تحقيقات وتقارير

32 ترليون جنيه مخصصات منسوبيها سنوياً الخدمة المدنية.. تضخم في الصرف وضمور في الأداء

المراجع العام: عدد من المخالفات ماتزال ماثلة

تقرير خبراء: يوجد تضخم كبير في الهيكل

نصف مليون عامل بالولايات الثمانية عشر

اتحاد العمال: الأجور لا تكفي لسد الحاجة

وزير مالية سابق: مخصصات العمال تؤثر على التنمية

يسوق الحنين إلى ماضي الخدمة المدنية كثير من السودانيين الذين يؤكدون على أن بلادهم كانت تتمتع بأفضل جهاز خدمة في الشرق الأوسط، ويفاخرون دوما بهذه الصنيعة الإنجليزية التي تركها المستعمر حينما غادر البلاد في العام 1956م، ووصفها بأنها الأفضل في العالم من بين ثلاث دول فرض عليها الاستعمار ردحاً من الزمن، وذات الذين يذرفون الدمع على ماضي الخدمة المدنية فإنهم يؤكدون أنها باتت كسيحة عقب تسيسيها من قبل الحزب الحاكم وأنها تكلف البلاد الكثير من الموارد دون أن يكون لها عطاء على الأرض، غير أن آخرين يعتقدون بأن الخدمة المدنية ورغم ما اعتراها من ضعف إلا أنها ماتزال تحتفظ بشيء من بريق الماضي.

بعيداً عن الناقمين والمادحين، دعونا أولاً نتفحص كتاب تكلفة منسوبي الخدمة المدنية، فجملة اعتماداتهم السنوية المصدقة على المستوى الاتحادي للعام 2016 بلغت 22.4 مليار جنيه “22.4 ترليون بالقديم” بزيادة بلغت 3.7 مليار جنيه عن اعتمادات العام السابق 2015 بنسبة 20%، وقد بلغ الصرف الفعلي لتعويضات العاملين في العام الماضي مبلغ 22.013 مليار جنيه بنسبة 98% مقارنة مع الاعتماد المصدق بالميزانية، ومن الأرقام التي تكشف أن أجور ومخصصات العاملين تشكل ضغطاً على الموازنة العامة للدولة فإنها تشكل 33% من الانفاق الفعلي للحكومة في العام 2016م، وتبلغ نسبة 37% من الإيرادات الفعلية.

عشرة ترليونات بالولايات

على صعيد الولايات فإن أجور العاملين بالخدمة المدنية ومخصصاتهم بلغت المصدق بها في العام 2016 مبلغ 10.4 مليار جنيه، فيما بلغ الصرف الفعلي مبلغ 9 مليار جنيه بنسبة تنفيذ 87% وزيادة قدرها واحد مليار جنيه عن العام السابق 2015م بمعدل نمو 13%، وهذا يعني أن مخصصات وأجور العاملين اتحادياً وولائياً بلغت في العام الماضي اثنين وثلاثين مليار جنيه.

نصف مليون موظف

حاولنا معرفة عدد منسوبي الخدمة المدنية، مصدر أكد أنه وصل إلى 770 ألف عامل، فيما يشير آخر تقرير رسمي صدر قبل عام أن منسوبي الخدمة المدنية في الولايات الثماني عشر بعيداً عن المؤسسات الاتحادية بلغ 486238 عاملاً قبل المراجعة، وبعد إخضاع هذا الرقم للتدقيق من قبل لجنة طافت على الولايات انخفض الرقم إلى 5 45729579 وجاءت ولاية الخرطوم في المرتبة الأولى بـ79 ألف عامل، والجزيرة في المركز الثاني بـ67 ألفاً، و28 ألفاً بجنوب دارفور، و24 ألفاً بولايتي القضارف وكسلا على التوالي، و28 ألف عامل بشمال كردفان، و21 ألف عامل بالنيل الأزرق، وذات الرقم بالشمالية وسنار، و27 ألفاً بنهر النيل والنيل الأبيض، فيما بلغ العدد بشمال دارفور 28 ألف عامل وتسعة آلاف بغرب دارفور، وثمانية بشرق دارفور، وأشارت اللجنة إلى وجود تضخيم في الوظائف المشغولة، وأكدت على ضرورة تنقية الكشوفات من الشوائب مثل الأموات وتاركي الخدمة والمفصولين والغائبين دون إجازات.

