تحقيقات وتقارير

توقفت قبل أن تتحرك بصات الميني “فاو”.. أموال البسطاء تتبدد في الهواء

هيئة تنمية الصناعات الصغيرة في قفص الاتهام

الناطق الرسمي باسم المتضررين: السعر خيالي والبصات منتهية

هل صحيح أن سعره لا يتجاوز 280 وليس 542 ألف جنيه؟

كانت فرحة المواطن آدم هارون محمد أحمد لحظة تحقيق حلمه غير مسبوقه، فالابتسامة ارتسمت على محياه وكاد أن يحلق في السماء من السعادة، فقد شعر يومها أن مستقبله لن يكون مثل حاضره وماضيه، فقد امتلك أخيراً مصدر دخل ثابت يدر عليه دخلاً يومياً مقدراً يكفيه شر الحاجة والمسغبة، ولحظة استلامه في العام 2014 بص نقل ركاب الذي تعارف عليه شعبياً “ببصات الفاو” بالرقم (21178) خ 4، كان على ثقه تامة أن الحظ قد ابتسم له أخيراً، إلا أنه وبعد مرور ستين يوماً فقط أدرك أنه خسر مبلغ 500 ألف جنيه في عربة لن يحصد من ورائها سوى الندم أسوة بمئات من الذين تدافعوا لامتلاكها، واليوم يؤكدون أنهم تحولوا إلى رصيف البطالة وإلى خانة الفقراء بعد أن تعطلت البصات وتوقفت عن العمل، وحملوا هيئة تنمية الصناعات الصغيرة مسؤولية خسائرهم الفادحة.

حسرة ودمعة

آدم هارون الذي زرناه في منزله بالحاج يوسف بشرق النيل اختار أن يتحدث إلينا وهو يقف أمام البص الذي اشتراه من حُر ماله، ويقول بحسرة إنهم لم يتوقعوا أن تتبخر أحلامهم وتتبدد أموالهم بهذه السرعة التي يصفها بالغريبة، ويشير إلى أنه وبعد استلامه البص في العام 2014 عمد إلى أن يقوده بنفسه حتى يتمكن من الحفاظ عليه وتحقيق عائدات جيدة، ويوضح أن العمل كان يمضي بصورة جيدة ولكن فجأة وبعد مرور شهرين فقط من عمل المركبة الجديدة توقفت وظهر فيها عطل، فلم يجد غير أن يعيد البص إلى الشركة. ويضيف باسى وحزن: توقعت بعد تسليمي البص للشركة بغرض الصيانه بحكم أنها الجهة التي ملكتنا له ألا تستغرق عملية إعادة تأهيله أكثر من أسبوع، ولكن ظللت منتظراً ثمانية أشهر كاملة حتى استلمته، وفي هذه الفترة عانيت كثيراً، ولكن في كل مرة كنت أتعاطى كأس الصبر مرغماً، وإلى هنا لم تنته معاناة آدم مع هذا البص فبعد أربعين يوماً تعطل مرة أخرى وتوقف عن العمل فلم يجد هذه المرة وحتى لا يتوقف ثمانية أشهر أخرى غير أن يتحمل تكلفة صيانته وإجراء عمرة كاملة عليه، لم يحدث هذا الأمر كما يشير مرة واحدة بل ثلاث مرات، ويقول بعد ذلك تعرض البص أيضاً لعطل فلم يجد أمامه غير سحبه ووضعه أمام منزله بعد أن أصابه اليأس و”قنع من خيراً فيهو”.

التزام قاس

ويمضى المواطن آدم هارون في حديث الحسرة ويشير إلى أنه دفع القسط الأول للبص البالغ خمسين ألف جنيه ثم أقساط شهرين وتبلغ اثنتي عشر ألف جنيه، موضحاً أن القيمة الكلية للبص تبلغ 500 ألف جنيه وقد عجز تماماً عن اكمالها بداعي توقف البص عن العمل لأعطاله الكثيرة، ويلفت إلى أنه ومعه مائة من المواطنين الذين امتلكوا هذه البصات كونوا لجنة لكونهم تضرروا جميعاً من الأعطال المتكررة للبصات، وقال إنهم طالبوا بتعويضهم مادياً أو تمليكهم بصات أخرى، وذلك ليس لكثرة أعطال البصات وحسب بل لعدم توفر قطع غيارها في الأسواق، مؤكداً أن كل من اقتنى بصاً شعر بالندم والحسرة.

