“البشير” خيار الوطني الوحيد وموضع ثقة الجيش
(24) شهراً تبقت للاستحقاق الانتخابي لاختيار رئيس الجمهورية، وهي فترة قصيرة جداً بالنظر إلى ما يجري في الساحة الداخلية والإقليمية والدولية.. ولم تبدأ الأحزاب جميعها حتى اللحظة الاستعداد لذلك الاستحقاق المهم، بما في ذلك المؤتمر الوطني أكثر الأحزاب انشغالاً بما يجري في الساحة.. وقد ترددت أحاديث لقيادات في الحزب والدولة تراوح ما بين التغيير والحفاظ على القديم.. وحينما رمى بعض قيادات البرلمان بحجر في البركة الساكنة عن ترشيح “البشير” لدورة قادمة وتعديل الدستور الحالي، تباينت الرؤى وآثرت الأغلبية الهروب من الإجابة الصعبة: هل يملك المؤتمر الوطني خياراً بديلاً للرئيس الحالي؟؟ وما هي المؤسسات التي تختار مرشح الوطني؟؟ وما هي الشروط التي يتوجب توفرها في المرشح؟؟ أسئلة عديدة والإجابات غائبة خاصة وقد أرخى الركود سدوله على الساحة السياسية منذ تشكيل حكومة الوفاق الحالية.. وخيم الصمت على الساحة باستثناء حركة د. “علي الحاج” الأمين العام للمؤتمر الشعبي باتجاه البحث عن سلام تتوقف من بعده الحرب الخاملة الآن، وطرق نائب الرئيس “حسبو محمد عبد الرحمن” بشدة على برنامج جمع السلاح ونزعه من أيدي المليشيات وتنظيم حملة وسط القوات النظامية.. وهناك فرقعات إعلامية لـ”مبارك الفاضل المهدي” عن إسرائيل ورؤيته الشخصية لما ينبغي أن تكون عليه علاقتها بالسودان.
وحينما حضر الرئيس الأسبوع الماضي من المملكة العربية السعودية دبت في الساحة الداخلية الحياة والحيوية.. ومن طرائف الزميل الأستاذ “إسماعيل آدم” المراسل بقناة الجزيرة مكتب الخرطوم وهو من الصحافيين المهنيين غير (الملتزمين) سياسياً نحو الأحزاب جميعها، قال: (إذا غاب “البشير” عن الساحة صمتت القنوات الأجنبية عن الإرسال، وإذا حضر نطقت القنوات بأخبار السودان)، وأضاف: (حينما غاب الرئيس “البشير” في إحدى رحلاته الخارجية ظل مكتب الجزيرة صامتاً ولم نبعث خبراً عن السودان لمدة 10 أيام كاملة).
في بلد بلغ عدد أحزابها المسجلة ما يربو على المائتي حزب، وتصدعت حركاتها المسلحة إلى تشظيات وصلت المائة فصيل أو قريباً من ذلك، ولا يصنع فيها الحدث والخبر إلا رئيس الجمهورية، فأي ديمقراطية تلك التي تغرد بها الأحزاب العاجزة عن سد فراغات الحزب الحاكم؟؟ وهل في الساحة نجم سياسي من جبهة المعارضة والحكومة (مؤهل) وقادر على إضفاء حيوية على الساحة دعك من حصوله على أصوات تؤهله لدخول القصر الجديد؟؟
{ خيارات المؤتمر الوطني
ليس أمام المؤتمر الوطني خيارات يمكنه المفاضلة بينها في الوقت الراهن إلا الرهان مجدداً على الرئيس الحالي “عمر البشير” فالقيادات المدنية من التنظيم تفتقر إلى كاريزما تجعلها تحمل شجرة المؤتمر الوطني بدلاً عن الجلوس تحت ظلالها.. وقد حمل الرئيس “البشير” في الدورة الانتخابية الحالية شجرة الحزب بدلاً عن أن تحمله الشجرة على أغصانها، واستفاد المؤتمر الوطني من المحكمة الجنائية التي طلبت مثول الرئيس أمامها وتوقيفه، وعزز هذا الطلب من شعبيته وسط عامة السودانيين الذين صوتوا لـ”البشير” بأمل في التغيير والتجديد والحفاظ على ما تحقق من أمن وأمان في وقت اضطربت فيه دول الربيع العربي وكادت أن تعصف بالسودان في مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات من الآن.. ومنذ مغادرة النائب الأول السابق “علي عثمان محمد طه” واجهة الجهاز التنفيذي وابتعاده عن الجهاز السياسي، ونشاط الحزب الجماهيري وضمور دوره في الاجتماعات القيادية للحزب، وتبعه “نافع علي نافع”، لم تصعد نجوم سياسية في الحزب الحاكم.. بل ارتفعت أسهم القيادات العملية الواقعية مثل المهندس “إبراهيم محمود” و”حسبو محمد عبد الرحمن” و”محمد طاهر أيلا” الذي ابتدع طريقاً موازياً لشارع المطار الذي يرمز للحزب الحاكم.. وحينما اختار الرئيس النائب الأول ورئيس مجلس الوزراء الفريق أول ركن “بكري حسن صالح”، اختاره بدقة شديدة لثقته المطلقة فيه وتأهله لخلافته في المرحلة القادمة..