مخالفات بالجملة

حسناً.. تلك كانت الأرقام المالية التي توضح أجور ومخصصات منسوبي الخدمة المدنية السنوية على مستوى المركز والولايات، ماذا عن أوجه القصور التي ظل كثيرون يتحدثون عنها ويعتبرونها سبباً مباشراً في التدهور، بعض منها أشار إليه المراجع العام في تقريره الأخير أبرزها عدم اكتمال ملفات العاملين بمصوغات التعيين الأصلية وأصل المستندات الثبوتية والشهادات العلمية والعملية، ويخالف ذلك نص المادة (154/ب) من لائحة الخدمة المدنية القومية لسنة 2007، ويلفت المراجع إلى أنه لا يتم إعداد الهياكل التنظيمية والوظيفية والوصف الوظيفي التزاماً بنص المادة (13) من قانون الخدمة.

أكثر من علامة استفهام

التقرير الرسمي للمراجع العام أوضح أن الخدمة المدنية ماتزال تشكو العديد من الأمراض، فقد أزاح الستار عن جملة من الملاحظات والمخالفات، حيث أكد عدم وجود تنسيق بين شؤون العاملين والحسابات فيما يختص بالابلاغ عن العاملين الذين تركوا الخدمة بالاستقالة أو المعاش أو الفصل ولأسباب أخرى. أوضح أن هذه المخالفات تبدو واضحة بولايات (كسلا، الخرطوم، سنار وغرب دارفور)، ومضى إلى ملاحظة أخرى تتمثل في عدم اكتمال ملفات بعض العاملين فيما يتعلق بالشهادات الدراسية والأوراق الثبوتية وأيضاً حدد عدداً من الولايات من ضمنها كسلا، الجزيرة، سنار، الخرطوم، النيل الأزرق، وسط دارفور ونهر النيل، ونوه أيضاً إلى عدم اكتمال الهيكل التنظيمي والوظيفي لبعض الوحدات بالجزيرة وكسلا وسنار. وعلى ذات صعيد المخالفات التي وقف عليها المراجع العام بالخدمة المدنية لفت في تقريره إلى أن انتداب بعض العاملين للعمل بوحدات دون اكتمال الاجراءات، بل إن بعضهم تجاوز فترة الانتداب ولم يتم التجديد لهم ولم يعودوا إلى وحداتهم الأم وحدث هذا بولايات النيل الأزرق، سنار وكسلا.

