تحقيقات وتقارير

الجثث تتحول إلى طوب “ألتي” و”المسيد” بالجزيرة تحت رحمة الكمائن والمعتوهين

مواطنون: الكمائن تتسبَّب في تفشِّي الأمراض

المدير التنفيذي: تم إصدار عدد من القرارات لترقية البيئة

المعتوهون يُثيرون الشكوك ومطالب بإبعادهم

المسيد: مياه النيل مبارك ـ بشرى الجوهري

قبل التعرُّف على واقع الخدمات والمشاكل التي يجأر منها مواطنو قريتي ألتي والمسيد بالشكوى، وبعد أن ترجلت عن المركبة التي أقلتني من وسط الخرطوم، كنت بصدد التوجه إلى ضفاف النيل الأزرق الغربي، حيث توجد الكمائن التي يعتبرها مواطنون من الأسباب المباشرة لتفشي الأمراض، بيد أن أكثر من مشهد استوقفني في المسيد وألتي، فمن الملاحظات الغريبة التي لم أجد لها تفسيراً وجود عدد مقدر من مصابي الأمراض النفسية، ففي سوق المسيد لم أعرف هل أضحك أم أبكي حينما اقترب مني معتوه رث الثياب في العقد الثالث من عمره، فتوجست منه خيفة، بيد انه اكتفى بالتهليل والتكبير ثم توارى سريعاً وتركني في حيرة من أمري.

لم يكن ذلك الشاب الوحيد في السوق، فقد قابلت أكثر من معتوه أثناء تجوالي بقريتي ألتي والمسيد، هذا الأمر جعلني أسأل عدداً من المواطنين عن السر الذي يكمن وراء هذا الأمر.

شكوك وظنون

لم نجد إجابات قاطعة، فالكل هنا يبدي أيضاً حيرته ولا يعرف من أين جاء هؤلاء المعتوهون، بعضهم إشار إلى أنه يتم إحضارهم على في سيارات خاصة، نظرية الجاسوسية بدأت مسيطرة على ذهنية عدد من المواطنين الذين أبدوا أيضاً حيرتهم من وجود عدد مقدر من المعتوهين في ألتي والمسيد، وشككوا في أنهم مصابون بأمراض نفسية، وبدا أكثر من مواطن تحدث لنا ميالاً لتصديق نظرية أنهم جواسيس يؤدون دوراً محدداً أم إنهم أشخاص لديهم أهداف وأجندة ربما تتصل بالجاسوسية، بدوتُ غير مقتنعة بهذه الأحاديث، ولكن هي التي توفرت لنا، الغموض الذي يحيط بهؤلاء المعتوهين دفع عدداً من المواطنين الذين التفوا حولنا يطالبون الدولة بالبحث عن هوية المعتوهين والمجهولين الذين يؤكدون على أنهم غرباء على المنطقة، وأوضح عدد من الأهالى بأن المعتوهين يمارسون أفعال غريبة جداً داخل المنطقة فمنهم من يحضر خصيصاً يومي الأحد والأربعاء ويلقي خطباً سياسية ويدعواالمواطنين إلى عدم الخروج على الحاكم، ويدعو من ينصت إليه ترشيح البشير لولاية جديدة، ويتحدث عن حقب الرؤساء السابقين، ويحرص عدد من أهالى المنطقة على تلك الخطب التي يتم إلقاؤها في ميدان عام. ويشيرالمواطن يحيى سيد إلى أن معتوهاً يعمل في تنظيف جداول المياه وإزالة أشجار المسكيت من المقابر وتنظيف بعض المرافق، ويلفت إلى أن معتوهاً آخر يحرص على حفر القبور أمام منازل المواطنين وينام داخلها، ويعظ الناس بتذكيرهم بيوم القيامة، مبيناً إبعاده عن المنطقة (3) مرات إلى تفتيش سوبا، إلا أنه يعود مجددًا.

