المثقف السياسي والفنان الكبير محمد ميرغني لـ”اليوم التالي”: “حوار وطني” لا يسمن ولا يغني من جوع ما فائدته؟!
من أصعب المهام أن تحاور شخصاً موسوعة محاولاً مباراته، هذا بالضبط ما حدث لي عندما أجريت هذه المقابلة مع عملاق من عمالقة الفن السوداني، وقتئذٍ تفاجأت بعمقه الفكري والسياسي والاجتماعي والأدبي، رغم ممارستي للمهنة وحبي لها وظني بامتلاكي الجيد لأدواتها، أنصت بكل جوارحي لحديثه وكأني جاهلة لفن الحوار، سرده كان ثرياً بقدر ثراء فكره، وكونه حواراً مختلفاً وشاملاً، كنا حريصين على صياغة كل ما يتعلق بسيرته ومسيرته، بجانب التوقف معه أمام أسماء وأحداث تركت بصمتها على صفحات تاريخه الناصع، فتعالوا ننعم بما اختزنته ذاكرة عراب (الفن والسياسة) ونطلع عليها من خلال عدة منافذ..
*اروِ لنا سطوراً من السيرة الذاتية؟
– أرى نفسي محظوظاً كوني ولدت في حي حاج السيد مكي بأم درمان، بؤرة شعاع السودان، سياسةً وفناً ورياضةً وأدباً.. أنا وحيد أبي بعد خمس بنات.. كنت أكلف أبي يومياً بإحضار (إبر) من البازار وعلب صفيح صغيرة، مستعيناً بها في تشغيل الأسطوانات، بالتالي سمعت الحقيبة كثيراً وحفظتها وعمري لا يتعدى ثمانية أعوام.. وأنا صغير أسمع (إنّا نحيوك يا سلمى)، فحينا كان فيه جارنا الطروب في جلسات الأُنس، الشاعر والأديب قارئ الشعر في الإذاعة السودانية، عمنا الشيخ أحمد عمر الشيخ.. ونحن صغار كنا ندخل السينما ونسمع الأغاني المصرية ونحفظها.. درسنا الوسطى في الأحفاد وتعلمنا فيها الأدب والسياسة، وبابكر بدري كان يحث فينا على القراءة والاطلاع، جلّ العوامل جعلتنا نقرأ ونشاهد ونسمع.
في ذاك الزمان كانت توجد حرية سياسية حقيقية، إذ تقام ليلة سياسية يومية بجوار مسكن الأزهري، وفي الأثناء يجلس الزعيم على المظلة ويتحدث، ويعقبه شريف حسين ومبارك زروق وشيخ علي عبدالرحمن وغيرهم.
* تنقلت من خلال سرد سيرتك ما بين الفن، والسياسة، والرياضة، والمجتمع، فأيهم أقرب إليك؟
– في ظل هذا الحراك لا يوجد تلفزيون آنذاك، بل كنا نستمع لـ(صوت القاهرة ومونت كارلو وصوت العرب)، وكانت الإذاعة أداة تثقيفية عبر برامجها الثرة، مثل سؤال وجواب والسياسة ما بين السائل والمجيب، بجانب التحليل السياسي، وكنا لا نقرأ لتيار سياسي واحد، إنما نطلع على كل الصحف كـ(الميدان والأشقاء والتلغراف والصراحة)، حتى صدرت (الأيام والصحافة وحزب الأمة)، وهي صحف تتبع للأحزاب السياسية، بالإضافة لقراءة الكتب بشتى أنواعها، علاوة على إقامة الليالي السياسية والجمعيات الأدبية، جل هذه الوسائل شكلت بداخلنا دنيا عوالم من الإبداع، (فن وكورة وسياسة)، بالتالي نحن نفتخر كوننا تلاميذ لمعلمين وضعهم السياسي مرموق، مثل مكي فوزي وهلال زاهر السادات وميرغني الطيب شكاك ويوسف بدري وصالح عبدالخفيظ هاشم وعبدالله مجتبى عمارة وشيخ النوارني، معظمهم خريجو دار العلوم وجامعة بيروت، لذلك صرنا جزءاً منهم ونحن بمعيتهم من الساعة السابعة صباحاً وحتى العاشرة مساءً، كانوا يدرسوننا التاريخ والسياسة وعلم النفس والأدب والفنون، ويحببون إلينا علوم السياسة ويحاضروننا في شأن الاستعمار والقانون والقومية العربية ومانديلا وعدم الانحياز، لذلك كنت قريباً للساحة السياسة بوجود الأزهري وعبد الخالق محجوب والشريف والمهدي، هؤلاء هم الساسة الذين دُفنت معهم معاني السياسة، وأيضا كنت قريباً للفن بسماعي لكرومة ومحمد وردي وخليل فرح، وقريباً للوسط الرياضي بمشاهدتي لبرعي أحمد البشير وصديق ودولي وغيرهم، وقريباً للمجتمع بنشأتي وسط بقعة المهدي التي احتضنت جميع ألوان الطيف المجتمعي، وقريباً للأدب بمعاصرتي الأدباء والشعراء الذين لا يتكررون.
