في عصر النهضة.. كيف نظر المسرح الأوروبي إلى الإسلام؟
ظهرت في أوروبا في الفترة ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر حركة تميّزت بالثراء الفني وازدهار الكتابة والطباعة وتطور ملحوظ في الفلسفة والأدب والرسم والشعر وعلم اللاهوت والسياسة وعلم الطبيعة والرياضيّات وغير ذلك من الجوانب الفكرية. هذا العصر هو عصر النهضة.[1،2]
ونتيجة لهذا التطور ظهر ما يُعرف “بالنزعة الإنسانيّة” التي سعت لتمثيل الإنسان سواء في الفنون أو الفلسفة أو السياسة بالتركيز على أفكاره ومشاعره وقيمته الوجودية وكرامته كإنسان وقدرته الفريدة الاستثنائية قيامًا على مزج المنطق بالبراهين التجريبية.[1، 2]
ولا يزال خطاب الفيلسوف الإيطالي بيكو ديلا ميراندولا، 24 (فبراير/شباط) 1463-17 (نوفمبر/تشرين الثاني) 1494، والمعنوّن بـ”خِطابٌ في كرامة الإنسان”[3] (De hominis dignitate)، إحدى أبرز الأمثلة على التحول نحو الدنيوية العلمانية التي أسس لها ذاك العصر.[4]
على المستوى الفني، مال عصر النهضة سواءً في الرسم أو الأدب لتمثيل الإنسان بشكل واقعي وتسليط الضوء على الإنسان وقدراته. ففي الفن التشكيلي مثلا، ركز رسّامون، أمثال دافنشي ومايكل آنجلو، على التمثيل الواقعي للجسد البشري حتى في اللوحات ذات الطابع الديني.
في الأدب والمسرح كان الأمر مُختلفًا. فالنزعة نحو الأنسنة التي كانت تُرى انطلاقة علمانيّة دنيوية لبناء الدولة بمفهومها الحديث ألقت بظلالها على الدراما المسرحية. وأثرى ذلك التوجه التوسع في حركة التجارة ورأس المال عالميًّا بين الشرق والغرب.
فتناولت بعض المسرحيات الأديان الإبراهيميّة الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، بنقد لاذع أحيانًا كثيرة. ويُعزى لنمو حركة التبادل الثقافي التي صاحبت التبادل التجاري إلى جانب حركة الإصلاح البروتستانتي دورًا كبيرًا في قُدرة عدد مِن المسرحيين على تقديم تلك الأعمال التي تكاد كتابتها، ناهينا عن تقديمها على خشبة المسرح، يكون مستحيلا قبل عصر النهضة.
وحركة الإصلاح البروتستانتي هي حركة أطلقها الراهب الألماني مارتن لوثر، 10 (نوفمبر/تشرين الثاني) 1483 – 18 (فبراير/شباط) 1546، اعتراضًا منه على بيع صكوك الغفران وشراء المناصب الدينية كالمطران والكاردينال وحتى الباباويّة. كما رفض السلطة التعليمية في الكنيسة الكاثوليكية، وعارض سلطة الكهنوت الخاص باعتبار أن جميع المسيحيين يتمتعون بدرجة الكهنوت المقدسة، وسمح للقسس بالزواج.[5]
الراهب مارتن لوثر (مواقع التواصل)
أدَّت الحركة لإدانة الراهب مارتن لوثر وصدر قرار من الملك شارل الخامس، باعتباره ممثلا للإمبراطورية الرومانية المقدّسة، بنفيه وحرمانه كنسيًّا باعتباره مُهرطقا خارج عن القوانين.[6] لذلك، فإن فهم المسرحيات التي تناولت الإسلام ونبيه في المسرح الأوروبي خلال عصر النهضة يقتضي فهم السياق الفكري والسياسي لتلك المسرحيات. فحالة الحراك الديني والفكري وحتّى التجاري مع البلاد الإسلامية جعلت الإسلام ونبيه ضيفًا على المسرح الأوروبي.
حرق القرآن في مسرح كريستوفر مارلو
بالنظر في المضي قُدمًا نحو العلمانيّة والأنسنة وإعلاء العقل والتجريب والكرامة الإنسانيّة في ذاك العصر، فإن تقديم الإسلام على المسرح الأوروبي لم يكن تقديمًا منطقيًّا نقديا بقدر ما كان مجرد هجاء مناقض لتلك القيم.
وبالرغم من أن عصر النهضة مرتبط في المخيلة العامة بكونه فترة إصلاح ديني وتقدم مدني علماني وتأسيس لفلسفة سببية تقوم على العقل. إلا أنّ العصر، على خطى القرون الوسطى، شهد فقرا وحروبا واضطهادًا دينيا وسياسيا وصعودا للسياسة الميكافيلية وحروب الدين الفرنسية.
