لم يمر على افتتاحه سوى سنوات قليلة حتى تم إغلاقه فندق (أراك ).. روايات ما بين (سكن) الجن وهواجس الإنس
كل من وطأت قدماه البلاد يتجه نحو منطقة السوق الإفرنجي .. لاقتناء بعض الاحتياجات، وبغرض التجوال والتعرف على الجديد في شوارع وسط الخرطوم، يحرص دائماً على زيارة محلات أجهزة الموبايل وغيرها من المحلات التجارية بـ(برج البركة)، وفي نهاية المطاف يجلس على أريكة مطلة على الشارع موجودة بداخل كافتريا (…. ) لتناول (ساندوتش الشاورما) وعصير المانجو.. يظل ينظر إلى المبنى الواقع غرب البرج، والذي يثير إغلاقه فضول السائح البريطاني (جون أوليفر) منذ ثمانية أعوام وهي الفترة التي بدأ فيها زياراته السنوية للسودان.. ودائماً يعود الى موطنه حاملاً معه سؤالاً واحداً، لماذا يقف هذا المبنى شامخاً يعاني الهجر والوحدة، وتبدو عليه علامات الشيخوخة؟.. لم تلفت انتباه (أوليفر) أي منظر أو مشهد في الخرطوم سوى ذلك المبنى الذي وصفه عندما التقته (الصيحة) صدفة داخل تلك الكافتريا بـ(المذبوح) وسط بنايات تشهد الازدهار .
فذلكة تاريخية
لم يكن جون وحده الذي يتساءل عن أسباب تجميد المبنى قرابة الثلاثين عاماً، بل وجد الامر اهتمام من الكثيرين .. فـ(أراك) ذلك الصرح الأثري الذي أنشئ بداية ستينيات القرن الماضي، لمن لا يعرفه يحتل موقعاً مميزًا وسط السوق العربي، حيث يحازيه من الجهة الجنوبية مبنى الجامع الكبير، ومن الناحية الشرقية برج البركة.
قبل سنوات كانت تبدو عليه الحياة المفعمة بالحركة التي تضاءلت رويداً رويداً إلى أن اندثرت بالكامل، وانطفأت الأنوار التي كانت تضيء المكان، وكان بريقها يمتد حتى شارع القصر بالضفة الشرقية، خيم الظلام الدامس على المبنى في حقبة ثمانينات القرن الماضي، وتشرد مئات المواطنين الذين كانوا يعملون في خدمة النزلاء بالفندق الذي كان ملاذًا لكل الوافدين والسياح، وتوقفت الحركة بداخل الغرف والأجنحة نتيجة جريمة مقتل تاجر عملة بالفندق حسب معلومات تحصلت عليها (الصيحة) من تقارير إعلامية سابقة.
وبالعودة إلى الجريمة التي هزت المجتمع السوداني ودارت وقائعها في عام 1987م، فقد ارتكبها شاب جاء من إحدى قرى الولايات يحمل طموحاً كبيراً بالثراء، فصرف كل ما لديه بعد أن سافر للهند وعاد منها، وحتى يظهر كرجل ثري نزل بفندق خمسة نجوم وأخذ يدعي تجارته الكبيرة مع الدول الخارجية، ينزل يوماً إلى بهو الفندق ويبدأ في حكايات من نسج خياله عله يحصل على صيد يمكنه من التسلق إلى أعلى، ولكن مضت الأيام والمبالغ التي كان يحملها قاربت على الانتهاء، ولم يصل إلى مبتغاه، فبدأ يساوره القلق خاصة وأن إدارة الفندق صارت تطالبه بمتأخرات الغرفة التي كان ينزل فيها، وكان دائم التفكير في الخلاص من هذه المحنة التي يعيش فيها .. القتيل أيضا جاء به حلم الثراء إلى العاصمة وظن بأن المتاجرة بالعملة أسهل الطرق لاكتساب المال، فانخرط مع مجموعة شباب قريته البعيدة ولم يكن يتصور أبداً أن هذا العمل سيقوده إلى حتفه رغم المشاكل التي كان يواجهها فيه، والسرية في التعامل التي كان يلتزم بها، والقلق الذي كان يعيشه في كل لحظة من تعامله في العملة، وظلت تجارته في مجال (الجملة) كغطاء يسيّر من خلاله العمل الكبير في تجارة العملة.
