عالمية

كيف صنعت السينما أسطورة “لعنة المومياء” الفرعونية؟

افتُتِنَ العالم بـ”لعنة توت عنخ آمون”، وشكلت هذه اللعنة المفترضة مصدر إلهامٍ للكثير من الكتاب ومؤلفي الأفلام السينمائية، كما يقول أوليفر بفيفر.

تعد عملية التحنيط التي كان يقوم بها المصري القديم “رهيبةٌ بحق”؛ كما يقول جون جيه جونسون من جمعية بريطانية تحمل اسم “استكشاف مصر”، وتُعنى بتمويل عمليات التنقيب عن الآثار في البلاد.

وتتضمن عملية التحنيط المعقدة هذه – كما يقول جونسون – إخراج “المخ من فتحة الأنف، قبل نزع الأعضاء الداخلية أو الأحشاء … ثم غسل الجثمان ونقعه في الزيوت”.

الآن، مضى 95 عاما على اكتشاف مقبرة الفرعون المصري توت عنخ آمون. وحتى هذه اللحظة، لا يزال هذا الاكتشاف يثير افتتان البشر بكل ما يحمله من طابعٍ أسطوري.

كما أذكى ذلك الاكتشاف مخيلة صناع السينما، وهو ما تجسد على الشاشة في صورة “مومياء عائدة للحياة” وهي مغطاة بأربطتها، وتبدو كما لو كانت كائنا وحشيا مُفعما بالحقد، يسعى لقتل آخرين انتقاما من تدنيسهم لثقافته ومعتقداته، أو لأنهم حالوا بينه وبين حبٍ حُرِم منه.

ومثلت اللعنة المفترضة لـ”توت عنخ آمون” مصدر إلهامٍ لمفهوم المومياء العائدة للحياة، وهي فكرة مستمدة بشكل كبير من خيال السينمائيين.

وبحسب التقارير الإخبارية التي نشرتها الصحف في مطلع عشرينيات القرن الماضي، أسفرت هذه “اللعنة” عن وقوع وفيات مفاجئة طالت العديد ممن كانوا على صلة ببعثة التنقيب الأثرية التي قادها عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر عام 1922 في وادي الملوك.

وشمل ذلك ممول الحملة اللورد الثري كارنارفون، الذي قضى نحبه في العام نفسه جراء لدغة بعوضة أصابته بتسممٍ دموي.

وتحمل هذه المومياوات السينمائية أوجه شبه بغيرها من الشخصيات السينمائية البشعة، والتي تُصوِّر أشخاصا ماتوا لكنهم ظلوا قادرين على الحركة والتصرف كالأحياء، مثل دراكولا، أو الوحش الذي “اخترعه” فرانكنشتاين.

تعد الأفلام المصدر الرئيسي لفكرة المومياوات المصرية التي تشكل تهديدا مخيفا، وسببا لأسوأ الكوابيس. ومن بين هذه الأعمال فيلم “المومياء” للمخرج كارل فرويند، وبطولة بوريس كارلوف

لكن يمكن القول إن التهديد الكئيب الذي تمثله المومياء أكثر تجذراً في وعينا الجمعي من تلك الشخصيات سالفة الذكر. فأسطورة المومياء مرتبطة بواقعة حقيقية، وهي اكتشاف مقبرة “توت عنخ آمون”. أما الشخصيات الأخرى التي تحدثنا عنها فترتبط أفكارنا عنها بأعمال أدبية ليس أكثر.

وبعد الحمى التي أصابت وسائل الإعلام إثر اكتشاف مقبرة الفرعون المصري القديم، ترسخت فكرة معينة عن مصر في المخيلة العامة، وهو ما أسهم في ظهور نمط معماري جديد يحمل اسم “آرت ديكو”.

وكانت دور السينما الأمريكية في عشرينيات القرن الماضي تُزخرف عادة بديكورات مصرية باذخة، لمحاكاة صورة مفترضة عن رخاء وسعة عيش كانت تتصف بهما الحياة والثقافة في مصر القديمة.

وللاستفادة من هذه الطفرة الكبيرة لمشاعر “الولع بمصر” أو ما يُعرف بـ”الإيجيبتومانيا”، أنتجت شركة “يونيفرسال ستوديوز” للإنتاج السينمائي فيلم “المومياء”، الذي بدأ عرضه عام 1932.

وفي هذا الفيلم، لعب الممثل بوريس كارلوف دورا ذاعت شهرته من خلاله، وظهر فيه في صورة مومياء الكاهن الأعلى إمحوتب الذي يُعاد إلى الحياة دون قصد عبر قراءة مخطوطة تحتوي على كلمات سحرية.

وبعد العودة إلى الحياة، يظهر كارلوف كمصري معاصر مقتنع بأن حبه الضائع “عنخ إسن آمون” (التي أُطلق عليها اسم الأخت نصف الشقيقة لتوت عنخ آمون والتي كانت زوجته أيضا) قد تجسدت في صورة امرأة تشبه بشكل مذهل أميرته المتوفاة.