* ما قولك لمن ينسب إليك أنك ما زلت تعيش تحت مظلة العهود السابقة؟
– حقيقة أنا عايش على الزمن القديم، وما زلت أداوم على بداية يومي بقراءة الصحف وبعض كتبي القديمة، وتجديني أبحث عن كتابة محجوب محمد صالح وفضل الله محمد وصديق محيسي، ولابد أن نقر بأن الزمن القديم كان زاخراً بفكره وسياسته وفنه وأدبه ورياضته، لذلك أرى الفرق كبيرا ما بين الأمس واليوم، ورغماً عما يحدث الحمدلله نحن حالياً (نُضاف).. وأقول قولي هذا وأنا فصيح الوجه واليد واللسان، وأعيش معلماً كما رأيت بابكر بدري وصادق عبدالله والسادات ومحمد حمزة وطاهر شبيكة وغيرهم، جميعهم يتصفون بالعفة والفهم والأصالة والسلالية، كذلك نحن على دربهم سائرون، ولم تعجبنا هذه القشور التي نراها هنا وهناك، ولن نتلوث أبداً ريثما يأخذ صاحب الوداعة وداعته.
* في رأيك ما هي أسباب هذا التراجع، وهل يعود ما مضى؟
– الحياة السابقة لن تعود إطلاقا، أقولها وعمري (70) عاما، ما عهدناه في زمن الاستعمار وحياتنا البسيطة الغنية الثرة بالعلم والمعارف، لن تتكرر أبداً، الصحة والتعليم والثقافة بجانب حرية الإنسان، جميعها كانت بعافيتها، البلد ملك لجميع الناس دون أفضليات، عندما كان الجنيه يعادل ثلاثة دولارات وقرشاً ويتساوى مع الاسترليني، سبل الحياة كانت ميسرة للجميع، وحالياً الدخول للمستشفيات بالقروش، وعلق ساخراً: (ولو يفتحوا ليك حلقك بقروش، ولو رقدوك الله قال بقولك، والعجب كان جاك قلب ولا مرض مستعصي).
* تقييمك لما يدور في الساحة السياسية الآن؟
– أنا المدرس المسكين (الخوجة دا)، أقول هذا بلد في طور التكوين، منذ مجيء المهدي وجمع شتات السودانيين، ومن ثم جاء الإنجليز وفعلوا ما فعلوه في البلد، منذ ذلك الحين ومازلنا في طور التكوين، وقبل يومين سمعت بأن الرئيس يقول الولايات المتحدة تسعى لتقسيم السودان لخمس دول، هل تعرفون لماذا تسعى أمريكا لهذا؟ لأننا لا نتفق فيما بيننا مطلقا، لذلك يجب علينا أن نجلس حول المستديرة لمعالجة الأمر، وليس كما فعلنا في الحوار الوطني، الذي لم نلتمس له أثراً في الواقع، وفي ظني إذا لم يحسه المواطن البسيط في معترك حياته، فهذا حوار لا يسمن ولا يغني من جوع.
* وما أسباب ذلك التلكؤ في تنفيذ مخرجات الحوار؟
– أين الأحزاب السياسية الآن، التي تدير حواراً وطنياً ناجحاً؟ كثرة عدد دون جدوى، وأين الحزب السياسي الذي يصدر (منفستو) ويؤمن بالعدالة والحريات والاقتصاد وطبيعة العلاقات الخارجية؟ إذا لم يكن للحزب أجندة ولا يمتلك صحيفة تعنيه وداراً يقيم فيها لياليه السياسية في شتى الولايات، كيف يكون حزباً؟.
