علوم و تكنلوجيا

مواقع التواصل… الفجوة المعجميّة تهدد مستقبل العربيّة

يشعر خالد فهمي، أستاذ علم اللغة في جامعة المنوفية، بالخطر على مستقبل لغة الضاد، كلما رصد الانتشار المتزايد للمصطلحات الأعجمية والعامية وسط الألفاظ المستخدمة بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي العرب، إذ لا توجد سوابق تاريخية يمكن من خلالها مقارنة، كثافةً وسرعةً، ما أحدثته مواقع التواصل الاجتماعي بين البشر من تغييرات متسارعة في مختلف نواحي الحياة، وعلى رأسها التأثير العميق على اللغة العربية.

وتعود أسباب الخطر، في رأي الدكتور فهمي، إلى الموارد المحدودة للعربية (خاصة الألفاظ)، في مقابل ما تقذفه الثقافات الأخرى بغزارة في كل ثانية من أفكار ومعانٍ وتصورات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أضف إلى ذلك، التراجع الحضاري لأبناء اللسان العربي، ما جعل لغتهم مستهلكة ومُستقبلة، وهو ما أنشأ حالة لغوية تسمّى بـ”الفجوة المعجمية”.

مسارات العربية على مواقع التواصل

اتخذت ردود الأفعال تجاه “الفجوة المعجمية” مسارات ثلاثة؛ والحديث لأستاذ علم اللغة، أولها هجر المستخدم العربي لغته واستخدام اللغة الأجنبية التي أنتجت الفكرة والمعلومة والتصور وقذفت بها أمامه على شاشة الحاسوب، وهو سلوك يفقد اللسان العربي قدرته على المواجهة والتحدي عبر تطوير آليات اللغة وتوليد معجمها، ويتسم المسار الثاني بالخطورة؛ إذ إن من قاموا عليه، كلما قابلوا فجوة معجمية لجأوا إلى سدها من اللغة الأجنبية بطريقة فردية عشوائية محدودة الفهم، وهو أمر يصيب اللغات على المدى البعيد بالترهل والعجز، وهو ما تمثله اللغة العربية المهجنة المعروفة بـ “الفرانكو آراب”. أما المسار الثالث فيمثله فريق مقاوم حريص على اللسان العربي بألفاظه وتراكيبه، وهو الذي يصارع من أجل إيجاد تعبيرات صحيحة وسليمة يواجه بها الفجوات، وهو وإن كان يشقى ويتعب فإنه سيحقق انتصاراً حقيقياً، ولكن بعد فترة كما يرى خالد فهمي.

“الفرانكو آراب”

يرفض الأديب أحمد فضل شبلول، نائب رئيس اتحاد كتَّاب الإنترنت العرب، التعامل مع ما يصفه باللغة الهجينة المكونة من الأرقام والمحارف العربية (الحروف وعلامات الترقيم معاً)، والتي أحالت اللغة العربية الرصينة إلى رموز وإشارات سريعة ومصطلحات لا يجيد فهمها سوى فئة الشباب والأطفال، من أبناء البلد التي تكتب فيه، إذ صار لكل أبناء قطر عربي لغتهم الخاصة التي لا يفهمها سواهم.

ويفسر محمد ثابت، الباحث اللغوي والمترجم، ما قصده شبلول بـ”اللغة الهجينة” على أنها لغة “الفرانكو آراب” التي صارت مسارا لغويا مستقلا بذاته يشبه الشيفرة، تستخدم فيه أرقام للتعبير عن أصوات عربية لا وجود لها في الإنكليزية. مثل (7=ح) و(3=ع) و(2=الهمزة) وغيرها. وكان الناطقون بالإنكليزية قد اعتمدوا بعض التغييرات للاختصار، ونقلها عنهم المستخدمون العرب، مثل (OMG) بدلاً من Oh my god بمعنى: يا إلهي، و(See you (CU، والأغرب هو ما تم تعريبه من الاختصارات الأجنبية، مثل الاختصار المُعرب (برب) وأصله (BRB) وهو اختصار لعبارة (Be Right Back) بمعنى: سأعود لاحقاً.