غياب موازنات

من المخالفات التي تعج بها ملفات الخدمة بحسب المراجع العام عدم إعداد موازنات الأجور الشهرية وهذا يخالف المادة 250،11 من لائحة الاجراءات المالية والمحاسبية وحدث هذا بولايات غرب دارفور، القضارف، نهر النيل ووسط دارفور، ومن المخالفات التي ظل يتحدث عنها كثيرون سراً وجهراً وكشفها التقرير الرسمي تقاضي بعض العاملين أجور لدرجات أعلى دون التقيد بالقوانين التي تنظم منح بدل الإنابة والبعض يتقاضون حوافز بصورة دورية مخالفة للائحة الحوافز والمكافأة، وضرب مثالاً لذلك بولايتي جنوب وغرب دارفور. ومن المخالفات أيضاً تجاوز الاعتمادات في بعض بنود تعويضات العاملين مما يشير لعدم واقعية الموازنات التقديرية. وهذا حدث بولايات جنوب وغرب دارفور بالإضافة إلى كسلا والقضارف. وأيضاً من الملاحظات التي أبداها المراجع العام أنه يتم ملء وظائف بموجب عقود وهي أصلاً من ضمن الوظائف الهيكلية وليست وظائف مهنية نادرة. ومن القضايا البارزة التي يشير إليها التقرير تفريغ العاملين، حيث كشف عن تفريغ 250 عامل للدراسة ورغم ذلك سداد مرتباتهم كاملة لنيل درجات علمية مختلفة، رغم أن هذه الدراسات تحصل عليها الدارسون بالتقديم المباشر ولم تكن بترشيح من إدارات التدريب. وتتجسد هذه المخالفة جلية بولاية غرب دارفور، وأيضاً من الملاحظات المهمة حول الخدمة المدنية حدوث مخالفة لقانون مخصصات شاغلي المناصب الدستورية بإصدار قرارات ولائية تمنح مخصصات خلاف التي حددها القانون، وخلص التقرير إلى العديد من التوصيات التي تهدف إلى تنفيذ إجراءات تصحيحة بما يتفق مع القوانين واللوائح المنظمة للخدمة المدنية القومية.

إخفاقات وتجاوزات

بعيداً عن المخالفات الإدارية التي أشار إليها المراجع العام فإن تقرير حكومي آخر أرجع التضخم في الفصل الأول إلى عدد من الأسباب، أشار من قاموا بإعداده بعد جولة بكل الولايات وهم خبراء في الحكم اللامركزي والمالية ومفوضية تخصيص الإيرادات وديوان المراجعة واتحاد نقابات عمال السودان وديوان شؤون الخدمة وجهاز الأمن الوطني، إلى أن أبرزها عدم الاهتمام بتجديد سجلات الوظائف السنوية للولايات مع عدم وجود قاعدة بيانات للحصول على المعلومة بصورة دقيقة باستثناء ولايات الشرق، ولفت التقرير إلى حاجة المراجعة الداخلية وديوان شؤون الخدمة والحسابات إلى مراقبة المركز، وأكد التقرير أن الخدمة المدنية بها قصور يحتاح لمعالجات جذرية، وأوضح غياب التنسيق بين وزارة المالية وديوان شؤون الخدمة بالولايات وأن هذا أسفر عن غياب بعض المعلومات المهمة والخاصة بسجل الخدمة من (الوفيات، الفصل، الاستقالات، الغياب، الإجازات وغيرها، عند إعداد المرتبات)، كما لاحظت اللجنة عدم اهتمام الولايات بقفل حساباتها الشهرية “أول بأول”، عطفاً على عدم مطابقة معلومات الخريجين بين المركز والولايات، بالإضافة إلى وجود عدد كبير من العمالة المؤقتة.

استحقاق ومعاناة

ومثلما يرى خبراء ومسؤولون أن الأجور باتت غولاً يلتهم الموارد، فإن آخرين يشددون على أهمية رفع أجور العاملين بالخدمة المدنية، وذلك لأنهم شريحة من المجتمع تعاني أيضاً من ارتفاع الأسعار، وهذا ما إشار إليه من قبل رئيس اتحاد العمال بالسودان، يوسف علي عبد الكريم، في حديث سابق لـ(الصيحة) أن الأجر غير مساوٍ لتكلفة المعيشة، ولا يوجد تناسب منطقي بينهما والبون شاسع، مع الأخذ في الاعتبار أن الحد الأدنى للأجور ما بين 425 و600 جنيه، وهذا الأجر المتواضع لا يفي بحاجة من يقتات عليه، والذي لا يكفي لسد حاجة العاملين أو من تكاليف حياتهم اليومية، وحتى عدم قدرة الدولة على سداد المرتبات تعد واحدة من العقبات التي تواجه العامل السوداني. وأخيراً فقد أعلن عقب قرار الزيادات أن الحد الأدنى للعامل تصل فيه الزيادة إلى (400) جنيه، وفيما تصل في حدها الأقصى إلى ألف و(200) جنيه، وقال: إن ذلك يهدف إلى إزالة المفارقات في الرواتب لشريحة تمثل (90%) من العاملين، واعتبرها خطوة لإزالة الغبن وبسبب المفارقات ومحاولة لتطبيق الأجر المتساوي بتعميم البدلات والعلاوات على جميع العاملين بالدولة دون استثناء.

