الحديقة الخلفية.. أفريقيا تبتعد عن العرب
«يمكن القول إنه كان من الأنسب أن يولد الإنسان منذ ألف عام على محور طنجة-جاكرتا، فلقد كان للفرد هناك حظ أوفى وموارد غنية، وإمكانات كثيرة»، هكذا علق المفكر مالك بن نبي على مشكلة الرجل الأفرو-آسيوي وتحسره على الإمكانات الموجودة في هذا المحور، الذي اجتمع أول مرة في مؤتمر باندونج عام 1955 ليناقش أزمات العالم الأفرو-آسيوي، ومشاريع التحرر في هذه الأوطان، ولعل القلب النابض لهذا المحور هو المنطقة العربية التي تتقاطع جغرافيًا بين قارتي آسيا وأفريقيا.
وكان للجوار الجغرافي العربي بمنطقة أفريقيا أثره البالغ في بلورة علاقات اجتماعية ودينية مميزة، ومنذ القرن السابع الميلادي مع ظهور الإسلام، تعرف سكان الشمال الأفريقي على الإسلام وانتشر بين المجتمعات الأفريقية بالساحل وجنوب الصحراء إلى غاية الخليج الأفريقي وبالقرن الأفريقي قبل ذلك، وعلى أثر اعتناق الإسلام، انتشرت اللغة والتقاليد العربية لدى القبائل الأفريقية عن طريق التبادلات التجارية بشكل أساسي.
مؤتمر باندونج وبروز العلاقات العربية الأفريقية
وبالنظر لتاريخ العلاقات العربية الأفريقية، نجد أن هذه العلاقات تطورت سياسيًا منذ مؤتمر باندونج الذي اعتبره زعماء العالم الثالث إنجازًا عظيمًا لمجرد جمع 29 ممثلًا أفريقيًّا وآسيويًا من رؤساء دول وحكومات وحركات تحرر عالمية، كما عرفت هذه العلاقات تنسيقًا أكبر مع تبادل الزيارات العربية الأفريقية، في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، من قبل رؤساء مثل: الرئيس المصري جمال عبد الناصر والملك السعودي فيصل بن عبد العزيز والرئيس السوداني جعفر نميري والرئيس الجزائري هواري بومدين. ولعبت الحرب العربية الإسرائيلية دورًا متقدمًا في بلورة قرار عربي أفريقي مشترك تجاه القضية الفلسطينية في أكتوبر (تشرين الأول) 1973.
1
ومع هذا التقدم في العلاقات العربية الأفريقية إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي، والذي توج بمؤتمر القمة العربية الأفريقية عام 1977، تراجع الاهتمام العربي بأفريقيا، وذلك لعدة عوامل ساهمت في هذا التقلص الذي أدّى إلى ما رآه البعض عودة الاستعمار القديم للقارة، كالدول الأوروبية التي ربطت مستعمراتها بمجموعة من الاتفاقيات والتكتلات الدولية كاتفاقية لومي العاصمة الطوغولية، بين الاقتصاد الأوروبي ودول أفريقية ومتوسطية وجزر الكاريبي والمحيط الهادي، والتي أنجزت عام 1975 وطبقت ابتداءً من عام 2000 بمشاركة 69 دولة.
وتوجت جهود التقارب العربي الأفريقي بهيئة إدارة أفريقيا والتعاون العربي الأفريقي التي تتبع الجامعة العربية، وتحاول هذه الهيئة توفير فضاءات التعاون الاقتصادي والتجاري بين المنطقتين، إلا أن الإحصائيات غير الرسمية للتبادل التجاري بين العرب وأفريقيا، تخبرنا بأن ربع التبادل التجاري بين إسبانيا وأفريقيا يساوي مجموع التبادل التجاري بين القارة وإجمالي الدول العربية؛ أي لا يتجاوز ملياري دولار أمريكي، وهو رقم ضعيف جدًا مقارنةً بالإمكانيات المتوفرة.
