مدينة التقوى .. آثار تحكي قصص المسلمين بكينيا
العبور إلى مدينة التقوى التاريخية في كينيا يمر بغابات القرم “المانغروف” الكثيفة، وبعد نصف ساعة في البحر يظهر لنا الجسر الذي يقودنا إلى أثر مدينة لم يعد يقطنها البشر، ولا يأتيها إلا الزائرون والعابرون الذين يقفون على أطلال مدينة بُنيت في القرن السادس عشر.
مدينة صغيرة كل أثر فيها يكتب قصة عن المسلمين الذين عاشوا هنا مئة عام، قبل أن ينتقلوا إلى جزيرة أخرى، لتصبح مدينة التقوى في الثمانينيات محمية تاريخية تتبع المتحف القومي الكيني بقرار جمهوري.
أشارت الشواهد والحفريات إلى أن تاريخ المدينة يعود إلى القرن السادس عشر، وأن الذين سكنوا المدينة الصغيرة كانوا من المسلمين العرب. يقول أحمد عبد الحميد (٣١ عاما) “أجدادي كانوا يسكنون هذه المدينة. وهناك روايات متواترة عبر الأجيال عن السكان الذين سكنوا المدينة”.
ويُعتقد على نطاق واسع أن سكان المدينة القديمة رحلوا إلى جزيرة مقابلة تسمى “شيلا”، وصاروا يعودون للصلاة من أجل الأمطار في كل عام، وبرحيلهم تركوا البيوت والمعالم التاريخية كما هي، والشوارع التي تقود من ناحية الغرب إلى بوابتين رئيسيتين للمدينة، وكلتا البوابتين تطل على المحيط الهندي. الحائط الذي يمثل السور الرئيسي للمدينة من جهتي الغرب والشرق يدل أيضا على المنعة والحماية والإستراتيجيات الأمنية التي ابتدعها سكان المدينة الأوائل.
وواضح أن المدينة استمدت حتى اسمها من الإسلام كدين للسكان الأوائل، ويُعتبر المسجد الذي يتوسط المدينة هو المعلم الأبرز ويقع في مركزها، ويعتبر مقرا للفعاليات الرئيسية في المدينة، ووجدت الحفريات الأولى في المدينة وما يشير إلى أن ساحة المسجد بها مكان للوضوء، وهو البئر الرئيسي في المدينة. كما أن هناك ساحة قريبة من الجامع تلتقي عندها شوارع المدينة المحددة بعناية.
كل منازل المدينة تفتح أبوابها شمالا، وقال الباحث في تاريخ لامو محمد علاوي للجزيرة نت “أظهرت نتائج فرق المسح الأولى أن سكان مدينة التقوى بنوا منازلهم من الحجارة، وكلها تفتح في جهة القبلة”. ويشير علاوي إلى أن معنى ذلك هو أن السكان الذين عاشوا كانوا مسلمين عربا.
وتتفق الروايات على أن سكان المدينة بعد أن استقروا فيها لعشرات السنين، بدؤوا في رحلة إلى جزيرة شيلا في الجهة المقابلة لجزيرة ماندا، ورويدا رويدا انتقل كل سكان التقوى إلى شيلا مستفيدين من وضعيتها الأفضل ومزاياها الجغرافية .
بقي في مدينة التقوى أثر بالغ الأهمية، وتتوافق الدراسات والروايات على أن معظم سكان شيلا في جزيرة لامو كانوا يسكنون بالمدينة.
وقال عمر حسن للجزيرة نت”أجدادي كانوا هنا”. ويعمل عمر ضمن فريق المتحف القومي الكيني الذي آلت إليه مسؤولية محمية مدينة التقوى بقرار في ١٩٨٨. ويقول عمر “الآن كل المدينة تتبع للحكومة، ويتعامل معها بقانون المتاحف التاريخية والسياحية” .
لا يسكن في المدينة الآن سوى خفير يتبع للحكومة، يعيش مع أسرته، ومهمته تقتضي العمل طوال اليوم للترحيب بالسياح، يقول عبد الرحمن سعيد للجزيرة نت “نحن لدينا تذاكر لدعم المدينة والحفاظ على الآثار وتطويرها بالخدمات حتى يقضي السياح ساعات أطول في معالم التاريخ”.
اصطحبنا سعيد في جولة حول بعض معالم المدينة الأبرز، حيث الجدار الكبير من جهة الغرب يقودك مباشرة إلى واحدة من بوابات المدينة الأربع. إنها سور بارتفاع ثلاثة أمتار. بمحاذاة هذا الحائط تقابلنا البوابة الثانية، وبعد ما لا يزيد عن مئة متر تكون على واجهة البحر العميق كما يسمونه.
في أقصى شرق المدينة تقع ساحة المولد وبها منارة بطول ستة أمتار. يقول الدليل السياحي في المدينة عمر محمد للجزيرة نت “هذه المنارة تُستخدم لتنبيه السفن في البحر للمدينة، وفي البحر يمكن أن تراها من مسافات بعيدة”. وحول هذه المنارة، التي كتب عليها اسم الله والرسول محمد صلى الله وعليه وسلم وأصحابه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم)، كتب في ركن منها التاريخ العربي ١٠٩٤.
وقال عبد الرحمن إن السكان كانوا يقيمون احتفالات المولد هنا، وكانوا يقيمون صلاة الاستسقاء حول المنارة، يقول عمر “إلى وقت قريب كان سكان لامو يأتون هنا للدعاء من أجل نزول المطر، وهي كما ترى متجهة نحو الشمال وهناك سهم يشير إلى الكعبة” .
لا أحد يعرف الأسباب التي دفعت سكان مدينة التقوى لهجر مدينتهم التي بنوها من الحجر وخططوها تخطيطا هندسيا دقيقا ما زال شاهدا على تلك العبقرية، لكن من المؤكد أن هناك حوافز أكثر في شيلا الأكثر انفتاحاً.
يقول علاوي للجزيرة نت “غابات القرم (المانغروف) تكاد تخنق المدينة، والغابات التي تحيط بالمدينة من كل جهة ما عدا البحر هي أكثر الغابات التي تُستخرج منها أخشاب المانغروف، وهي أخشاب تستخدم لسقف البيوت والبناء وصناعة المراكب، وتكاد تكون أساسية في اقتصاد السواحليين. وتنتج جزيرة لامو ٦٧% من إنتاج كينيا من هذه الأخشاب بمساحة تزيد عن عشرة آلاف هكتار” .
الجزيرة نت