مزمل ابو القاسم

أفيكم من رأى زينب؟


* ليعذرني قرائي إن استغرقت في أحزاني، ورميت ريشتي ودواتي.
* اليوم أستقوي على نفسي، وأغالب أوجاعي، كي أفي بالتزام راتب انتظمت فيه لأكثر من عقدين، لم أنقطع فيهما عن مداعبة الورق إلا لماماً.
* كتبت وأنا مريض، وعلى سفر.. كتبت في الأرض والجو والبحر.
* كتبت في الطائرات والقطارات والسيارات صغيرها وكبيرها، ولم أتوقف عن الكتابة عندما جبت مشارق الأرض ومغاربها.
* شغفي بالكتابة لم يخفت في أصعب الظروف، لأنني أعتبرها التزاماً مغلظاً يجب الوفاء به مهما حدث، لكن ذلك الشغف خفت وتلاشى في جمعة الحزن، التي مزقت نياط القلب، وأمطرتنا هماً وألماً وكآبة.

* فقدنا فيها الأحبة جملةً، فعافت النفس كل شيء، وأناخ الحزن بركابه علينا، وغزا دواخلنا بلا استئذان.
* تضاعف الوجع عندما شاهدت جثامينهم مسجاة على أرض المشرحة.. لا تسترها إلا أسمال بالية.
* هناك حيث لا حرمة للردى، ولا قيمة للإنسان بعد أن يفقد اسمه ويتحول نعته إلى (جثمان).
* ظلت أجسادهم المحطمة ملقاة على أرض المشرحة أكثر من ست ساعات.
* كانت رائحة الموت تملأ المكان، والكآبة تتناثر في الأجواء.. والحزن يضوع مع بخورٍ وُضع على أحد الأركان، على أمل أن يخفي بؤس المشرحة ويزيل رائحتها القميئة.. ولكن هيهات.
* أطلقوا عليها مسمى (بشائر) وما أبعدها عن الاسم!.
* لو خيرت لاخترت لها اسم (كوارث.. أو نكبات).

* عندما توفي والدي عليه الرحمة، ظننت أن الفقد بعده لن يفزعني، وأن الموت لن يفجعني، لكنه هزأ بي، وأسلمني إلى حزن آخر، أعقب رحيل شقيقتي الكبرى عواطف.
* بعد النكبتين اخترت أن أعبر عن أوجاعي بالكتابة، فطاوعتني حروفي.
* كتبت في رثاء أم حاتم ما يلي: (كثيرون كتبوا في الرثاء قبلي، وأوجعهم رحيل الأحبة مثلي.. كثيرون نقَّرت عصافير الحزن جدران قلوبهم، فاستحثوا قرائحهم، واستنفروا مكنونات صدورهم، وخلطوا حروفهم بدموعهم، وحولوا عباراتهم إلى (عَبَرات)، وترجموا لوعتهم إلى كلمات، علَّها تخفف عنهم، ويجدوا فيها بعض سلوى عما فات.

* هناك أناس يخلفون في النفوس نقوشاً يصعب محوها، ويتركون آثاراً تستحيل إزالتها.
* الطيبون، الصادقون.. الذين ينثرون مكنونات نفوسهم فتنتشر طِيباً يغزو الأنوف بلا تكلف، ويبقون حاضرين فينا وإن رحلوا.
* باقون هم في خيالاتنا وذكرياتنا وأمنياتنا، نستحلب لحظاتنا معهم من ضروع الذكريات، ونستنسخهم في دواخلنا، ونسترجع لحظات سعدنا معهم، مهما أمعنوا في الرحيل.
* الأحباب لا تُغلق دونهم الصدور، ولو هجروا الدور، وسكنوا القبور.
* أهل الصدق والطيبة والمحنَّة، يقهرون الردى بحلو الذكريات.. ويستعصون على النسيان).
* ذهبت عواطف، واختارت زينب أن تكون أول اللاحقين بها، وكأن ترتيب الموت بيننا يتم بمقياس المحبة..
* الأوفر حباً الأسرع رحيلاً، تلك هي القاعدة، لو كانت للردى قواعد.
* لكن زينب اختارت أن لا ترحل وحدها، ولا غرو، فتلك عاداتها.
* احتضنت معها ابنها (ألوني) ورفيقيه، إبراهيم وسارية، واصطحبت ابنتي شقيقتها، (نور وعجبت).
* من شهدوا الحادث المفجع قالوا إنها ظلت تحتضن (عجبت) إلى صدرها حتى بعد أن فاضت روحها إلى بارئها.. قلت لهم تلك زينب، قلبها الكبير لم يكف عن المحبة، حتى بعد أن كف عن الخفقان.

