وطن .. محمد الأمين !!
مساء الجمعة أمس الأول؛ اضطر الفنان محمد الأمين لقطع أغنيته )زاد الشجون( وزجر الجمهور ليخيرهم بين أن ينصتوا له يغني.. أو يصمت هو ويغني الجمهور.. ثم بعد فاصل عاد في ما يشبه الاعتذار وقال إنه يغوص في بحور أغنياته ليستخرج في كل مرة درراً جديدة.. فلا يعلم بقيمة ما يرتجله إلاَّ في اليوم التالي عندما يسمع تسجيل ما غناه أمس.
في الحال انفجرت وسائط التواصل الاجتماعي بـ)ثورة منك خانها الجلد( من الغاضبين الذين اعتبروها إهانة من )آخر الرجال المحترمين(، لشعب لم يبقَ في جسمه موضع ليس فيه طعنة رمح أو ضربة سيف.. من المحن!!
لكن للإنصاف والحقيقة، ليس محمد الأمين وحده من يستحق إعادة جرد ما قدمه للوطن كله وحان وقت حسابه.. جيل كامل من المبدعين حفظوا السودان في قلوب أهله بقدر ما أبعده الساسة.. صانوا وحدة وجدانه بقدر ما مزقه الساسة.. وكأني بالسودان بين مشروعين.. إبداعي يقرب السودانيين من وطنهم.. وآخر إبعادي.. يبعدهم بأبعد ما تيسر.. في كل مهاجر الدنيا..
المقارنة تشهدُ على الفارق الهائل بين المشروعين.. المشروع الإبداعي السوداني.. والمشروع السياسي السوداني.. ففي حين كان )المشروع الإبداعي( يبني صرح الأمة السودانية ويرتفع بها، كان )المشروع السياسي( ينحط بها ويمزقها..
في حقبة الثلث الأول من القرن العشرين ازدهر في السودان ما عرف لاحقاً بـ)فن الحقيبة( وهو مزيج من الشعر والغناء الشعبي السهل الممتنع.. ثم تطور إلى الفن الحديث الذي بلغ ذروة اشتعال شعلته في الستينيات.. حينما ازدحم الأثير الوجداني السوداني بقمم تنافس بعضها لتنجب – في زمن شحيح الإمكانات- إبداعاً خارقاً للحدود الجغرافية يتسيد القارة الأفريقية..
لم يكن مجرد شعر وغناء، بل كان مشروعاً قومياً باهراً أنجز وجداناً متحداً من أقصى جنوب السودان )القديم( إلى أدنى شماله.. في وقت لم تكن فيه الإذاعة والتلفزيون قادرة على الوصول إلى كثير من بقاع السودان، كان هؤلاء الفنانون يركبون كل الصعاب والدواب للوصول إلى أقصى القرى..
عندما كان الساسة لا يرسلون إلى جنوبنا الحبيب إلا المدافع والقنابل، كانت رحلات الفنانين السودانيين تجوبه قرية قرية.. تجمع ما فرقته السياسة والساسة.. فأصبح لنا سودانيين اثنين، وطن افتراضي في القلوب شيده المبدعون من أمثال محمد الأمين.. ووطن من حميم شيده الساسة يهرب منه السودانيون زرافاتٍ ووحدانا إلى كل بقاع الدنيا، لا يحملون معهم سوى الوجدان الذي صنعه هؤلاء المبدعون..
الذي أنجزه الفنانون الأجلاء أمثال محمد الأمين ليس مجرد لهو ولعب ورقص ومتعة الطرب.. الأمر أكبر من ذلك كثيراً.. هم الآباء المؤسسون لوطن أقوى من الوطن الذي حطمه الساسة.. وطن مهما احترق سيعود بقوة مشروعه الوجداني المتعمق في النفوس..
حديث المدينة
عثمان ميرغني
الله عليك يا استاذ كلام في الصميم وليت ساسة بلادي يسموعن
والله أول مرة ياعثمان تكتب كلام منطقى .
كلام من ذهب