“جبريل والنبي”: حينما تجسّد ملاك الوحي في هيئة دحيّة الكلبي!
يعتبر الإيمان بالملائكة ركناً من أركان العقيدة الإسلامية، ومن الكلّيات التي يجب على المسلم أن يؤمن بها بالضرورة، سنداً إلى كلام الله في القرآن:”آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله…”
وفي سورة النساء يثبّت الله الإيمان بالملائكة سبيلاً للخلاص، والكفر بهم سبيلاً للضلال: “ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيدا”.
لكن من هم الملائكة؟ وكيف يمكن تعريفهم ووصفهم؟
تتمحور وظيفة الملائكة الأولى حول أنهم رسل إلى رسل الله وهناك وظائف أخرى كنفخ الروح في الأجنة، مراقبة أعمال البشر، المحافظة عليهم، قبض أرواحهم… وهم غير مرئيون، مخلوقون من نور، فيما الجن من نار، والإنسان من طين. ومن صفاتهم الطاعة المطلقة لله، وهم ليسوا إناثاً كما يذكر الله في القرآن، ولا يتناسلون ولا يتناكحون. ومن صفاتهم القوى الخارقة التي يتمتعون بها، ومنها حمل العرش، وقلب الأرض عاليها سافلها كما في قصة النبي لوط… يؤمن بهم المسلمون إيماناً غيبياً مستنداً إلى اليقين الإخباري، أي إلى ما جاء في القرآن والحديث، اذ لا اتصال حسياً بين البشر والملائكة بشكل عام. ولكن الملائكة كما ينبئنا القرآن في أكثر من موضع، يتمثلون بأشكال بشرية معروفة وغير معروفة. وقد تمثل الملاك لمريم العذراء “بشراً سويا”، كما جاء في القرآن الكريم. وتجسدوا لابراهيم بقوم زاروه، وقدم إليهم عجلا سميناً ليأكلوا، فلم يفعلوا، فبشروه، كما تذكر الآية “بغلام عليم”. مع النبي لوط تجسدوا بشباب فائقي الجمال، ومع النبي داود تجسدوا بشخصين متخاصمين. وهناك رواية عن تجسد النبي جبريل، الشهير بحمل الوحي إلى النبي محمد بصورة رجل يدعى دحية الكلبي. والله يقول في سورة “الأنعام”: “ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون”. أي أن الإلتباس حاصل في تحول جبريل إلى ملاك لدى البشر. وهذا يفتح نقاشاً حول مصير الملاك السماوي حينما يتحول إلى رجل (بشري)، وهل يظل في الآن عينه، سماوياً وبشرياً؟ أم انه يظل بشرياً إلى النهاية ويخسر قدرته على العودة إلى السماء؟
هذه الأسئلة المثيرة يطرحها الباحث العراقي فاضل الربيعي في كتابه “جبريل والنبي”، والذي يفتح فيه ابواب النقاش التاريخي والعلمي حول صدقية المرويات الإسلامية حول هذه المسألة، وإمكانية التحقق منها، وفرز ما هو تاريخي مما هو اسطوري. ويخلص في هذا الكتاب إلى أن دحية الكلبي شخصية غير موجودة تاريخياً، ويضعها في سياق تراجي-ديني في تاريخ الإسلام عن تحول الملاك إلى إنسان. والفرضية التي يطرحها الربيعي تمس واحدة من السرديات التي دخلت في صلب التاريخ الرسمي للإسلام، وبني عليها الكثير من الروايات، وتحولت إلى جزء من الرواية السائدة عن علاقة النبي محمد بالوحي السماوي.