أجور وغول

ويشير وزير المالية السابق بولاية القضارف والخبير الاقتصادي معتصم هارون إلى أنه في تقديره أن هناك ولايات يمثل الفصل الأول أكثر من 70% من مواردها وهذا بكل تأكيد يلقي بظلاله السالبة على التنمية التي توقفت في كثير من الولايات أو تكاد تكون دون المستوى المطلوب بسبب توجيه الموارد نحو الأجور الشهرية للعاملين بالدولة، كما أن هناك سؤال آخر، هل تحتاج مؤسسات حكومات الولايات لهذا العدد الضخم من العاملين؟ وهل يؤدون أعمالاً توازي ما ينالونه من أموال، يجب الاعتراف بوجود ترهل وتضخم، ولكن إذا تمت أي معالجات قضت بخفض أعداد العمالة بالولايات يبرز السؤال المهم، أين يذهبون؟ وما هي المعالجات المطلوبة؟

تكلفة عالية

ويمضي الخبير الاقتصادي معتصم هارون في حديثه لـ(الصيحة) ويقول: هنا أشير إلى أن الموظف لا يكلف الدولة بمخصصاته الشهرية فقط فهناك منصرفات أخرى مثل العربة والوقود وقطع الغيار والعلاج، هذا بالإضافة إلى توفير بيئة عمل تستهلك كهرباء ومياهاً وأجهزة حاسوب وغيرها، لذا فإن القضية كبيرة، والمركز يعلم أنه جزء من أسبابها وحكومات الولايات رغم مشاركتها في القضية إلا أنها تشكو مر الشكوى من هاجس الفصل الأول الذي يأتي ناقصاً من المركز وتضيف عليه من مواردها الخاصة التي كانت توجهها نحو التنمية عقب توقف المركز عن تمويلها، ويؤكد أن توجيه 70% من الموارد نحو الفصل الأول لا يعني تأثر التنمية فقط بل يطال التأثير الخدمات، ويؤكد أن الترهل الموجود يحتاج إلى خطط وبرامج، وأضاف: على الدولة التركيز على سد النقص في قطاعي التعليم والصحة، وذلك عبر الاستفادة من الموظفين الموجودين في جهاز الخدمة المدنية بالتدريب والتأهيل للاستفادة من جهودهم في قطاعي الصحة والتعليم. ويعود الخبير معتصم هارون ويشدد على أن قضية تضخم هيكل الخدمة قضية حقيقية تحتاج لحلول جذرية.

الآراء تتباين

إذاً فإن الحقيقة التي أثبتتها التقارير الرسمية أن أجور ومخصصات العاملين السنوية تمثل 33% من الموازنة العامة للدولة، وأن الخدمة المدنية ماتزال تعاني الكثير من الأمراض التي أوضح بعضاً منها المراجع العام أخيراً تحت قبة البرلمان، وذات الحقيقة تؤكد أن الدولة أعلنت عن إصلاح هذا الجهاز الحيوي بعد أن أدركت تراجع أدائه بداعي تقلب سياسة النظام الحاكم، ليظل التحدي قائماً بأن تعود الخدمة المدنية مثلما كانت في الماضي، يضرب بها المثل في الانضباط والإنتاج، ويظل برنامج الإصلاح الذي أعلنته الدولة على المحك.

الخرطوم: صديق رمضان
صحيفة الصيحة