والاختصار المعرب (لول) وأصله (lol) وهو اختصار لعبارة (Laughing Out Loud) بمعنى الضحك بصوت عالٍ. كذلك أضيفت مؤخراً العديد من الأشكال التعبيرية عن المشاعر. لكن ثابت يستدرك بأن هذه اللغة المستحدثة رغم خطورتها فإنها آخذة في التلاشي لعاملين؛ الأول صعوبة تعلمها على الطائفة الأكبر من المستخدمين، والثانية هي التسهيلات التقنية التي تتنافس فيها شركات البرمجيات مثل خيار “الكلمات المتوقعة” التي توفر للمستخدم بمجرد كتابته الحرفَ الأول مجموعةً من الاحتمالات يختار من بينها ما يقصده بالضغط عليه دون عناء كتابة جميع حروف الكلمة.

إيجابيات مواقع التواصل

بالمقابل يرى عبد اللطيف عبد القادر، أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية بجامعة قناة السويس، أن الإيجابيات اللغوية لمواقع التواصل الاجتماعي كثيرة كما هي سلبياتها في الوقت ذاته، ضاربا المثل بالمجال اللغوي، إذ دفعتنا مواقع التواصل إلى نمط من الكتابة يستدعي التكثيف والإيجاز، وهو ما فَطِنَ له موقع “تويتر” فأراد أن يضع لهذا التكثيف قانوناً خاصاً، حين فرض على مستخدميه ألا تزيد كلماتهم في التدوينة الواحدة عن 140 حرفاً”.

ويدافع عن دور تلك المنصات في تطوير اللغة وخدمة الأدب، عدد من شباب اللغويين، من بينهم رجب إبراهيم أستاذ الأدب والنقد بالجامعة الإسلامية في ماليزيا، والذي يرى أن عملية الكتابة التقليدية كانت دائماً بمثابة نشاط فردي يتسم بالانعزالية، بعكس الكلام الشفاهي المباشر، ولكنها الآن بفضل الثورة الاتصالية تحوّلت إلى أداة للتواصل الاجتماعي، قائلا “قبل الإنترنت كان آحاد الناس يكتبون لأمثالهم إذا أرادوا التواصل، أما الآن نكتب وتصل كتاباتنا إلى المئات والآلاف من الناس بمنشور واحد”.

ووفّرت مواقع التواصل مساحات ضخمة لنشر الكتب والأبحاث اللغوية مجاناً، مع إمكانية التفاعل مع الكاتب عبر التعليق والتوجيه، كما أتاحت الفرصة لظهور حسابات متخصصة تشجع على نشر الأعمال الإبداعية أكثر عشرات المرات من الصحافة والإعلام التقليدي. ويضيف المختص إبراهيم أنّ “النظر إلى الجانب السلبي والتأثير على اللغة العربية وتضخيمه دون النظر إلى الفوائد لا يعد موضوعياً، إضافة إلى أن مقاومة طوفان الثورة الاتصالية يكاد يكون مستحيلاً، فإما أن نتأقلم معها ونستفيد منها بقدر الإمكان، دون التنازل عن هويتنا الثقافية والقومية، وإما الخروج عن مسار التاريخ بأكمله!”.

ويؤيد أحمد فضل شبلول ما طرحه أستاذ الأدب والنقد بالجامعة الإسلامية، في أن مواقع التواصل التي تخصصت في نشر الأدب العربي بلغة راقية، ساهمت في دعم المبدعين العرب الذين ارتبط بعضهم بالعالم الافتراضي، ضارباً أمثلة بأعمال الكاتبة المصرية وفية خيري في قصتها “والليل إذا جاء”، والكاتبة السورية ندا الدانا في مجموعتها القصصية “أحاديث الإنترنت”، والكاتب عبد الحميد بسيوني في كتابه “سندباد الإنترنت”.