ولكن هل جاءت مرحلة “بكري حسن صالح”؟ وهل يستطيع الرجل سد الفراغ الذي سيتسع إذا غادر “البشير” المسرح التنفيذي؟
لا يبدو صعود الفريق أول ركن “بكري حسن صالح” في الدورة القادمة واقعياً، وبالتالي يصبح أمر التجديد للرئيس “عمر البشير” مرة أخرى ضرورة تمليها حقائق الواقع وليس أمنيات بعض المتطلعين للحكم والتجديد دون رؤية وقراءة لما هو مطلوب من الرئيس القادم.. وفي الدورة الماضية حينما أعلن الرئيس رغبته الصادقة في التنحي، ومغادرة المسرح وترك الجمل بما حمل.. واجه المؤتمر الوطني مأزقاً حقيقياً في اختيار شخصية ذات مقبولية للشارع العام حتى يمنحها أصواته ولا تترتب على الاختيار تصدعات في تكوين الحزب الذي يتألف من الإسلاميين وقطاعاً عريضاً من الرأسمالية وطبقة الموظفين والمزارعين وإدارات أهلية وسند عسكري من المؤسسة القومية، القوات المسلحة، لرئيس الحزب ورئيس الجمهورية، وأية شخصية لا تحظى بثقة وتأييد مكونات حزب المؤتمر الوطني حظها في التنافس قليل جداً.. لذلك صعدت في داخل التنظيم أصوات الواقعيين وتم ترشيح الرئيس مرة أخرى.. وتنافست القيادات التي كان متوقعاً أن ترشح نفسها لخلافة الرئيس في إثبات أيها أكثر ولاءً للرئيس وثباتاً على دعمه.. وانطوت تلك الصفحة باختيار الشورى لـ”البشير” مرشحاً، وبذلك كتبت السطر الأخير في فصول احتمالات أن يصعد قيادي مدني إلى قمة السلطة في السودان.
{ المؤسسة العسكرية ودورها
لا ينص الدستور على أي دور للقوات المسلحة في اختيار رئيس الجمهورية، ولا وجود أو اثر للقوات النظامية في المؤتمر الوطني.. وانتماء أغلب قادة القوات المسلحة إلى التيار الإسلامي هو انتماء ثقافي وحضاري وليس انتماء تنظيمياً مؤطراً، لذلك ولاء ضباط القوات المسلحة للوطن والجيش وليس للأحزاب.. لكن هناك شروطاً عامة، من لم يضمن ولاء القوات المسلحة وتأييدها له لن يستمر في الحكم مهما حصل على أصوات من عامة الناس، بما في ذلك أفراد القوات النظامية الذين يصوتون في الانتخابات كمواطنين.. واستقرار حكم الإنقاذ لمدة (27) عاماً كان بفضل القوات المسلحة التي لم تتبدل ثقتها في الرئيس “عمر البشير” الذي عبر بها من الوهن والضعف إلى القوة، ومن الهزيمة إلى النصر، وحافظ “البشير” على موقعه كقائد أعلى للقوات المسلحة قريباً من مشاكل الضباط والجنود.. يختار أفضل الكفاءات العسكرية وأقربهم للمزاج العسكري العام، لذلك تقف المؤسسة العسكرية مع قائدها العام ولن تبدل ولاءها له.. وحتى اليوم يمثل “البشير” الخيار الأول والثاني والثالث لرئاسة الجمهورية، ويأتي من بعد ذلك الفريق “بكري حسن صالح” والفريق “عوض ابن عوف” والفريق “عماد عدوي” والفريق “السر” و”جمال عمر” و”شمس الدين” وبقية قادة القوات المسلحة.. وبالطبع يمثل جهاز الأمن والشرطة ثقلاً مهماً في استقرار البلاد وتحمل أعباء الحكم، والتضحية في سبيل استقرار النظام.. وبالتالي المؤسسات ذات الشوكة وحامية النظام الديمقراطي واستقرار البلاد إذا لم تقتنع بالمرشح المناسب فإن دورة عدم الاستقرار والانقلابات والمغامرات ستطل بوجهها الكالح مجدداً على بلادنا.. ومن هنا فإن المؤسسات القومية العسكرية مع خيار استمرار “البشير” لدورة قادمة وفقاً لما بين يديها من تحديات ومخاطر تحيط بالبلاد قد لا يراها عامة الناس.