سيناريو التجميد
وفي يوم اختفى التاجر داخل مباني الفندق حيث دخل لاستبدال عملة أجنبية لشخص لا يعرفه في حوالي الساعة الواحدة ظهرًا، ولم يعد حتى الساعة الثالثة تم إبلاغ قسم شرطة الخرطوم شمال بواسطة صديق المجنى عليه، واتخذت إجراءات مبدئية، حيث تم تفتيش كل الغرف الخالية بمباني الفندق ولم يتم العثور على شيء يؤكد ارتكاب جريمة..
مضت ثلاثة أيام على بلاغ الاختفاء حتى جاء بلاغ آخر من مدير الفندق بوجود رائحة كريهة تنبعث من إحدى الغرف، ليتفاجأ الجميع بالتاجر المفقود طريحاً وسط بركة دمائه الجافة بالغرفة رقم (612)، وهي غرفة مهملة تستخدم لحفظ أدوات النظافة والأثاثات التالفة، وكانت الجثة مغطاة بـ(بطانيتين) تابعتين للفندق وملقاة بين مجموعة من كراسي الجلوس القديمة، فتحول الطابق السادس من الفندق الذي كان يتميز بالهدوء، ونادراً ما يصل إليه أحد إلى خلية نحل بعد إجراءات المباحث واستجواب النزلاء والعاملين، وبعض من معارف القاتل الهارب الذين قاموا بالسؤال عنه تزامناً مع ارتكاب الجريمة، تم القبض على (الجاني) الذي كان يقيم بالغرفة رقم (515)، وكان يتهرب من دفع الالتزامات والمطالبات المالية التي عليه، وكانت إدارة الفندق تلاحقه باستمرار لتسديد ما عليه رغم ادعائه بأنه يملك الكثيرمن المال، إلا أن الواضح أنه كان يعاني من أزمة مالية طاحنة، وبعد استجوابه واعترافه بجريمته التي هزت أرجاء العاصمة، جاء تنفيذ حكم الإعدام عليه بسجن كوبر، ووفقاً لذلك أغلق ملف القضية وأغلقت معه أبواب فندق (أراك ) الذي ما زال صامداً وشامخاً في موقعه حتى اليوم.
رحلة تقصٍّ
تجميد المبنى لفترة طويلة فتح الباب على مصراعيه أمام القصص المثيرة عن هذا الصرح، فمرة سماع أصوات صراخ تصدر من الطابق الأعلى، ومرة أخرى عن التفاف عدد من الأشخاص حوله يمارسون تجارة المخدرات في سرية تامة، مستغلين المبنى المهجور كمخزن للبضاعة.
وللتأكد من حقيقة الأقاويل التي أطلقها عدد من سماسرة العقارات بوسط الخرطوم، توجهت (الصيحة) إلى المنطقة التي يقع بها المبنى، وقضت قرابة ست ساعات طافت حوله، والتقت بعدد من التجار والباعة الذين أكدوا معلومة أن المكان مسكون (بالجن)، وأصبح ملاذًا للقطط التي تظهر على نوافذه المتهالكة بعد منتصف الليل.
وحسب (عبد الله صلاح ود النايب) وهو مستشار مكتب للعقارات بالمنطقة المعنية، والذي تحدث إلينا عن القيمة الاستثمارية للموقع، وأبدى أسفه لتركه بهذا الوضع المشوه، مؤكداً معلومة أنه مسكون بالأرواح الشريرة والسبب في ذلك الإهمال الذي طاله من قبل الملاك والدولة التي لم تتدخل لمعالجة المشكلة الأساسية التي منعت إعادة نشاطه مرة أخرى، وأشار إلى أن الطابق الأرضي لم يتم إغلاقه مع الفندق في فترة سابقة، فقد استمر الاستثمار به في جانب (الكافتريات والاستديوهات) وغيرها، لكنه أغلق منذ عشر سنوات تقريباً بحجة الصيانة وإعادة النشاط بالكامل، لدرجة أن عدداً من التجار والمستثمرين كانوا يرغبون في إيجار مكاتب بالطابق الثاني، غير أن معلومات تناقلها البعض أفادت بأن مالك العقار لا يريد إعادة تشغيله مرة أخرى، وسوف يبيعه هكذا بلا فائدة، كما أن فك تجميده الذي نسمع به من البعض يمثل معجزة وحدثاً كبيراً سوف تشهده العاصمة القومية.
