تناثرتُ فوق ترابها.. ذات يوم!!
«أ»
في عصر يوم كثير التأرجح ما بين الرجاء واليأس المميت، هبط علينا هذا الضيف، كأنه ترجَّل من سحابة عابرة، شديد بياض الثياب، سيما الصلاة على وجهه كقمر يتلألأ في ظلام الشتاء والسماء صافية إلا من جيش النجيمات وراء نوره البهي.. لا نعرف من أين أتى..
لكن وجدناه في عصر ذلك اليوم يتجول في طرقات حينا في مدينة نيالا يسأل عن بيت أقارب له، لم يكن يحمل شيئاً سوى عكازة معقوفة الرأس، وحقيبة سفر صغيرة لا تخالها تحمل شيئاً يؤبه له بداخلها.. وكان معه كتاب ضخم مغلف بعناية بورق مصفر قديم، تأبطه بحذر ورفق، تدلت من جيب الصغير أعلى جلبابه، ساعة أنيقة ذات سلسلة بنية اللون كتلك التي نشاهدها في أفلام رعاة البقر كل يوم سبت وثلاثاء على شاشة سينما نيالا.
مشى معنا بخطوات موزونة وصوت خُفه الذي يشبه المركوب الفاشري على التراب كمشي ناقة ممراحة لا تسمع لأخفافها شيئاً وهي تدب على الأرض.. كما غنت أم كلثوم لإبراهيم ناجي، كان واثق الخطوة يمشي ملكاً، تجاوز الستين من العمر بقليل، لا تشي ملامحه للوهلة الأولى عن جذور وتقاطيع محددة ينسب إليها، يداه معروقتان.. لكن باطن كفه ناعم الملمس لا يدل على أنه صاحب حرفة يدوية أو عمل شاق، وسمته لا يُشير إلى أنه موظف، وعباراته ومفرداته رمادية غامضة لا تُنبئُك بأنه موظف أو مُعلَّم أو تاجر أو نظامي.. عيناه باردتان.. لكن يبدو أن نظراته تتحول إلى ذلك الفحص العميق عندما يركزهما على مرأى أو شخص أو مشهد.
«ب»
تفحصناه ونحن نسير معه إلى طرف الحي حيث مسكن من يقصدهم، وكنا أربعة عندما صادفنا عند مفترق طرق ونحن صبية نتسكع في شوارع الحي في الإجازة الصيفية للمدارس، كان يطلب أناساً غرباء في الحي سكنوا قبل سنتين عند ركن قصي في الحي قرب مسيل ماء وخور عميق صغير، لكن خرير مائه وجريانه في الخريف كشخير حيوان خرافي تمطى راقداً في الحكايات والأحاجي الليلية لدى الحبوبات..
أشرنا إلى المنزل المطلوب وتركناه يطرق الباب، ولم نسمع عبارات ترحاب لهوفة ولا سلام طويل وتربيت على الأكتاف وأخذ بالأحضان كعادة السودانيين، وسرعان ما انقطع كل صوت.. وتأرجح اليوم في الأفق الغربي والشمس تحتضر في مغيبها.. واصطبغ الأفق بلون الشفق وتورَّد محمراً كخد غانية حيية!!
في مسجد الحي رأينا الضيف.. بذات هندامه متعجلاً إلى صلاة المغرب.. وكان عبد الله إدريس بعد الصلاة يجلس القرفصاء أمام دكانه الصغير قرب الجامع البسيط ذي البناء الطيني المعروش بالقصب، يملأ «رتينته» بالهواء ثم يشعل فتيلها فتضيء وينعكس الضوء المشع من الرتينة على جلباب الضيف فيزداد لمعاناً، فيبدو بطوله الفارع ومشيته الخفيفة ومركوبه اللامع.. صورة أقرب لملاك يطأ الثرى مترفقاً لا تلامس أقدامه التراب.
في صلاة العشاء، تغير قليلاً.. طوى الضيف حول عنقه شالاً يشبه الكوفية الفلسطينية أو الشماغ الخليجي.. ويبدو أنه من قماش خفيف رقيق.. يصلح في تلك الأيام الدافئة من شهور الصيف.. وعرف كل من في المسجد أنه ضيف حل بالحي.. وعما قليل سيغادر.. يوم أو يومان، لكن ملامح الغريب فيه جعلت التأويلات تتفاوت وتتبارى في تحديد أصله، ومضيفوه كانوا غرباء مثله.. لا شيء كثير حولهم.. صورتهم لدينا بعيدة عن اهتماماتنا كأنها تتدلى من أعمدة في الفضاء!!
«ت»
كان يمشي ونفس الجلباب الأبيض والمشية والعصاة المعقوفة، كأن شيئاً مثل العصافير الصغيرة في نفوسنا، تنقر في لؤلؤة السؤال، نسجت بسرعة خيالات صديقنا «بريمة» وكان طالباً في مدرسة نيالا الفنية الثانوية ولاعب كرة ماهر.. أقصوصة غريبة عن الضيف الغريب ذي الرداء الرسولي كما يقول.. فقد زعم صديقنا بريمة أن الرجل لم نشهد له ظلاً ونحن نرافقه لندله إلى منزل ذويه، فمن ليس له ظل هو نبي الله الخضر!!.. بعضنا كان يسخر من القول الملقي على قارعة تفكير صاحبنا بريمة!!.. وبعضنا قرر الانتباه للرجل هل له ظل يتبعه أم لا.. ومنى هذا البعض نفسه بنيل البركات إن كان هو الخضر بالفعل!!
