت كريشتينسِن: “نجري عدداً هائلاً من التجارب، التي نسعى من خلالها إلى فحص مضمون اللغة وبنيتها، لتحديد ما إذا كان من شأن ذلك إعطاؤنا مؤشراتٍ على وجود مشكلة بعينها. فعلى سبيل المثال، وجدنا أن التجمعات التي تحتوي على مجموعات شديدة التنافر، غالباً ما يتحدث أفرادها عن الأدوية التي يتناولونها”.
وتتابع: “أما المجموعات التي تتواصل مع بعضها البعض عبر الإنترنت لغرض إيذاء النفس، فتتسم بالغضب في أغلب الأحيان. وقد وجدنا أن من يعانون من الاكتئاب يستخدمون الضمائر الشخصية بشكل أكبر”.
وهكذا فإذا نجح الباحثون في اكتشاف أن أشخاصاً بعينهم باتوا عرضةً للخطر، يبدأ التفكير في ماهية الوسيلة المثلى للتعامل مع المعلومات الخاصة بهذا الموضوع وكيف يمكن التدخل في الأمر.
وبوسع أولئك الباحثين نشر إعلانات عن برامج للعلاج السلوكي المعرفي، لتظهر على مواقع التواصل الاجتماعي التي يتصفحها شخصٌ ما إذا ما استخدم كلمات مفتاحية بعينها أو أجرى عمليات بحث على الشبكة عن مواد محددة.
ويحدث ذلك على الشاكلة ذاتها التي تستخدمها شركات التسويق بالفعل لجعل إعلاناتها ذات طابع شخصي، عبر توجيهها إلى الجمهور الذي تعلم من خلال نمط تصفحه للإنترنت أنه يهتم بمضامينها.
وهنا تقول كريشتينسِن إن الأمر يبدو كما لو كان تطبيقاً لأساليب “الأخ الأكبر” في المراقبة والتلصص على حياة البشر “ولكننا في المقابل طوّرنا عدداً كبيراً للغاية من التطبيقات والبرامج المتاحة على الإنترنت، والتي تتسم بالفعالية فيما يتعلق بتقليص خطر الانتحار والإصابة بالقلق والاكتئاب.”
وتضيف: “لذا، لدينا الأدوات الرقمية الخاصة بهذا الأمر. المسألة تتمحور حول كيف يمكن أن نُجري أبحاثاً تتضمن شباناً صغار السن وغيرهم، لتحديد السبيل الأمثل الذي يمكننا من خلاله توفير المعلومات لهم ومساعدتهم”.
ورغم أن تحلينا بالقدرة على “السفر الذهني عبر الزمن” أفادنا كثيراً بوجه عام. لكن هل نستطيع التطور في المستقبل لتجنب ما يترتب على هذه المقدرة من متاعب متعلقة بالمعاناة من مشكلات في الصحة النفسية؟ وهل نستطيع أن نجعل الاكتئاب رفيقاً “إيجابياً” يقف بجانبنا؟
يقول سادندورف إن ثمة أملاً كبيراً لديه في إمكانية تحقق ذلك.
ويضيف: “يشكل الاكتئاب والقلق – على الأقل إذا ما كانا في صورة معتدلة – جزءاً من مؤونتنا الذهنية المتعلقة بكيفية تعاملنا مع العالم.. يصيبنا الاكتئاب عندما نتبنى خياراتٍ لا تُكلل بالنجاح. وهكذا يدفعنا (الإحساس بالاكتئاب أو القلق) لأن ننسحب من هذا الموقف أو قد يرسل إشاراتٍ إلى الآخرين تفيد بأننا قد نكون بحاجة للمساعدة”.
ويمضي سادندورف قائلاً: “القلق مفيد، بمعنى أن تفكيرنا وتصورنا لأحداثٍ مستقبلية، يوّلِدُ رد فعل عاطفياً يجعلنا نشعر بالقلق. يدفعنا ذلك لأن نقوم في التو واللحظة بشيء ما فيما يتعلق بمثل هذا الحدث (المستقبلي)؛ كأن نهرب (مثلاً) من مواجهته أو أن نتحضر (للتعامل معه بكفاءة)”.
“يجعلنا هذا قادرين بشكل أفضل على التعامل مع مثل هذا الحدث المستقبلي. ولهذا السبب، يمكن أن تكون الصور المعتدلة (من القلق والاكتئاب) فعالةً وعمليةً. آمل بطبيعة الحال أن يتسنى التعامل مع اضطرابات سريرية أكثر خطورة”.
BBC