اختفاء مفاجئ

ويلفت عدد من ملاك هذه البصات إلى اختفائها المفاجئ من خطوط المواصلات بالعاصمة عقب تمليكها لهم بفترة قصيرة من هيئة تنمية الصناعات الصغيرة بولاية الخرطوم، وبعد أن استمعت (الصيحة) إلى المواطن آدم هارون توجهت ناحية منطقة أبوحمامة وبالقرب من نادي النيل الرياضي توجد ورشة، وجدنا أحد هذه البصات التي تسع لعدد أربعة وعشرين راكباً متوقف أمامها، وسألنا من وجودوا بمحل إصلاح السيارات عن صاحب المركبة، فأشاروا إلى أنها ظلت متوقفة في هذه الورشة منذ شهور ولم يحضر بعدها مالكها، إلا أنهم كشفوا عن مشاكل جمة في هذه النوعية من البصات، وكشفوا عن أن سيدة اشترت أحد هذه البصات وحينما تعطل وعجزت عن إصلاحه ظلت تتردد على الجهة التي ملكتها له، وكانت تردد على مسامع المسؤولين فيها: “ما عافية ليكم حقي”.. إلى أن توفيت هذه المرأة بسبب ارتفاع في ضغط الدم بداعي حزنها المتكرر وغضبها من تعرضها للخداع بحسب ما هو ظاهر، ويقول صاحب ورشة إن هذه النوعية من البصات تتوقف بأعداد كبيرة أمام عدد من الورش بالعاصمة.

عطالة وديون

توجهنا بعد ذلك صوب منطقة عد بابكر فوجدنا بصاً سعة 28 راكباً متوقف أمام أحد المنازل بعد أن تم إرشادنا إليه، يقول صاحبه أحمد محمد أحمد إنه استدان مبلغ القسط الأول البالغ خمسين ألف جنيه حتى يتمكن من اقتناء البص، وفجأة تغيرت ملامح وجهه وكساها الحزن حينما قال: إن البص توقف بعد شهر واحد فقط من استلامه، وقال إنه وحتى يتمكن من إصلاح عطله لم يجد أمامه غير بيع أثاث منزله، ولكن كل محاولات إعادته إلى الخدمة باءت بالفشل فلم يجد أمامه غير إيقافه أمام منزله ويشعر بغصة في حلقه كل يوم حينما يراه وهو يقف جثة هامدة، ويلفت إلى أنه تحول فجأة إلى عاطل عن العمل ومطارد بسبب الديون، ويوضح أنه كلما تزداد عليه الحياة ضيقاً يحاول إعادة البص للعمل عبر صيانته إلا أنه يتفاجأ بعدم وجود قطع غيار له في السوق.

سجن ومعاناة

أما المواطن أنور سليمان فيلفت إلى أنه ظل يحضر يومياً إلى الورشة التي يقبع فيها بصه بسبب عطله وهو يأمل في أن يتمكن الفنيون من إصلاحه حتى يعود إلى الخدمة بعد أن ظل يواجه ظروفاً حياتية بالغة التعقيد، مبيناً أنه تعرض للسجن لـ21 يوماً بسبب عجزه عن السداد إلى أن تم الإفراج عنه بالبراءة، وقال إن 95% من أصحاب البصات باتوا في حيرة من أمرهم ولا يعرفون ماذا يفعلون بعد أن توقفت البصات التي خسروا فيها مدخراتهم، مبيناً أن عدد المتضررين يصل إلى ثلاثمائة مواطن، ويرى أن الجهة التي ملكتهم البصات لم تحسن اختيارها، ولم تخضع في بلد تصنيعها للاختيار الفني حتى تتعرف على عيوبها وجاءت بها إلى السودان وملكتها للمواطنين الذين دفعوا كما يؤكد الثمن باهظاً، وقال إن إحدى الورش تحولت إلى مقبرة لهذه البصات.