حقيقة غائبة
من مستشار العقارات انتقلت جولتي إلى المحلات المحيطة بـ(الهيكل ) للاستماع إلى آرائهم حول الحديث الذي تنوقل مؤخراً بان المبنى تحول لمخازن، وسكن (للجن)، فتوجهت نحو عدد من الباعة الذين يفترشون بضائع مختلفة أسفل المبنى المغطى بـ(الزنك والصفيح)، قال أحدهم اسمه (آدم ) إن هذا الحديث يتناقله كل التجار والعاملين بالمنطقة التي يقع في قلبها العقار، لكنه تحديداً لم ير شيئاً بعينه، غير أن (عماد) الذي يقف على بيع الأدوات الكهربائية بذات المكان اختلف مع الرأي السابق، فهو يرى وجود الجن في مبانٍ مهجورة أمراً وارداً، ولكن استغلال المبنى المحكم الإغلاق في تخزين مخدرات أمر اختلف حوله الكثيرون ولا تزال حقيقته غائبة.
قبل مغادرتهم توجهت إليهم بسؤال عن صاحب المبنى فدلني أحدهم إلى أن هناك (خفيراً) يقيم بالفندق بالطابق الأرضي ومدخله بالجهة الغربية سوف يفيدني أكثر منهم. توجهت إلى (الخفير) وسألته عن أصحاب العقار، ورأيه حول ما يثار عن المكان لكنه التزم الصمت.. وطلب مني التوجه إلى شركة التأمينات العامة بشارع المك نمر والمملوكة لصاحب المبنى وهو رجل الأعمال المعروف (حسن إبراهيم مالك)..
لماذا أراك؟
وقبل الذهاب إلى هناك كان لا بد من معرفة أسباب تسمية المبنى بـ(أراك)، فاتصلت هاتفياً بعدد من الخبراء الملمين بتاريخ الفندق، ولم يتسنَّ لى سوى الحصول على معلومات من الصحفي بصحيفة إيلاف الاقتصادية (سعد محمد أحمد)، والذي كان يمتلك وكالة سفر وسياحة قديمة اسمها (ساب) تقع شمال الفندق بالسوق الإفرنجي، حيث تفيد معلوماته بأن المبنى كان يتبع لشركة التأمينات العامة، مستأجر من قبل رجل الأعمال المعني الذي يملك شركة (أراك) التي ارتبط بها الاسم، وفي ذات الوقت يمتلك نسبة (80%) من أسهم شركة التأمينات العامة، وبعد حادثة القتل بسنوات آلت الشركة والمبنى إليه، نتيجة نزاع لإخلاء المبنى بينه والمساهمين بالتأمينات، وفي ذلك الوقت كان يمتلك الأسهم الأكثر وكان القرار في قبضته، وبعد امتلاكه للعمارة قام بإغلاق الطابق الأرضي الذي لم يتوقف نشاطه مع نشاط الفندق بغرض أعمال صيانة، استنادًا لذلك طرقت أبواب الشركة لأكثر من مرة للحصول على إفادة قاطعة حول سر تجميد المبنى، ومراقبته ومتابعته من قبل الملاك فتحدث إلى الصحيفة مدير عام التأمينات العامة والذي أكد ملكية المبنى (لحسن)، وهو الشخص الوحيد الذي يحق له الحديث حول القضية، فيما امتنع نادر حسن إبراهيم مالك العضو المنتدب ورئيس مجلس إدارة الشركة عن الإدلاء بأي معلومة، لكن تم وعدنا بتحديد مقابلة لاحقاً بعد عودة المالك من خارج البلاد.
بعد العرض
ظل مبنى أراك محل تساؤلات كثيرة، ومازال يأخذ حيزًا من التفاكر والتداول حوله بين المهتمين لأمره، والغيورين على الصروح ذات القيمة والتي تم تجميدها وتحويلها إلى أماكن مهجورة، تحيطها الأقاويل.. فالمبنى بالرغم من الظروف المحيطة به ظل صامداً في وجه التيارات والعواصف محافظاً على موقعه، والمؤسف أن ينضم إلى المباني المهجورة المسكونة والتي تمارس بداخلها ظواهر سالبة..
لم تنهِ (الصيحة) رحلة بحثها عن خفايا القضية وسوف تظل تطرق الأبواب للتأكد من الحقيقة كاملة لعرضها لاحقاً.
تحقيق: إنتصار فضل الله
الصيحة