الآن إذا اتفقنا (أنا وأنت) وحملنا حقيبة سنؤسس حزباً ومن ثم نختلف، بالتالي ينقسم الحزب لجناحين وهكذا، أين هم الساسة الذين يقودون الأحزاب مثل عبدالخالق ونقد ومبارك والشريف وأمثالهم، الآن جميعنا في موضع المتفرج، والكل يلهث وراء السلطة، وإلا لماذا الانقسامات؟، اجتمعوا على بينة وحق من أجل الوطن والنضال كما فعل الأزهري والشريف الذي أتوا به في صندوق، من منكم الآن شُنق كعبدالخالق محجوب، ومن الذي قدم نفسه في دروة كفاروق عبدالله؟.. اجتمعوا بفكر متقدم ودعوا جناح فلان وجناح علان، السيد عبدالرحمن كان يقول “السودان للسودانيين والدين لله والوطن للجميع”، هكذا الوسطية “لكم دينكم ولي دين”، وحتى في التاريخ الحديث مانديلا قضى حياته داخل السجن وأضحى رجل أفريقيا الأول، كونه جمع الإنجليز والهنود والعرب والأفارقة من مواليد جنوب أفريقيا وأسسوا الدولة الديمقراطية الوطنية بقانون موحد، أما نحن فما زلنا لا نعترف بوجود الآخر، لذلك توجد انشقاقات، فالغرب ملتهب وكذلك الجنوب نتيجة عدم الاتفاق، وفي تقديري كل الأحزاب المشاركة في الحوار الوطني لم ولن تستطيع فعل شيء، لذلك جافت المخرجات أرض الواقع، وإذا أرادوا للبلاد أن تعيد سيرتها الأولى، أولاً عليهم دمج كل الأحزاب في ثلاثة فقط (الحزب الحاكم والمعارض وحزب اليمين أو اليسار)، أمريكا بطولها وعرضها يوجد بها حزبان.
* بمَ تنصح ولديك تجارب سياسية وخبرة في هذا المجال؟
– الأمر يحتاج قوة ووقفة بجانب المحاسبة، ولابد لأي شخص محاسبة ذاته، وفي الصدد لديَّ عمل فني أبدأه بقولي:
مدوا الأيادي ولونوا الليل الطويل..
وفي ختامه أقول:
لموا الصفوف واحموا الجروف ومدوا السواعد والأيادي..
تسلم بلادي..
ونقول لمن يريدون الحكم؛ يجب أن تتحدوا بروح واحدة مجردة من المطامع الشخصية، وتناضلوا من أجل مصلحة الوطن، بذلك يكون الحل، لكن في حالة أن تأتي فئة وتريد أن تحكمنا بالكتاب وهم أكثر جهلاً به وبالشريعة الإسلامية ولا يطبقونها، من الطبيعي أن يصرعهم الكتاب ويفشلوا، طالما أيديهم ملوثة ودواخلهم قذرة وألسنتهم كذلك، لأن جوارح التكليف عند الإنسان هي (القلب والفؤاد واللسان)، فإذا كان جوفك لا يحمل قلبا سليما ولا فؤادا يخشى ربه، فلا تستطيع أن تحكم الناس بالعدل.
* بالرغم من عمق فكرك الإبداعي والأدبي، إلا أن حديثك لا يخلو من الحس السياسي في كثير من الأحيان؟
– نحن بقينا سياسيين في آخر عمرنا، رغم أننا درسنا في مدارس اليمين واليسار والديمقراطية والإسلامية، لم ألج عالم السياسة بهدف أو بآخر، وأقول أنا مسلم، و”المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، وما أتيت إلا لأكمل مكارم الأخلاق، وفي تقديري أي شخص يفتقد لمكارم الأخلاق لا يحسب في قائمة المسلمين، إن كان سياسياً أو غيره، ويجب أن يكون المسلم يده بعيدة وقلبه نظيفاً وحافظاً لسانه، ونحن إيماننا راسخ والحمدلله، وبالمقابل ديمقراطيون من الدرجة الأولى وتقدميون واشتراكيون من الدرجة الأولى وواقرة في قلوبنا ولن نحود عنها.