تحديات العلاقة وغياب الرؤية العربية تجاه القارة
وعلى الرغم من العوامل التاريخية والحضارية والجغرافية للمنطقتين العربية والأفريقية، إلا أن أفريقيا كمجموعة دول ضمن منظمة الاتحاد الأفريقي أو كل دولة بمفردها، أصبح لدى بعض مجتمعاتها عداء صريح تجاه الدول العربية، وبدأت تظهر مثل هذه المشاهد عبر أزمة اللاجئين إلى الأراضي المغاربية، والعنصرية التي تحملها بعض القبائل الأفريقية جنوب السودان وبدولتي إثيوبيا وإريتريا.
في كتابه «البعد الإيجابي في العلاقات العربية الأفريقية والتعددية الإثنية كرابط ثقافي»، يوضح الدكتور عبد السلام بغدادي أن العلاقات العربية الأفريقية في العقود الأخيرة عرفت منحى إيجابيًّا وجب استثماره، ومنحى آخر سلبيًّا وجب تجنبه واستدراكه، وتطرق الكاتب إلى مؤتمر القمة العربية الأفريقية الذي انعقد عام 2001 بعد الأول الذي انعقد عام 1973، ويركز على منطقة القرن الأفريقي وعوامل التقاطع التي تعني مساحة تبلغ 5 ملايين كلم² وسكانًا يتجاوز عددهم المائتي مليون نسمة.
وبالعودة إلى التحديات التي تعاني منها الشراكة العربية الأفريقية، نجد مجموعة لها علاقة بهيمنة الدول الكبرى بالقارة، بالإضافة لغياب رؤى إستراتيجية لدى العرب تجاه مناطق حيوية في أفريقيا، واعتبارها عمقًا إستراتيجيًّا يمكن الاستثمار فيه، هو دافع أساسي في الفارق الواسع بين هذين الجناحين المنتميين إلى العالم الثالث. ولعل مصر والسودان والدول المغاربية هي المعنية الأولى بهذه الرؤية لوجود مناطق أفريقية غنية بالثروة النفطية والمعدنية والزراعية على حدودهم.
ويُعَدّ ضعف الدول الأفريقية وعدم استقلال قرارها وتبعيتها المباشرة للقوى الغربية، عاملًا رئيسيًا يعرقل تقوية الشّراكة العربية الأفريقية، ومع تعدد الاختيارات لدى الحكومات الأفريقية كالتعاون الصيني والأوروبي والفرنسي والتركي والهندي والكوري الجنوبي، تبرز كل هذه كخيارات قوية وذات فائدة للمجتمعات الأفريقية على حساب ضعف الرؤية في الشراكة العربية حاليًا، وهو ما يعرضها للوهن والزوال تدريجيًا إن لم تجد حاضنة أعمال قوية، تعود على الطرفين بالنفع والفائدة.
وتعقد القمة العربية الأفريقية بالعاصمة مالابو في غينيا الاستوائية يومي 23 و24 نوفمبر (تشرين الثاني) لهذا العام، وستكون فرصة لبحث الآفاق المستقبلية بين التكتلين العربي والأفريقي والاهتمام الدولي المشترك، وتقييم مسيرة الجانبين في إطار التعاون الاقتصادي والتجاري في ظل التحديات الأمنية والعسكرية الموجودة في مناطق عديدة بالقارة.
التمدد الشيعي.. التحدي القادم من الجنوب
في حين تسعى دولة إسرائيل إلى استعادة دور المراقب في الاتحاد الأفريقي، أوجدت إيران لنفسها مكانة اجتماعية ودينية وسياسية مرموقة في القارة الأفريقية، ولعل رقم سبعة ملايين شيعي بأفريقيا هو معطى كافٍ لإبراز مدى التوسع الإيراني في المنطقة على حساب الفراغ الديني من العرب السنة، وتهتم الدبلوماسية الإيرانية بالتواجد في أفريقيا على اعتبار هذه الأخيرة مساحة فراغ، بالإضافة إلى إدراك إيران لمرونة نفسية الإنسان الأفريقي في قبوله واستهلاكه للأفكار الجديدة، وهو ما تحاول إيران الاستثمار فيه وفي الفراغ السني الذي تراجع كثيرًا في الفترات الأخيرة.