بدون خطورة

عدد من مواطني المسيد أفادوا (الصيحة) بأن المعتوهين لا يشكلون خطورة على المواطنين، فيما شكك آخرون في حقيقتهم، مؤكدين أنهم يخفون حقيقتهم وراء ادعاء الجنون، ولفتوا إلى أن جميع المعتوهين وافدون (جواسيس) من دول مجاورة، بعد ذلك توجهنا صوب الميدان لانتظار الخطبة السياسية، ووجدت أن الجمع انفض، ولم أحظ بها وأخطرني عدد منهم أنه دعا المواطنين إلى لترشيح البشير.

بعد ذلك اتجهنا صوب معتوه آخر يحرص على تنظيف أشجار المسكيت من الجدول من المقابر وري بعض الأشجار في الطرقات وهو يتحدث بعبارات غير مفهومة، وبعد ابتعادنا عنه شاهدت معتوهاً يمشي مسرعاً، وسمعت عباراته واضحة لا تنم عن معتوه (مرحب بالضيوف)، وكان يخاطبنا بهذا الترحيب، ويبدو أن الأمر بات مألوفاً لأهل المنطقة، والأدهى أن المعتوهين يميزون الضيوف من أهالي المنطقة.

مراعي المستشفى

بعد أن وقفنا على قصص المعتوهين بألتي والمسيد التي أثارت حيرتنا، ولم نجد لها تفسيراً، قررنا تلمس قضايا القريتين الأخرى، وبالفعل توجهنا إلى مستشفى الشهيد الدكتور ماجد كامل التخصصي بـ(ألتي) الذي يفتقر لأبسط الخدمات، إذ تبلغ مساحته حوالي (10) آلاف متر، “وتسرح” داخله أعداد من المواشي بجانب المرضى وأخرى تنام في ظل المباني، بجانب هذا تنبعث روائح الأدخنة من الكمائن التي تقع على مرمى حجر من المستشفى، ويستنشقها المرضى والعاملون بالمشفى، وأغلب الحالات المريضة الموجودة تعاني من ضيق في التنفس، ووجدنا المستشفى وكأنه مهجور لأن عدداً من المكاتب والعنابر مغلقة.

معاناة وألم

يقول الصديق الأمين – مصاب بداء السكر – إنه ورغم امتلاكه بطاقتي التأمين الصحى والعلاج المجاني، إلا أنه يؤكد وجود تجاوزات في سعر الدواء داخل المستشفى حيث يباع بـ(85) جنيهاً بالتأمين وخارج المشفى بـ(45) جنيهاً فقط، مؤكداً أن الدواء لا يتم صرفه حسب الإرشادات الطبية.

واصلنا جولتنا داخل مستشفى (ألتي) المحتضر والكئيب، ووجدنا عدداً من المرضى والمرافقين ينامون على الأرض، فاخترنا التوجه إلى مكتب التحصين الذي لا يقل بؤساً في شكله العام عن المشفى، وطالبت إدارة التحصين وزارة الصحة بالولاية توفير عربة ترحيل لنقل اللقاحات التي يحملونها لفترات طويلة في حافظات تتعرض إلى درجات الحرارة العالية نسبة لرفض أصحاب المركبات اصطحابهم، وتتم مطالبتهم بدفع مبالغ إضافية، وتشير الإدارة إلى أن حافظة الأمصال أصبحت بالية، ولا تصلح للعمل، أما النساء اللائي تحدثن لـ(الصيحة) فقد جأرن بالشكوى من ارتفاع نسبة وفيات الأطفال حديثي الولادة نسبة لعدم وجود حضانة بالمستشفى.

نواقص الحضانات

يقول المدير الإدارى للمستشفى طارق عبد الله بأن مستشفى (الشهيد د. كامل ماجد) تأسس في العام (1973)م، وفي العام (1993)م تحول من مشفى ريفي إلى تخصصي، لافتاً إلى وجود اتفاق بين إدارة المشفى والتأمين الصحي لتوفير الأدوية، ولكن هنالك شكاوى كثيرة وردت إلينا من المرضى تفيد بحدوث تذبذب في الأسعار، وأشار إلى وجود ثلاث حضانات بها بعض النواقص مثل مكيف وأجهزة (إضاءة، تدفئة، وقياس أوكسجين، قياس السكر، تمرير سوائل، تنفس)، ويعترف أن المستشفى تعاني من انعدام عربات الإسعاف، موضحاً اعتمادهم على عربات المرور السريع في إنقاذ وترحيل الحالات الحرجة، مشيرًا إلى أن سعة العنابر ما بين (6 إلى 10) مرضى، أما سعة المستشفى الكلية فتبلغ (42)سريراً، ويعتمد أهالي المنطقة اعتمادًا كاملاً على المستشفى لعدم وجود مراكز صحية.