* هل ما زال التعليم على ما يرام؟
– أبداً، قضيت في حقل التعليم أربعين عاماً، وما حدث له من تراجع في الأثناء بانت نتائجه على الواقع، سابقاً توجد جامعة الخرطوم، وبعد الستينيات افتتح فرع القاهرة، ومن ثم الجزيرة والأحفاد، وكان التعليم على ما يرام، أما الآن فرغم توفر الجامعات وكثرة الخريجين.. التعليم يلفظ في أنفاسه الأخيرة، والمناهج كلها (حشو)، لذلك يجب على كل من يحكم أن لا يمس الثوابت مثل حقوق الإنسان وفكره، والتعليم والصحة، ووجود الإنسان وإنسانيته، نحن لا نريد كل من يأتي يحكمنا بالبندقية ويملي علينا بمارشاته وعنترياته، ويغيّر كل شيء دون دراسات علمية، الآن يخرجون كوادر تفتقر لأصل العلوم في شتى المجالات، نتيجة فقر المناهج، بجانب عدم تأهيل المدرسين أحيانا، زمان كنا ندرِّس الجغرافيا السودانية والطالب يعرف كسب العيش في السودان، حالياً الطالب يجهل ما يحدث في بلده. ومقارنة بزماننا نقول الفجوة أصبحت كبيرة في التعليم والصحة والسياسة والرياضة وحتى في الفن.
* متى قال محمد ميرغني “انتحبت بكاءً على حال استعصى على الحل وصار من المحال”؟
– أنا أسكن في بحري جوار المصانع، وعندما أمر بمصنع النسيج السوداني حينها أبكي، حالما أتذكر ما كان عليه، وأتذكر حراك المصنع وحيويته من خلال حركة العمال الذين يبلغ عدد الوردية الواحدة ألف عامل، وهنالك ثلاث ورديات في اليوم، تخيلي معي تشريد هذا الكم من العمال جراء توقيف المصنع، بجانب إغلاق المطاعم التي كانت تعمل حوله، الآن أصبح هيكلاً من المباني، حتى مصانع الزيوت التي كانت تنتج أجود أنواع الزيوت من الفول والسمسم أغلقت، والآن توجد مصانع تعمل في الزيت المغشوش وكل فينة وأخرى نسمع بضبط مصانع عشوائية، في ظل كل هذه المآسي أصير أبكماً ويتعذر الكلام على لساني أحياناً، وأقول لكِ معلومة عندما أُصبت بالشلل لم أورثه عن أبي أو جدي، بل نتيجة (زعلي) على مآل إليه حال البلد، أنا خُلقت مدرساً، لذلك أخاصم الكذب والرياء والمهادنة، أسير على هدى ما قاله الله ورسوله، ويجب عليَّ احترام بلادي وتاريخها وإرثها وقائدها، وأيضاً أبكي على البلد الذي يحتاج لإعادة صياغة، وأقولها بملء فمي.. لو عايزين ترتاحوا وتقسموها قسموها، لكن بفهم مثل إريتريا وغيرها، أما إذا فضلنا دوماً نشكو بأن هنالك أيادي خارجية سعت وما زالت تسعى لتقسيم البلد، وبالفعل انفصل الجنوب، فذات الأيادي حبستنا عشرين عاما وأذلتنا وأهانت كرامتنا، ونحن بكل بساطة نخضع لمطالبها دون تردد مع الاعتذار، هل يجدي ما نفعل فيه الآن بعد أن وزعنا ما وزعناه وهدمنا ما هدمناه وخربنا ما خربناه والبلاد ملتهبة من كل ناحية، شيء سلام وشيء جمع سلاح، والمشاريع انهارت والبنيات التحتية انتهت، ماذا بقي؟.
* هل لك من تعقيب في ما يخص موقف أبو عركي البخيت المقاطع لوسائل الإعلام الرسمية لأسباب قد تبدو سياسية؟
– أبوعركي مرهف وحساس أكثر مننا، ويجب على كل مبدع أن يقدم رسالة من خلال فنه، وعندما تغنيت بأغنية (أقيف وسط البلد وأقيف وأقول للناس وكل الناس)، وأيضاً (يا حارسنا يا فارسنا)، كنت أعلم تماماً ماذا أعني بما أقول، لذلك نكرر بأن الفنان صاحب رسالة ولابد أن يناضل من أجل توصيلها، وتحدثنا مع أبوعركي في هذا الشأن وهو متمسك بوجهة نظره، وقلت له.. اطرح رسالتك وادخل بها السجن، خير من اعتزالك الساحة، ولك مستمعون لهم حق عليك، وهنالك مبدعون وشعراء تغنوا بقضايا الوطن والمجتمع وطرحوا رسائلهم من خلال الفن، مثل إسماعيل حسن ومحمد المكي إبراهيم وغيرهم كثر.
اليوم التالي.