وبالنسبة للجمهور الأمريكي، الذي كان يمر وقت عرض ذلك العمل بفترة “الكساد العظيم”، شكّل الفيلم مهربا له من معاناته تلك، عبر منحه قدرا من الترفيه والتسلية.

ومما أكسب ذاك العمل عنصري المصداقية والمشروعية هو أن كاتب السيناريو، جون إل. بولدرستون، هو نفسه أحد المراسلين الصحفيين الذين شاركوا في تغطية وقائع فتح مقبرة توت عنخ آمون.

وبدا لهذا الفيلم، الذي تتصف مشاهده بالغموض، وأخرجه المخرج الألماني المنتمي للمدرسة التعبيرية كارل فرويند، طابع نفسي في الأساس. كما شكّل في جوهره قصة تنطوي على عبر وتحذيرات من دس الأنوف في شؤون ثقافة مغايرة، وعاداتها وطقوسها القديمة.

وقد استغرق الأمر ثماني سنوات قبل أن تقدم شركة الإنتاج نفسها فيلما جديدا عن المومياوات. وحمل العمل هذه المرة اسم “يد المومياء”، وأُنْتِج عام 1940، وعُدّ الأول في سلسلة قرر صناعها جعلها أكثر تبسيطا وقربا من أذهان الجماهير.

أدى اكتشاف مقبرة “توت عنخ آمون” عام 1922 إلى أن تجتاح الغرب موجةٌ من الاهتمام بمصر القديمة، وهو ما تابعته هوليوود باهتمام شديد

وعلى عكس الاعتقاد الشعبي الشائع، لم يظهر كارلوف بدور المومياء المغطاة بالأربطة والعائدة إلى الحياة سوى خلال الدقائق العشر الأولى في أول سلسلة لهذه الأفلام المتعلقة بالمومياوات، وهي الدقائق التي تشكل افتتاحية لا يمكن نسيانها، فهي مخيفة إلى أقصى حد.

والمفارقة أن فكرة “المومياء المتحركة” هذه كانت ستبدو شديدة الغرابة في أعين قدماء المصريين، بل تخالف مفهوم التحنيط بأكمله، الذي يستهدف الحفاظ على جسد المتوفى لكي يتسنى له أن يعيش حياة أخروية هادئة يعمها السلام.
إماطة اللثام عن الأسطورة

وفي عام 1959، أعادت شركة “هامر ستوديوز” المومياوات إلى هذه الأجواء المخيفة، عبر فيلم “المومياء” للمخرج تيرانس فيشر.

وقد أبدى العمل التبجيل والاحترام للأسطورة الأصلية، وأضفى طابعا رومانسيا على المومياء العائدة عبر إحياء شخصية “إنخ إيسن آمون” في صورة أميرة تُدعى أنانكا، لعبت دورها الممثلة إيفان فيرنو.

وقد استعار كاتب السيناريو جيمي سانغستر اسم “خاريس” من سلسلة الأفلام المتقطعة التي أنتجتها “يونيفرسال” عن المومياوات. وأعطى سانغستر هذا الاسم للمومياء في الفيلم، والتي تجسدت في صورة شخص عملاق جسده الممثل كريستوفر لي. وفي هذا الشأن افترض سانغستر خطأً أن “خاريس” هو اسم لإله مصري قديم.

أما الفيلم التالي لـ”هامر” في السلسلة نفسها، والذي حمل اسم “كفن المومياء” وعُرِضَ عام 1967، فقد تناول لعنة قاتلة تصيب فريقا من علماء الآثار، لِيُقْتَلوا واحدا تلو الآخر بسبب اكتشافهم.

ولم تستثن تلك اللعنة ممول بعثة الاستكشاف، الذي ظهر كشخصية متعجرفة، وذلك في محاكاة لما حدث للورد سيئ الحظ كارنارفون.

عادة ما تنظر هوليوود إلى مصر القديمة بطريقة غريبة على الثقافة الفرعونية، مثل ما حدث في فيلم “المومياء تعود”، عندما جسدت الممثلة ريتشيل فَيز شخصية فتاة استحوذت عليها روح نفرتيتي

وفي فيلم “دماء من مقبرة المومياء” الذي عُرِضَ عام 1971، والمستوحى من رواية “جوهرة النجوم السبعة” التي كتبها برام ستوكر عام 1903، لم يتمثل التهديد هذه المرة في المومياء كالعادة، وإنما في ملكة مصرية حسناء وقاتلة في الوقت ذاته.

وقد لعبت الممثلة فاليري ليون دور الملكة القديمة والشخصية التي تجسدها، بعد عودتها إلى الحياة في العصر الحديث.

لكن الفيلم بدا كما لو كان قد ابتُلي بلعنة خاصة به، فبعد خمسة أسابيع من بدء التصوير، توفي المخرج سيث هولت جراء إصابته بأزمة قلبية مفاجئة. كما لم يلبث أن استبُدِل الممثل بيتر كَشينغ – الذي كان قد اختير لتجسيد دور والد البطلة – وذلك بعد الوفاة المفاجئة لزوجته المحبوبة.