{ “البشير” خيار العرب
بعد التطورات الكبيرة التي شهدتها منطقة الخليج والدور السوداني في حرب اليمن، وثقة القيادات العربية في الرئيس “البشير” الضامن للاستقرار في السودان والقادر على مجابهة المدّ الشيعي والحفاظ على نظام إسلامي معتدل في السودان لا تنبت في أحضانه بذرة التطرف الإسلامي، والمساهم في الحرب على (داعش)، فإن العرب يثقون في “البشير” عن تجربة، وفي ذات الوقت تبدو البلدان العربية أكثر حاجة لخبرات الرئيس “البشير” الذي هو اليوم من أكثر الرؤساء العرب قدرة على نسج التصالحات.
وعلى الصعيد الغربي، فإن الولايات المتحدة غير معنية بقضايا مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والحكم الرشيد بقدر اهتمامها بمصالحها التي تتحقق في وجود “البشير” أكثر من رئيس جديد غير مجرب لديها.. ومن هنا فإن تجديد ترشيح “البشير” لدورة قادمة يبدو هو الخيار الأقرب والأكثر واقعية من المغامرات غير محسوبة العواقب.
{ تغييرات الولاة واختلال المعايير
منذ أسبوعين تسربت أخبار عن تغييرات مرتقبة في مناصب ولاة ولايات السودان، بعد أن زعمت بعض الصحف أن لجنة سرية من المؤتمر الوطني فرغت من تقرير وضعته لعرضه على أجهزة الحزب القيادية من أجل إجراء تغييرات في مناصب ولاة الولايات الذين جاءوا لمواقعهم الحالية على خلفية تعديل الحكومة للدستور وإلغاء حق المواطنين في اختيار ولاة أمرهم، بعد أن أدت طريقة اختيار المؤتمر الوطني لمرشحيه لمنصب الوالي إلى أزمة ترتب عليها إلغاء نص دستوري يمنح المواطنين حرية اختيار من يحكمهم واستبداله بتعيين الرئيس للولاة.
ومن المفارقات أن بقية الأحزاب المشاركة في الحكومة لم تبد احتجاجاً على إلغاء انتخابات الولاة، لأنها لا تملك الرغبة أصلاً في خوض مباراة محسومة النتيجة لصالح منافسهم، وحينما تم إلغاء (الانتخاب) واستُبدل بالتعيين لم تطالب الأحزاب بنصيبها في مناصب الولاة لأن سقف طموحاتها أصلاً منخفض لا يتعدى وزارات اتحادية ووزراء دولة وبضع لجان في البرلمان ووزارات في الولايات كالشباب والرياضة والصحة والثقافة والإعلام.. ولم يهمل المؤتمر الوطني نتائج الاختيارات التي تم إلغاؤها جملة، بل استند إليها في اختيار الولاة المعنيين.. وحافظ على حق كل ولاية في تعيين واحد من المرشحين لمنصب الوالي دون التقيد بأعلى أو أدنى الأصوات.. والولاة الذين وقع عليهم الاختيار لمناصب الولاة تم نقلهم من ولاياتهم إلى ولايات بعيدة.. ذهب “أيلا” من البحر الأحمر للجزيرة، وجاء من أقصى غرب دارفور “أبو القاسم الأمين بركة” للفولة، واللواء “حاتم الوسيلة السماني” من العرشكول في بحر أبيض إلى دار المجذوب و”كاشا” من بحر العرب وأضان الحمار إلى ربك والجزيرة أبا.. واليوم بعد مضي منتصف الدورة الانتخابية تعتزم قيادة المؤتمر الوطني إجراء مراجعات في مناصب الولاة بعد أن اقتضت ظروف طارئة وإخفاقات كبيرة لبعض الولاة المعينين تبديل بعضهم مثل د. “خليل عبد الله” في غرب دارفور و”محمد حامد البلة” في نهر النيل.. ولكن بقية الولاة حافظوا على مواقعهم.. والتقييم الذي تعتزمه قيادة المؤتمر الوطني في الأيام القادمة قد يذهب بولاة في نظر عامة الناس ينبغي أن يمدد لهم لفترة قادمة.. وقد يبقي التعديل على ولاة تبدت علامات فشلهم الصغرى والكبرى للمواطنين، لكنهم في نظر وتقييم السلطة المركزية لحزب المؤتمر الوطني ولاة