لكن الضيف لم يعد يظهر إلا في ساعات الليل وعند المغيب وعند صلاة الفجر قبل الشروق، حتى رتينة عبد الله إدريس المتأرجحة كيوم قدومه أصبحت بقدرة قادر تضاء ما بين صلاتي المغرب والعشاء، وتوضع في الداخل ولا ينعكس نورها إلى غير مساحة محدودة أمام الدكان.. وتوسلنا ألف وسيلة لرؤية الرجل وظله.. وتسربت خيالات صديقنا بريمة لعدد من أهل الحي، على مظنة أن الرجل الباهر الحضور والغامض المنبت والمصدر.. الذي لا يرونه في ساعات النهار ولم يتأكد يوم قدومه أنه بظل أو بدونه، ربما هو سيدنا الخضر!!.
حاجة كلتوم التي تبيع الفول السوداني والتسالي ونبات الهالوك والتبش أمام بيتها، وتقضي سحابة نهارها في راكوبة صغيرة قصيرة الارتفاع، تضفر في السعف وتصنع الهبابات والبراتيل والأطباق الملونة، كانت تترصد المنزل القصي القابع عند طرف الخور، وتتصيد خروج الرجل الضيف لغرض ما، وبعض نسوة الحي ظللن يزرن البيت وأهله، يحملن إفطارهن وقهوتهن والشاي النهاري.. ليلتقطن الأخبار والمعلومات ويخرجن بخفي حنين فلا أثر للضيف..
جبريل موسى صاحب خرج الماء.. يدخل البيت صباحاً ومساءً ينقل الماء عبر صفائحه المعطوبة التي ترسم بنقاط الماء خطوطاً متقطعة على الأرض، لم يفد بأية معلومة عن وجود الضيف الغريب في الداخل.
وحتى داؤود مؤذن الجامع المتفرغ فقط لخدمة المسجد، سعى بطريقته لرؤية نهارية للرجل، وقال لأصحابه وبعض المصلين.. «هذا الرجل يأتي مع وقت الإقامة في صلاتي المغرب والعشاء والفجر.. وينصرف بسرعة».
وألقى بعض أطفال الحي كرة الشراب داخل المنزل ودخلوا يبحثون عنها.. لكن لم يروا أثراً للضيف داخل المنزل المنزوي عند ناصية الحي.
«ث»
وزاد ذلك من الغموض وأضفى نوعاً من الرهبة على وجود ضيفنا في الحي، وكنا نتعابث بأن خيال الصديق بريمة توهج مثل الشهاب في عقول أهل الحي وقدح فيها ما لم يتوقعونه، وبدأ حتى الصديق بريمة كأنه مخلوق من عالم آخر مزهواً باستشرافه ومعرفته لحقيقة الرجل قبل غيره، فغير شكل مشيته ولم يقلده فيها أحد!! وكان قد تعلم تدخين السجائر في تلك الأيام فأقلع عنها حتى لا يتصادم ذلك مع بركة الفكرة التي أشعلها كالنار في الهشيم وسط أهل الحي!!
ومثل ريش الطير.. كانت الحكايات تطير وتسبح في الفضاء المحدود، ثم صارت أجنحة لنسور فلاة، عندما تسامع بعض الناس من أحياء المدينة القريبة، بسر الضيف الذي حل فجأة.. وتوالدت حكايات لم تحدث قط.. أن الرجل جاء طاوياً الأرض من مكان يبعد آلاف الأميال عن مدينة نيالا، وأنه في قدومه لأول مرة لم يظهر فيه أثر سفر، وأنه لا يأكل الطعام ولا يشرب، وثيابه البيضاء التي لم يدنسها غبار أو تراب ولم تتسخ وليس له غيرها مصنوعة من قطن من أقطان الجنة فوق السماوات العلا.. وأنه بدعاء قصير مهموس يشفي من المرض ويستجلب الرزق.. ويعطي الأمل في الحياة.
لكن الرجل فجأة اختفى.. فلم يره الناس في صلاة المغرب ولا العشاء ولا الفجر.. وأهل البيت الغامض لم يقولوا شيئاً عنه، كانوا يقولون في بساطة طيلة الفترة الموجود فيها.. «الضيف قاعد أو نائم أو طلع في مشوار قريب وبرجع».. لكنهم لم يفصحوا أكثر عن غيابه لأنه أصلاً لم يخالط الناس كثيراً، فلم يتبرعوا بأية إجابات عن رجل لا يهم الناس من أمره شيءٌ.. وليس هناك من يملك سر الرجل ولا الإجابة الشافية!!
«ج»
غاب الرجل.. ولم يظهر بعدها.. وعظمت عند الناس الحيرة بأن نبي الله الخضر كان هنا ثم رحل ولم يستفد منه أحد..
ولأيام تداول أهل الحي القصة وزادوا فيها واختلطت الحقيقة بالخيال.. حتى تكشفت الحقيقة من «الغالي ع.. ط » وهو عسكري بالشرطة من حي مجاور.. قال: « قبل أيام أطلق من سجن نيالا.. رجل كان مسجوناً لخمس وعشرين سنة لإدانته بالمشاركة جريمة قتل بشعة في سكن جماعي لبعض العزابة في مدينة بعيدة، نقل فيها إلى سجن نيالا.. وأعدم شركاؤه وحكم عليه بخمس وعشرين سنة.. قضاها وحده.. في تبتل وعبادة وندم واستغفار وإخبات.. كان يعيش وحده في السجن يبكي في الليالي الطويلة.. حتي تغير وجهه وملامحه.. ثم خرج.. ولا يدري أحد أين هو الآن»!!
ثم ضحك الزمان ضحكته الصمغية الصفراء..
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة
الناس في شنو والارزقي في شنو ….. الله يجازي الكان السبب