ولفت إلى أن عدم وجود العدد الكافي من العمال أدى إلى ذبول الأشجار داخل المستشفى.

دعم خارجي

ويضيف معتز أحمد البشير، الأمين المالي لمبادرة شباب (ألتي ) أن هنالك معينات قدمها الهلال الأحمر، وأجهزة عمليات كبيرة وقيمة وأشعة، موضحاً أنهم كمبادرين قاموا بتوزيع (150) بطانية وجهاز عيون و(أسرّة) بالإضافة إلى ناموسيات واستخراج بطاقات تأمين، وأمن على أن المرحلة القادمة تستهدف عمال الكمائن خاصة أنهم معرضون للإصابة بأمراض الالتهابات والإسهالات الناتجة عن التبرز في العراء، وقال إنه يوجد مقترح يقضي بوضع حمامات صناعية بالكمائن.

سوق مهجور

أما سوق (ألتي) فإنه يخلو من الباعة فجميعهم ذهبوا للبيع في سوق المسيد، وتشاهد بعض المحلات التجارية التي تشبه السكن العشوائي حيث هجرالجزارون ذلك المكان المخصص لبيع اللحوم، وضربت الفوضى أطنابها المكان وأصبحت الجزارة الوحيدة المتبقية طاردة لما فيها من مكبات نفايات، كما يقضي بعض الناس حاجتهم داخلها، ويستقبل عدداً من المتشردين والمخمورين والمعتوهين بعض الأماكن داخل السوق وكراً لهم ليلاً، بالتالي أصبح سوق (ألتي) أشبه بمنطقة ضربتها الفيضانات، كما أصاب الترابيز التي يفترش الباعة بضاعتهم عليها التردي وأصبحت غير صحية.

وأثناء تلك الجولة سمعنا صوتاً غريباً داخل أحد المحلات المهجورة الممتلئة بالخفافيش أصوات غريبة اقتربنا في حذر حيث كان مجموعة من المخمورين إضافة الى طفل رث الثياب لاذوا جمعيهم بالفرار عند حضورنا .

مقابر الكمائن

لم أكن أضع في الحسبان أن الكمائن هي نفسها تلك المقابر الأثرية التي تتم منها صناعة الطوب دون مرعاة لحرمات الموتى، فالفوضى تضرب أطنابها المكان الذي تنبعث منه رائحة الخمور التي تصنع داخل الكمائن، وتتوسط تلك المقابرعشش من الرواكيب المهترئة خصصت لصناعة الطعام الملوث الممزوج برائحة أدخنة الكمائن السامة، وذلك في وضح النهار، من المظاهر التي تثير التعجب أن المواطنين يسيرون في تلك المقابر وفوق القبور دون مراعاة لحرمتها، والبعض منهم يقضي حاجته هناك، وقد خصص جزء من مساحة المقابر لممارسة كرة القدم، وعندما اقتربنا من عمال الكمائن بغرض شراء طوب وجدناهم يعملون بصمت في تلك الأجواء الممزوجه بالأدخنة المتصاعدة من روث البهائم التي تم إحضارها بواسطة عربة لوري، وشاهدت عددا من جماجم الموتى منتشرة في مساحات شاسعة، أحد العاملين قال إن تجربة صناعة الطوب بالغاز تجربة فاشلة، واخطرنا بأن(1000) طوبة بسعر ألف جنيه، وفي الجهة الجنوبية من الكمائن ووسط تلال من النفايات تقع السلخانة التي لا تزال تسبح في بركة من المخالفات ذات الطاولات الصدئة التي تقشعر منها الأبدان، ويقول مواطن وجدناه يسعل بشدة بأن أبرز الأمراض بالمنطقة الحساسية في الصدر والعيون والربو وسرطان الثدي والتهاب الدم والإجهاض والعقم إضافة إلى التشوه .