ولعل أبرز مثال على ذاك الاضطهاد الديني، هو مسرحية “تامبيرلين العظيم” (Tamburlaine the Great 1587)، للمسرحي الإنجليزي كريستوفر مارلو، 26 (فبراير/شباط) 1564 – 30 (مايو/أيار) 1593، والتي اُعتبرت، مِن قبل النُقّاد، تعبيرًا عن نزعة الأنسنة التي لازمت عصر النهضة وقدرات الإنسان اللامحدودة.
يُمكن اعتبار شخصية تامبيرلين أول شخصية مُلحدة في أعمال كريستوفر مارلو -الظاهر في الصورة-، ومارلو نفسه كان يُظن أنّه ملحد.
مواقع التواصل
إلى جانب ذلك، اُعتبرت المسرحية اضطهادًا للإسلام (Anti Islam)، حيث يقوم الشخصيّة الرئيسة في المسرحيّة، تامبيرلين، بحرق القرآن على خشبة المسرح في الجزء الثاني بعد أنّ يدعي أنّه، هو نفسه، (Scourge of God) “عقابٌ مِن الرب”.[7]
يُمكن اعتبار شخصية تامبيرلين أول شخصية مُلحدة في أعمال مارلو، ومارلو نفسه كان يُظن أنّه ملحد. وتحكي المسرحية قصة تامبيرلين وهو راعي غنم سكوثيني[8] يواجه ميسيتس إمبراطور فارس في معركة للسيطرة على الحكم، يكتسح تامبيرلين بلاد فارس؛ ثم يرى أن ملك فارس يجب أن يحكم أفريقيا. فيغزو أفريقيا ويتوّج نفسه ملكا عليها ثم يضع عينه على بلاد بابل؛ وهي العراق اليوم. ويُجهّز أولاده لغزو بقية الأرض.
“Unhappy Persia, that in former age
Hast been the seat of mighty Conquerors,
That in their prowess and their policies, Have triumph over Africa.”[9]
“يالتعاسة فارس، التي كانت في عصور غابرة
مقرًا لعظماء الغُزاة،
الذين بحنكتهم وسياستهم، أخضعوا أفريقيا.”
(كريستوفر مارلو، تامبيرلين)
لكن ابنه الأكبر يُفضل البقاء إلى جوار والدته عوضًا عن مواجهة الموت في المعارك. ابنه الثاني يجمع عددا من ملوك الممالك الصغيرة ضد والده لينقلب عليه، الثالث يخرج مع أبيه للقتال لكن يكتشف تامبيرلين بعد تحقيق النصر أن ابنه بقي في خيمته وقت المعركة ولم يحارب معه فيقتل ابنه بيده.
يقف تامبيرلين على أبواب بابل التي يوشك أنّ يحكم قبضته عليها لكن أهل بابل يحتشدون ضده من فرط وحشيته التي سمعوا عنها. فيأمر تامبيرلين جنوده بإغراق جميع السُكان، الرجال والنساء والأطفال، في بحيرة مجاورة ثم يحرق القرآن بازدراء ويصرخ أنا “أكبر من الله / (Greater than God) لكنّه يمرض وعلى شفا الموت يطلب من ولديه أن يغزوا ما تبقى من الأرض.[10]
الإنسان بديلا عن الإله
في تامبيرلين، يُسلط مارلو الضوء على الإنسان بديلا عن الإله، وهي الفلسفة التي سيطرت على عصر النهضة ككل. ومارلو يرفع تامبيرلين من مجرد راعي غنم لإمبراطور ثم يرفعه من إمبراطور لملك الملوك الذي يتحدى الله ويحرق القرآن.
“That perfect bliss and sole felicity, the sweet fruition of an earthly crown”
“إن النعيم المثالي والهناء الوحيد، هو ذاك الاستمتاع اللذيذ بالمُلك الدنيوي”.[11]
( تامبيرلين العظيم، الجُزء الأوّل)
يسلط مارلو في سياق المسرحية، بوصفها عملا دراميا، الضوء على إشكالية لا محدودية الرغبة البشرية في تحقيق المستحيل لكنها مُقيّدة في الوقت ذاته بالفناء الحتمي للإنسان وموته مهما طال عمره.
ومارلو نفسه كان مفتونا بميكافيللي الذي كان معاصرًا له، ومعجبا بشدة بمَن يطمحون للمستحيل ويكسرون القيود الاجتماعية والطبقية التي ولدوا فيها ليصلوا إلى ما وراء النجوم. ونجد أن فكرة البطل الذي يحقق مالا ونجاحا مترددة في كل أعماله بلا استثناء.