آثار اجتماعية

من ناحيته فإن المواطن (م. ن) يؤكد أن الآثار كانت كارثية على من امتلكوا هذه البصات خاصة على الصعيد الاجتماعي وتعرضت الكثير من الأسر للانفصال والتشرد والضيق في العيش، وتحول أفرادها إلى فقراء بسبب فقدانهم مصدر الدخل، مبيناً إصابة أكثر من عشرة مواطنين امتلكوا هذه البصات بأمراض مزمنة مثل أمراض القلب والسكري وضغط الدم وأن بعضهم توفي حسرة، كاشفاً عن وفاة سائق أحد هذه البصات في المركبة بعد أن حدث عطب في الباب وتسبب في خنق رقبته فتوفي.. فيما يشير المواطن محمد الحاج إلى أن بص الفاو الذي امتلكه بات معلماً بارزاً في حي الثورة بعد أن ظل متوقف عن العمل منذ فترة طويلة، وقال إن أحد أصدقائه لم يجد أمامه غير منزله بسبب البصات التي يصفها “بالماسورة “.

مقبرة

المتضررون كونوا لجنة يتولى المستشار القانوني عبدالإله صديق مهمة الناطق الرسمي باسمها ويشير في حديث لـ(الصيحة) وهو يقف أمام أحد البصات مثار تحقيقنا بمنطقة صابرين بأمدرمان إلى أنه مثل غيره امتلك هذا البص على أمل تحسين دخله، غير أنه أرهقه كثيراً بأعطاله المتكررة، وفي النهاية لم يجد غير إيقافه ووضعه في مقبرة البصات، كاشفاً أن البصات وبحسب إحدى الجهات التي كان من المفترض أن تستوردها أولاً أنها تحوي 26 عيباً، وبها 16 ملاحظة، ويقول إن هذه الجهة رفضت استلامها من الشركة المصنعة في الصين وطالبت بمعالجة العيوب إلا أنها تفاجأت بها تجوب طرقات الخرطوم بعد أن أحضرتها هيئة تنمية الصناعات وملكتها للمواطنين بسعر بلغ 542 ألف جنيه، في الوقت الذي أكدت فيه الجهة الأولى التي كان من المفترض أن تسوردها أن سعرها 280 ألف جنيه فقط، مؤكداً أن 85% من البصات باتت خارج نطاق الخدمة، فيما تتعرض 65% من البصات العاملة لأعطال يوميه، وقال إنهم اكتشفوا عدم وجود شهادات ومستندات للبصات، وهذا جعلهم يدفعون تسوية يومية مائة جنيه لشرطة المرور، مبيناً مخاطبتهم الشركة وشرطة المرور ولكن دون جدوى، وقال إن عدداً من ملاك هذه البصات يقبعون حالياً وراء أسوار السجون بسبب الديون، فيما نزعت الهيئة من آخرين البصات بدعوى عجزهم عن السداد، وملكت بعضاً منها لآخرين وأوقفت بصات أخرى دون أن تعمل على تعويض أصحابها، مبيناً عن تقديمهم شكاوى للمجلس التشريعي وهيئة المواصفات والمقاييس، وأنهم ظلوا منذ عامين يطاردون هذه الجهات من أجل حسم قضيتهم، مبيناً أن البصات تتبع لشركة “حريص” وأنهم تلقوا عدداً من الاتصالات من شركة يوتنج الصينية التي صنعتها لمعرفة عيوب البصات، مؤكداً أنهم اكتشفوا عدداً كبيراً من العيوب في هذه البصات وأحاطوا بها كل الجهات علماً بما فيها الشركة الصينية، ولكن دون جدوى، وقال إن قطع غيارها غير متوفرة خاصة المتعلقة بالسيور والبلالي وغيرها، مبيناً أنه تم سحب عدد من العربات المتعطلة من الشوارع خوفاً من تهديد أصحابها لهيئة تنمية الصناعات الصغيرة بتصعيد قضيتهم.. ويقول المحامي عبدالإله إن المتضررين في حيرة من أمرهم ولا يعرفون على وجه الدقة من ينصفهم ويعيد إليهم أموالهم أو من يملكهم بصات، معتبراً ما حدث إهدارا للمال العام. وتساءل عن موقف المجلس التشريعي بولاية الخرطوم الذي اتهمه بعدم الاهتمام بهذه القضية.

محاولات فاشلة

حاولنا مقابلة مدير هيئة تنمية الصناعات الصغيرة عباس معني إلا أننا فشلنا.. وإلى أن تعقب الهيئة على إفادات المتضررين تظل في قفص الاتهام وبجانبها تشريعي الخرطوم وهيئة المواصفات والمقاييس.

الخرطوم: مياه النيل مبارك
صحيفة الصيحة