أساطير المقابر

ويقول أحد أعيان المنطقة: يعود تاريخ المقبرة إلى ما قبل عهد العنج والفونج والإنجليز، وأبرز المدفونين فيها وزير الصناعة الأسبق المهندس (عبد الوهاب عثمان، والشيخ السيد علي الشريف، البدري، ومنسقة الدفاع الشعبي مسرة الشيخ إدريس، والضابط الإداري مصطفى العوض، والحاج مضوي عبد الرحيم وأبو رنات مهندس الطرق والجسور في عهد نميري، والحاج المؤمن عبد القادر رجل الإدارة الأهلية وحلال المشاكل)، وأشهر جزار بها المرحوم (الجوهري عيسى ـ والمفكر والكاتب محمد علي جادين رئيس حزب البعث ـ الشيخ إدريس محمد نور بركات)، وأشار إلى أنه تم العثور على فخار داخل قبر، وقال إن معظم القبور تتخذ شكلاً جغرافياً عكس الوضع الطبيعي لمقابر المسلمين ما يعني أنها كانت مقابر للمسيحيين، مبيناً أن عمرها يفوق المائة عام ، حيث كانت في السابق مقبرة خاصة بموتى قريتي اللعوتة والمسيد، مرجحاً ان تكون المقبرة قد تحولت إلى أثرية.

كمائن

مدير الوحدة الإدارية بالمسيد، السيد بشير مرسال ابتدر حديثه قائلاً إن هنالك شكاوى من أهالي المنطقة ضد عمال الكمائن لقربها من السكن وهو الهم الذي أصبح شاغلهم، وقال إن العمل في الكمائن نشاط قديم يعود إلى ماقبل (60) عاماً، مشيراً أن المشكلة تكمن في روث الماشية الذي يستخدم في صناعة الطوب وحرقه، حيث يتسبب في إصابة المواطنين بأمراض الحساسية، وقال: أوقفنا عدداً من كمائن النوبة والتكينة منذ أكثر من أربع سنوات، وتوجد معالجات تمت بإيقاف العمل في الكمائن المجاورة للمساكن، وذلك بعد عمل دراسة أثبتت تسببها في تفشي مرض الحساسية، وكشفت التقارير أن تردد المصابين بأمراض الجهاز التنفسي على مستشفى ألتي يبلغ (64) حالة إصابة، وقد رفع تقرير إلى المحلية بهذا الخصوص لدراسة البدائل للكمائن خاصة أنها أصبحت مصدر رزق لـ(2000) عامل مبيناً، موضحاً صدور توجيهات بعدم استخدام روث البهائم وأن من يخالف القرار يتم إيقاف نشاطه، نافيا وجود ما يعرف بالسكن العشوائي، وقال إن المواطنين الموجودين يقطنون في منازل مؤقتة، ويأتون من شرق الجزيرة في موسم الحصاد، ولفت إلى أن التواجد الأجنبي بالمنطقة لا يمثل مشكلة وأغلبهم من دولة جنوب السودان يعملون فى الكمائن، فيما يعمل الإثيوبيون في المطاعم، وقد صدرت توجيهات بحصرهم، كاشفاً أن المسلخ تم إدراج تحديثه في موازنة الولاية لهذا العام.

الصيحة.

تعليق واحد

  1. قبل سنوات ذهبت في وفد خيري إلى إحدى المدن في كردفان، وكانت هناك إمرأة تدعي التسول والجنون نجدها في كل مكان نذهب إليه، في النهاية قمنا بزيارة إلى المسيحيين في الكنيسة ووجدناها داخل الكنيسة برفقة القساوسة الأوروبيين والسودانيين وهي مسلمة في الستين من عمرها.