وظهر التشيع في المجتمعات الأفريقية على أثر الثورة الإيرانية عام 1979، والتي حاول من خلالها الإمام الخميني تصدير خطابها إلى المجتمعات المسلمة والتأثير فيهم بعودة الخلافة الإسلامية، وفعلًا تأثر عدد كبير من الطلبة في موريتانيا والسنغال ونيجيريا بهذا الخطاب وسعوا إلى بناء وتشييد منظمات ومدارس وهيئات خيرية لنشر التشيع وإعداد تيار شيعي أفريقي، على غرار المنظمة الإسلامية في أفريقيا الناشطة في نيجيريا. وساهمت الجاليات اللبنانية كذلك بقوة في نشر المذهب الإثني عشري للشيعة في غرب أفريقيا.
وتحاول إيران السيطرة على المناطق المجاورة للدول العربية السنة، مثلما تفعل في منطقة الشرق الأوسط حيث تجد السعودية نفسها محاصرة من كل جانب بالأذرع الإيرانية وعلى الحدود، بالإضافة إلى رغبة إيران في الحصول على الثروات المعدنية كاليورانيوم من أجل إنجاح مشروعها النووي، ويكلل ذلك زيارات الرئيس الأسبق أحمدي نجاد إلى أوغندا وزيمبابوي، ووصلت الزيارات عام 2009 إلى 20 زيارة على هذا النحو.
ونشرت صحيفة «New York Times» في يناير (كانون الثاني) 2013 تحقيقًا عن انتشار الأسلحة الإيرانية بين المناطق أفريقيًا، وتقول الصحيفة الأمريكية إن هذا التحقيق الذي دام ست سنوات جاء ليؤكد اتهامات غامبيا ونيجيريا سابقًا لإيران بالوقوف وراء دعم الجماعات المتمردة وتسليح المعارضة، ومحاولة السيطرة على القرن الأفريقي الذي يعتبر خاصرة العمق الأمني لدول الخليج والعرب السنة. ووفقًا للتحقيق الذي أجرته شركة بريطانية مهتمة بتوزيع السلاح عبر العالم فإيران قد دعمت أربع حكومات أفريقية، وتداولت قطع الأسلحة الإيرانية في السوق السوداء جنوب السودان والكونغو الديمقراطية والنيجر ونيجيريا.
العرب واستمرار الفرص الضائعة
تقول دراسات غربية إن المملكة السعودية وحدها أنفقت حوالي 112 مليار دولار أمريكي هباتٍ ومساعداتٍ للدول الفقيرة في آسيا وأفريقيا، خلال ربع قرن قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، وهي مساعدات ضخمة كانت قادرة على بناء حكومات ومجتمعات متطورة بهذه القارة. إلا أن المانع من عدم وجود أثر لهذه الميزانية الضخمة هو غياب رؤية واضحة للسعودية تجاه القارة، مع انعدام مراكز صنع القرار وبناء الدراسات الجيوسياسية التي ترافق التحرك الدبلوماسي.
وتوجهت معظم هذه الأموال نحو رجال السلطة والعسكر دون تحقيق أهدافها الخيرية والدعوية والإغاثية، بالإضافة إلى انتشار الفساد بشكل عميق في الحكومات الأفريقية والسباق نحو التسلح والانقلابات وشراء الذمم والتقرب إلى الدوائر الغربية بهذه الأموال من أجل الإطاحة بالخصوم السياسيين والعسكريين.
وتحاول المغرب في الآونة الأخيرة استعادة مكانتها أفريقيًّا من خلال زيارات مكثفة للملك محمد السادس لعدد من الدول الأفريقية، وتسعى مصر كذلك لإعادة المكانة الدولية بعد موجة الربيع العربي التي جعلتها تتراجع من حيث التأثير في القرار القاري، وصل إلى حد تجميد العضوية من منظمة الاتحاد الأفريقي بعد أحداث الثالث من يوليو (تموز) 2013 مباشرة، حيث لعبت الجزائر دورًا بارزًا في رفع العزلة عن نظام السيسي قاريًا.