وبعد الفيلم الأخير، لم يُنتج فيلمٌ سينمائي كبير يتناول أسطورة المومياوات العائدة حتى أواخر القرن العشرين وأوائل القرن التالي له، وذلك بعدما استهلكت السينما بوضوح كل الجوانب المتعلقة بهذا الموضوع، وبعد أن أثارت غضب الفراعنة بما يكفي ربما.

ورغم ذلك، فقد أُنْتِج في تلك الفترة الانتقالية بعض أفلام المغامرات ذات الطابع الكوميدي والخيالي، التي تستمد موضوعاتها من الثقافة المصرية القديمة، والتحنيط، وعمليات التنقيب عن القطع الأثرية.

وفي عام 1981، عُرِضَ أول أفلام سلسلة مغامرات إنديانا جونز للمخرج ستيفن سبيلبرغ، وحمل اسم “سارقو التابوت الضائع”، وكان يدور حول فكرة البحث عما يُعرف بـ”تابوت العهد” في مصر.

كما قدم المخرج نفسه عام 1985 فيلما لاقى نجاحا كبيرا، وحمل اسم “شارلوك هولمز الصغير”. ودارت أحداث العمل حول محقق في مقتبل العمر، يكشف النقاب عن طائفة سرية غريبة الأطوار تعتنق معتقدات مصرية قديمة، وتشتمل طقوسها السادية على تحنيط الأحياء للتضحية بهم كقرابين.

أسهمت لويزا ماي ألكوت، مؤلفة رواية “نساء صغيرات”، في تطوير الأدب الخيالي المتعلق بالمومياوات، من خلال قصة قصيرة نشرتها عام 1869 تحت عنوان “مفقود في الهرم” أو “لعنة المومياء”

وفي عام 1994، قدم المخرج رونالد إيميريش فيلم “ستارغيت”، الذي تدور أحداثه حول وجود بوابة تُوصِلُ إلى كوكب ناءٍ، تشبه الحياة على سطحه طبيعة ما كان سائدا في مصر الفرعونية. ويستغل العمل السحر الغريب الذي يميز تلك الحقبة وما كان يسودها من حكم استبدادي، عبر شخصية كائن فضائي يزعم أنه الإله المصري القديم “رع”.
تحول المومياء

شكّل فجر القرن الحادي والعشرين، وتحديدا بين عامي 1999 و2008، ظهور سلسلة ذات طابع جديد تماما من الأفلام التي تتناول المومياوات. وكان البطلان هنا هما الممثليّن بريندن فرايزر، وريتشيل فَيز. أما الأحداث، فعادت لتناول أسطورة إمحوتب.

وقدم المخرج ستيفن سومرز أول أفلام هذه السلسلة، والذي اتسم بالإبهار في استخدام الأدوات السينمائية. ويرى سومرز أن غالبية أحداث العمل استندت إلى خرافات كانت موجودة بالفعل، وأساطير ذات أصل واقعي “حتى وإن كان ليس سوى قصة عن جثة (مات صاحبها من) 3000 سنة، لكنها لا تزال قادرة على المشي والكلام”.

ويتمحور الفيلم حول كائن متحور الشكل، يُجسد ما يُعرف بـ”الضربات العشر التي حاقت بمصر” في إحدى الحقب الفرعونية، وقد عاد إلى الحياة دون قصد من أحد.

وقد بدا المخلوق هذه المرة مغايرا تماما للشكل الذي ظهر عليه بوريس كارلوف في الفيلم الأول الذي أُنتج عن المومياوات قبل عشرات السنوات. كما بدا مفتقرا لأي عاطفة أو شفقة، ما جعل المشاهدين يشعرون بالحنين لـ”مومياء كارلوف”.

ولم يحقق هذا الفيلم إيرادات تُذكر، وهو مصير لاقاه فيلمان آخران تاليان له في السلسلة نفسها.

وإذا انتقلنا لفيلم “المومياء” الذي بدأ عرضه هذا العام، ومن بطولة توم كروز وصوفيا بوتله، فسنجد أنه يشكل إعادة تهذيب لسلسلة أفلام المومياوات، ومحاولة لبنائها وإحيائها من جديد عبر الاستفادة من نجومية كروز.

ومن خلال مشاهدة المقطع المصور الدعائي الخاص بالعمل، يمكننا ترجيح أن محاولات الانتقام هذه المرة ستأتي من مومياء ساحرة قديمة اكتشفت عن طريق الصدفة.

وتجسد بوتله شخصية هذه الساحرة التي كانت قد قتلت والدها. لكن إذا فشل هذا الفيلم أو حقق إيرادات مخيبة للآمال، فمن المؤكد أنه لن تجرؤ أي مومياء على الحركة بشكل مخيف على شاشات السينما في المستقبل القريب على الأقل.

bbc