* تلك زينوبة، حبيبة روحي، ورفيقة دربي، التي نذرت حياتها لغيرها، ورسمت بالحب لوحة حياتها القصيرة.
* أفيكم من رأى زينب؟
* أفيكم من خَبِر كرمها، وامتحن حنانها، وعرف طيب نفسها، وحسن عشرتها؟
* أفيكم من شهد تحسسها لآلام الآخرين، وحرصها على تطبيب أوجاع المحزونين؟
* من عرفوها علموا أن قلبها مخبوء تحت لسانها، وأنها لا تحسن إخفاء مكنونات صدرها.
* إلى جنات الخلد يا أم فاطم.

* عندما أزحت النقاب عن وجه (أبو القاسم) خيل لي لبرهة أنه نائم، وبدا لي أنه مبتسم.
* تعودنا أن نناديه بـ(ألوني)، منذ الصغر.
* لا أذكر مصدر اللقب، لكنني أعلم أن (عريس الجنان) اكتنز لنفسه محبةً لم تتوافر لأقرانه، وأنه فتن كل من تعاملوا معه بخلقه الرفيع، وأدبه الجم.
* ثلاثة أسابيع فقط فصلت بين زفافه ورحيله مع صديقيه الأثيرين، صعب علينا أن ننساك يا ألوني.
* شقَّ عليّ أن أودع الصغيرتين، بعد أن تعودت على أن استفتح بهما يومي في المدرسة.
* (نوارة)، ذات الملامح الملائكية والجمال الأخاذ.. التي يخالط شقاوتها الطفولية شيء من (الرواشة) المحببة، و(عجبت) التي تشيع جواً من المرح أينما حلت، وهي تقلد هذا وتسخر من ذاك.
* الأولى في الخامسة من عمرها، والثانية دونها بعامين، لهف قلبي على والدةٍ لا تمتلك سواهما.
* حاولت أن أعزي أمهما بالحديث عن الفانية الغدارة، التي يعبر اسمها عن قدرها (الحياة الدنيا)!
* قلت لها إن المولى عز وجل اختار لحياتنا هذي أن تكون (الدنيا)، وأن تصبح دار عبور إلى حياة أخرى، نرجو أن تحظى فيها نفيسة وزوجها بشفاعة الابنتين.. في جنات عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين.
* حثثتها على الصبر وعددت لها مناقبه، وكنت أحوج منها لمن يصبرني ويعزيني.
* ما أمر الفقد، وما أعظم الأجر عندما يقترن بالصبر.
* إن المولى عز وجل يختبر عباده بالمحن، ليمتحن إيمانهم، ويعرف مدى تقبلهم لأقداره، وقد رفع جل وعلا الصابرين مقاماً رفيعاً نرجو أن نناله بصبرنا على فقدنا الجلل.
* اختص المولى عز وجل من يصبرون على البلايا بالبشريات (وبشر الصابرين)، لذلك سنصبر، ونحتسب، ونتنقل بين مقامي الشكر والخضوع، ولا نقول إلا ما يرضيه جل وعلا.
* (إنا لله وإنا إليه راجعون).

مزمل ابوالقاسم – للعطر إفتضاح
صحيفة اليوم التالي


تعليق واحد

  1. جبر الله كسركم ورحم شهدائكم ، نسأل الله لهم الرحمة والمغفرة والقبول (إنا لله وإنا إليه راجعون)