تهميش اللغة العربية

يختلف الروائي الشاب أحمد أمين مع الرؤى السابقة، والتي يصفها بـ”المتفائلة”، إذ يعتقد بأن الآثار اللغوية السلبية الناشئة عن مواقع التواصل أكثر من فوائدها، في ظل تزايد أعضاء تلك المواقع من كافة الفئات العمرية والثقافية، والعديد منهم لا يمتلكون الخلفية الثقافية اللازمة لاستعمال اللغة بصورة صحيحة، ولذا فإنهم لا يجدون غضاضة في الكتابة باللغة الدارجة، ويبرر المستخدمون ذلك السلوك بأن التعاطي مع مواقع التواصل صار من الأمور الروتينية التي تستخدم فيها اللغة بشكل عفوي، وأنها لا تحتاج تكلّفاً في الكتابة. ويرى أمين أن العربية تعاني من خطر استخدام اللهجة العامية ذات الطبيعة الشفاهية بصورة مكتوبة. وإذا أضفنا إلى ذلك الألفاظ الغربية الدخيلة، ثم استخدام لغة “الفرانكو آراب” في الكتابة؛ فإن النتيجة ستكون تهميشاً واضحاً للغة العربية.

ويتفق الدكتور عبد القادر مع أحمد أمين في الجزئية السابقة، إذ رصد العديد من المدونين والكتاب والأدباء من أصحاب الأساليب اللغوية المستقيمة ممن انضموا إلى الأساليب اللغوية المستحدثة في تلك المواقع؛ عبر إسقاط الإعراب والكتابة بالعامية، حين يدخلون إلى حساباتهم الإلكترونية ويبدأون في النقر على لوحة المفاتيح، وهو ما يعد مبرراً لمن دونهم ثقافياً كي يسيروا قدماً في طريق التخلي عن اللسان العربي الفصيح، قائلاً: “بدلاً من أن يقوّموا أصدقاءهم الافتراضيين -الأقل ثقافة- لغوياً؛ نراهم قد سقطوا معهم في تهميش اللغة الثقافية القومية”، كما أن اللغة المكثفة المستخدمة على مواقع التواصل والتقاليد الجديدة التي ينجرف لها بعضهم باستخدام الحروف اللاتينية بديلاً عن الحرف العربي، وتجاوز القواعد اللغوية الصحيحة، واستخدام اللغة الدارجة وأحياناً السوقية، بلا رقيب ولا مصحح أو مراجع، خطر حقيقي”، كما يقول عبدالقادر.

المستقبل ومواجهة المخاطر

في ظل تباين الرؤى، كيف يمكن توقع مستقبل لغة الضاد في ظل المخاطر المحدقة بها؟ يجيب الدكتور خالد فهمي قائلاً: “يتفق علماء اللسانيات على أن أي لسان يظل في حالة أمان ما لم يتأثر نظامه التركيبي النحوي، والذي يعد بمثابة الجين الأساسي الذي تتخلق منه اللغة، مهما دخلها من الألفاظ الأعجمية. وإذا تم العبث بهذا النظام التركيبي فإن العربية تكون حينئذٍ على منحدر الموت. وتاريخيا فإن اللغة العربية لم يتأثر نظامها النحوي بأي عبث، بالرغم من تعرضها لتحديات استعمارية كبرى”.

وحذر فهمي من أن ما يحدث في (الفرانكو آراب) يمكن أن يهدد النظام النحوي، إذ بدأ مزج العربية بعبارات كاملة تنتمي للنظام النحوي الإنكليزي.

ويتفق المختصون الذين استطلعت “العربي الجديد” آراءهم على مسارين ضرورين لمواجهة المخاطر التي تهدد العربية؛ الأول فردي، ينبغي أن يقوم على ترشيد التعامل مع منصات التواصل، والثاني رسمي تقوم عليه الحكومات التي تستشعر مخاطر تلك المواقع على لغاتها القومية، ويسمى “التخطيط اللساني، الذي يقوم على رصد المشكلة ووضع الآليات لمواجهتها في صورة منجز مادي لغوي صحيح، كالمعاجم الإلكترونية المساعدة والموضحات البصرية وغيرهما، ثم العمل على تنفيذ تلك الآليات عبر التشريعات الحاسمة”.

العربي الجديد