ناجحون يجب الحفاظ عليهم.. كل ذلك لأن معايير التقييم غامضة وغير معلنة، ولا يعرف الشعب ما إذا كان الوالي الذي في نظره صاحب عطاء وبذل مرضياً عنه في المركز أم لا.. ومعايير التقييم بطبيعة الحال لن تكون عادلة وموضوعية إذا كان بعض الولاة بعلاقاتهم الشخصية يستطيعون مهاتفة رئيس الجمهورية في هجعة الليل.. وحينما يصل أحدهم الخرطوم تصحبه سيارته الفارهة إلى بيت الضيافة للقاء الرئيس، وعند الصباح يشرب شاي الصباح مع رئيس الوزراء.. ويطوف على وزير المالية ومفوض الإيرادات القومية، ويعود لولايته في اليوم التالي وقد تضخمت خزائنه بالمال، وبعض الولاة يمكثون أياماً وشهوراً يمنون النفس برؤية الرئيس ومصافحة رئيس الوزراء.. ولا يستطيعون الوصول لوزير المالية فكيف يصبح هذا الوالي فاشلاً وذاك ناجحاً؟
إذا كانت كل المعايير بظاهر الحكم لا ببواطنه، فإن هناك ولاة متفق على نجاحهم، ولم تشهد ولاياتهم صراعات داخلية، وتكتلات.. ومذكرات تطرق أبواب المركز.. وهناك ولايات شهدت في الأيام الأخيرة صراعات معلنة لكنها حول السلطة من يبقى ومن يذهب، ويدفع بعض الولاة ثمناً باهظاً نيابة عن غيرهم، مثل ولاية كسلا، ويتربص زعيم قبيلة في ولاية بها أكثر من عشرين قبيلة بنائب رئيس المؤتمر الوطني ومساعد الرئيس في شخص الوالي.. وما يحدث في جنوب دارفور من صراع بين بعض أبناء الولاية من الولاة السابقين الطامحين في العودة من خلال لي ذراع المركز وإرغامه على تعيينهم، لكن هؤلاء (الكباتن) يخوضون معركتهم مع نائب الرئيس “حسبو محمد عبد الرحمن” بزعم أنه يساند الوالي “آدم الفكي”، وأن منصب نائب الرئيس أحق به (الكابتن) الذين تقلبوا في المناصب خلال الـ(27) عاماً الماضية حتى ارتوت (قربهم)- والقربة وعاء من الجلد يحفظ فيه الماء.. وفي بورتسودان يخوض أنصار الوالي السابق “محمد طاهر أيلا” معركة تكسير العظام لهزيمة اللواء “علي حامد” وإثبات خطأ نقل أمير الشرق كما يدعونه من الثغر لود مدني.. لكن بقية الولايات يسودها الصمت إزاء ما تعتزم الحكومة القيام به من مراجعات.. وولاية مثل الخرطوم توقفت فيها كل مشروعات البنى التحتية وتدهورت خدمات المياه، لكن واليها الجنرال “عبد الرحيم محمد حسين” يجد قبولاً عند السلطة العليا، وقبولاً وسط عامة الناس، بيته مفتوح للمواطنين، والقيادي الوحيد في الإنقاذ الذي يفتح هاتفه لكل الناس ولا يميز بين شخص وآخر على أساس الانتماء السياسي أو القبلي.. لكنه يتعرض لحرب خفية من داخل حكومته ومن خارجها.
وفي شمال كردفان يتسلل الخوف لقلوب أهلها كما تحدثت الأخبار عن تعديلات مرتقبة في صفوف الولاة، خوفاً من ذهاب الوالي “هارون” وغروب شمس النفير وتوقف مشروعات التنمية.. وفي جنوب كردفان نجح الجنرال د. “عيسى آدم أبكر” في تقديم نموذج حكم مختلف عن الولاة الذين كانوا من قبله.. هدوء في التعاطي مع الأزمات، وعفة لسان، وقدرة فائقة على توحيد الناس، وقد استطاع إنفاذ مشروعات تنموية كبيرة في ظروف بالغة التعقيد.. ولكن للمركز رؤيته وتقديراته.. وفي شمال دارفور التي كادت أن تنزلق في لجة صراعات جديدة بعد إعلان شيخ قبيلة المحاميد مناهضة بعض الإجراءات الحكومية، لكن هدوء المهندس “عبد الواحد يوسف” وحكمته وصبره قد تجاوز بالولاية احتمالات الانزلاق مجدداً لأتون الصراعات التي بدأت من الفاشر وتنتهي بها.
يوسف عبد المنان
المحهر السياسي