تقدم الباحثة الإنجليزية ليزا هوبكنز أطروحتها حول مارلو، في كتاب “كريستوفر مارلو”، بأن مارلو كان يميل لخلق شخصيات تتحدى الأعراف الاجتماعية والدينية والأخلاقية بشكل عنيف. (مواقع التواصل)
ففي مسرحية “دكتور فوستس (Dr. Faustus) نجد أن البطل فوستس يسعى نحو المعرفة الكلية وفي سبيل ذلك يبيع روحه لإبليس الذي يستحضره بتعويذة ليكون خادمًا له في حياته.[12] فيما كان يسعى “باراباس” في مسرحية “يهودي مالطا” (The Jew of Malta) لثروة طائلة لا حدود لها.[13] فيما أراد “موتيمر” في مسرحية “إدوارد الثاني” اغتصاب التاج.[14] ومع ذلك، يظهر تامبيرلين أكثر جسارة وطمعا من كل هؤلاء. فهو يسعى للسيطرة على الأرض ويتحدى الله ويحرق القرآن ويسفك الدماء ويدمر ممالك في سبيل تحقيق مجده الشخصي.
وتقدم الباحثة الإنجليزية ليزا هوبكنز أطروحتها حول مارلو، في كتاب “كريستوفر مارلو التراجيدي النهضوي”، بأن مارلو كان يميل لخلق شخصيات تتحدى الأعراف الاجتماعية والدينية والأخلاقية بشكل عنيف. وفي الفصل الخامس مِن الكتاب، بعنوان “تحدّي الرب خارج الجنة” تُجادل هوبكنز أن مارلو كان يرى الدين مصدرا للعنف والإرهاب.[15]
اتُهم مارلو في حياته بانتمائه لما يعرف “بمدرسة الليل” (The School of Night)، وهي مدرسة عن الإلحاد ظهرت في القرن السادس عشر.[16] وبالرغم من كل ما نُسب له من ميكافيللية سياسية وأخلاقية وازدراء أديان وإلحاد وتحريض على العنف الديني بحرق القرآن إلا أنه يُعتبر اليوم أحد أشهر وأهم الشعراء والتراجيديين الإنجليز بعد ويليام شكسبير.[17]
الشاهد، أن فهم الخلفية الفكرية والاجتماعية لمسرحيّة مثل “تامبيرلين العظيم” والسياق الدرامي لأحداث المسرحية، للإنسان الذي يعلن نفسه بديلا عن الإله ويحرق القرآن ويغزو أفريقيا ويقتل ويذبح ويُغرق الناس، الرجال والنساء والأطفال، ويوصي نسله بغزو بقية العالم بعد وفاته، رُبما يكون مفتاحا لفم خلفية استعمار أفريقيا والشرق الأوسط لاحقًا!
“أعطني خريطة، ودعني أرى ما تبقى لي من العالم لأغزوه، إن هذا، يا أولادي، سيُشبع كافة رغباتي. من هنا أبدأ، الزحف نحو بلاد فارس، على طول أرمينيا وبحر قزوين، ومن ثم إلى بيثينيا[18] حيث أضع يدي على، بلاد تُرك وكل سُجناء مملكته العظيمة، ثم أزحف لمصر وبلاد العرب، وفي مكان غير بعيد عن الإسكندرية، حيث يلتقي البحر الأحمر والبحر المتوسط، فيُبحر الرجال سريعًا نحو الهند. ويبحرون من النوبة إلى بحيرة بورنو، وهكذا على طول البحر الأثيوبي وقطع الطريق نحو البلاد الاستوائية بطول برج الجدي، أغزو كل أرض حتى أصل زنجبار[19] وفي الجزء الشمالي من أفريقيا، أصل إلى اليونان الكبرى ومن ثم إلى آسيا، حيث أبقى فيها على عكس رغبتي، فأعود لسيثيا، من حيث بدأت..”[20]
(تامبيرلين العظيم)
فتامبيرلين العظيم لم يعد مجرد شخصية على ورق أو ممثل على المسرح. بل تحول لحقيقة على أرض الواقع. وغزو أفريقيا والسيطرة على العراق لم يعد سياقا خيالا مسرحيًّا بل إمبريالية واقعيّة. وها هو تامبيرلين العظيم قد مضى في الأرض فسادا يهلك الحرث والنسل واستعمر أفريقيا وهشّم بابل/العراق. وقد أوصى أولاده بالمضي قدما في غزو بقية العالم!
الجزيرة.