ما يهمنا من كتاب الربيعي هو السردية الإسلامية حول الملائكة، والتفسيرات التي نسجت حول طبيعتهم وحضورهم، الخفي تارة، والعلني طوراً، في الحياة اليومية للمسلمين. فها هو الطبري كما ينقل عنه الربيعي، يشرح أن الملائكة “تأتي الأنبياء في صورة البشر، فأتوا ابراهيم ولوطاً من قبل في صورة الآدميين، وأتى جبريل النبي محمد في صورة دحية الكلبي”. وفي مكان آخر ينقل الطبري تفسير عائشة لآية “فكان قاب قوسين أو أدنى”، بأن النبي رأى جبريل، “وله ستمئة جناح مزينة بالياقوت والجواهر والذهب”. وهكذا انتقلت إلى المسلمين عبر الروايات المنقولة إلى النبي أن جبريل هو في الآن عينه، ملاك، وطائر ورجل. وقد تحدث النبي في حديث ينقله الطبري عن لقائه بجبريل في صورته السماوية في اليوم التالي للإسراء: “رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ست مئة جناح”. ثم هناك رواية أخرى شهيرة عن حضور جبريل إلى مسجد النبي في يثرب، قادماً من سفر طويل، من دون أن تتسخ ثيابه أو يعلو وجهه الغبار، وفوق ذلك بدا نظيفاً ناصع البياض، ثيابه بيضاء وحصانه أبيض كما يصور في كل المرويات، واتجه صوب النبي وجالسه “ركبته إلى ركبته”. وهذه الرواية يقول الربيعي عنها إنها مجرد اسطورة، إذ لم يعثر في خلال بحثه الطويل في المراجع على ما يثبت وجود شخصية دحية الكلبي الذي تجسد به جبريل ودخل على النبي في المسجد. وفي بعض التفسيرات أن النبي اراد تقريب صورة جبريل على نحو يمكّن المسلمين من تخيله، على اساس انه عجز قبل ذلك عن وصف هيئة الملاك التي رآها في غار حراء، فأغشي عليه حينما رآها.
لسنا هنا، نكرر ، في معرض نقاش تاريخي لتجسد جبريل بصورة دحية الكلبي، بل إن ما يهمنا هو هذه المرويات الوصفية لصورة الملاك وقدراته على التجسد في صور مختلفة. وقد جرى توظيف مرويات التوراة والإنجيل (وكذلك القرآن) عن هبوط ملائكة في صورة رجلين، جاءا للقاء ابراهيم لنقل البشارة بولادة اسحاق، ومريم بولادة عيسى، للتدليل على فكرة أن الملائكة يأتون من السماء لتخليص البشر من العذاب. ويضع الربيعي هذا الأمر في سياق دعم الثقافة الروحية القديمة والمستمرة. لكن واحدة من المفارقات التي يلفت الربيعي النظر إليها في كتابه هي المناظرة بين النبي محمد ويهود الطائف حول الملاك جبريل، الذي يعتبره اليهود عدواً لهم، وقد اقترن الإسلام به. ويقول الطبري أن الآية “قل لمن كان عدوا لجبريل فإنه نزّله على قلبك باذن الله”، إنما نزلت جواباً “لليهود من بني اسرائيل، الذين زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل وليّ لهم”. لكن هذه المناظرة لا تكشف بالضرورة وجود تناقض كبير بين صورة جبريل في اليهودية وصورته في الإسلام، بل إن الأمر يتعلق فقط بيهود بني قريظة الذين ناظروا النبي وانتهى الجدال إلى غضبه وتفرقه عنهم، وتعاركهم فيما بعد.
أما مصدر صراع جبرائيل وميكائيل، في مناظرة يهود بني قريظة، فيعيده الربيعي إلى مروية تسبق ظهور الإسلام، تتعلق بيهود اليمن، عن هبوط اله من السماء بصورة ملاك يدعى ميخائيل، لأنه كان اله الخصب والدعة، وهو من أمر ببناء مكة القرية ثم معبدها الكعبة. ولذلك، يتابع الربيعي، “جاء جبرائيل إله القوة ليطهر هذا المعبد من الوثنية التي انتشرت فيه ومن حوله بعد انهيار الديانة الابراهيمية”.
في الخلاصة، يظهر لنا أن مسألة تجسد الملائكة في صورة البشر لم تكن مسألة محسومة، على الأقل من منظار تاريخي، في الإسلام. لكن بالمعنى اللاهوتي، الملائكة يتجسدون، وقد سبق وتجسدوا في أكثر من موضع يذكرها القرآن. أما مسألة تجسد جبريل بشخصية دحية الكلبي، فتلك رواية يؤكد فاضل الربيعي أن لا سند تاريخياً لها، وأن دحية الكلبي شخصية غير موجودة، “وقد تكون من تلفيق رواة العصر الأموي”، الذين كما يقول “قدموا تأويلات تعسفية لنصوص القرآن، لا عدّ ولا حصر لها، ومنها تأويل الآية التي تتحدث عن تحول الملاك إلى رجل بشري”.
صحيفة الجديد