ورغم جفاف العلاقة العربية الأفريقية، حاولت الجزائر الحفاظ على تأثيرها بعد غياب مصر عن صنع القرار، عبر إدارة الملفين المالي والليبي في منافسة مع الجار المغرب الذي يعود بشكل تدريجي إلى المنظمات الأفريقية، وقد لعبت الثورات العربية دورًا كبيرًا في التأثير على هذه العلاقة التي أصبحت في ذيل اهتمامات الحكومات الأفريقية بالنظر إلى الهيمنة الغربية والغزو الآسيوي للقارة.
وتعتبر الجزائر والسودان دولتين شاسعتين بالقارة الأفريقية، وهذا ما يجعل الأولى تنأى بالدخول في حرب مع الجماعات المتشددة رغم نداءات القوى الغربية، والدولة الثانية السودان تعرضت للانقسام بما يراه المراقبون دعمًا غربيًا وإسرائيليًا لدولة جنوب السودان من أجل شطر الدولة الأكبر مساحة في أفريقيا والعالم العربي إلى قسمين وإضعافها جغرافيًّا.
وتعاني مصر حاليًا مع دول منبع النيل ومصدر المياه، وتنشر تقارير إعلامية حول مدى دعم مصر للمعارضة الإثيوبية حسب التلفزيون الرسمي الإثيوبي، وهي محاولة بحسب النظام الإثيوبي هدفها تعطيل بناء سد النهضة الذي يجري تشييده. في حين للخارجية الإسرائيلية حضور قوي في الملف الذي يعتبر ابتزازًا حقيقيًا لدولتي مصر والسودان من أجل الاستفادة من مياه النيل حسب وسائل إعلام إسرائيلية.
وتأزم الوضع في القرن الأفريقي كثيرًا بانقسام السودان، وتجددت المواجهات في إثيوبيا وإريتريا على الحدود (قبائل عربية وحبشية)، بالإضافة إلى الضعف الدولي الذي تعاني منه مصر منذ أحداث الثالث من يوليو (تموز) 2013، في حين عادت إسرائيل إلى القرن الأفريقي لاعبًا أساسيًا ورئيسيًا عبر دبلوماسيتها النشطة سياسيًا واجتماعيًا بهذه المنطقة.
وتعاني ليبيا من انفلات الوضع الأمني بعد الثورة التي أطاحت بالقائد معمر القذافي، وبالعودة إلى ثورات الربيع العربي نجد أنها أفقدت المكانة الدبلوماسية المؤثرة في القارة خلال السنوات الخمس الأخيرة ما عدا الجزائر المستقرة بوضعها الأمني والعسكري وحتى قبل فترة قليلة الاقتصادي، حيث مسحت ديون أكثر من 13 دولة أفريقية، أما المغرب المستقرة سياسيًا فقد عانت من العزلة التي أفقدتها أي تحرك تجاه الدول الأفريقية.
يمكن القول إن الدول العربية ضيعت فرصًا عديدة لعقود من الزمن، فيما يتعلق ببلورة تصور واضح تجاه بناء علاقات إستراتيجية مع الكيان الأفريقي وهو ما يحمي الأمن القومي لدول الخليج عن طريق القرن الأفريقي، وكذلك لحماية حزام الساحل الأفريقي الذي أصبح فضاءً للحروب والمعارك الدولية، بانخراط أجهزة استخبارات عالمية لدول يرى بعض المراقبين أنها معادية للمحور السني العربي.
وتوجه معظم الدول القوية سواء في أوروبا أو أمريكا أو آسيا نحو القارة الأفريقية، وخاصة تجاه منطقتي الساحل والقرن الأفريقيين، يظهر في الوقت الذي بدأ فيه ضعف الدور العربي بالقارة، وضعف التأثير والتنسيق بين هذين الشريكين اللذين كان بإمكانهما صناعة محور دولي قوي في السياسة الدولية بعد مؤتمر باندونج، وكذلك بالنظر إلى الإمكانيات الطبيعية والبشرية التي تزخر بها أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، ومدى تأثير ذلك على بقية القوى.