رأي ومقالات

سناء حمد العوض: ست ثُريا عبدالله الزين.. يا تلك الثُّريا


اقف بهدوء وتحّفُز و بضعة لطخاتٍ من الغراء ، انتشرت على الزي المدرسي الازرق الفاتح الذي أرتديه ، بين يدي مديرة المدرسة الحازمة “خديجة عبدالله” ، تسألني هل انت من غطّت جدران المدرسة بالملصقات ؟ ايوة ..انتي جيتي المدرسة دي متين ؟ اليوم الصباح . لا قبل كدة؟ ..ما حصل . انتي مع ناس اولى النزلوا اليوم ولسة ما توزعوا على الفصول كويس؟ ايوة . ومين القال ليك تعملي كدة ؟ والله براي…” وكنت قد جمعت بعض مما ادخرته ، لأشتري اوراق فلوسكاب … وألوان وغراء، واعانني والدي ووالدتي في كتابة واختيار شعارات للترحيب بالطالبات الجدد والتهنئة بالعام الدراسي الجديد، باسم الاتجاه الاسلامي ، وذلك في اول يومٍ لي بثانوية الخرطوم الجديدة”، كانت المديرة الجليلة “ست خديجة ” غاضبة ، وبجانبها بعض اعضاء هيئة التدريس ، واحدهم يقول : الظاهر السنة دي جايانا كفوة كبيرة” ، ولاني لم اكن اتوقع ان أواجه في اول يوم معركة ومشكلة كبيرة كنت فعلاً مرتبكة..ومتحفزة في آنٍ معاً. ..وأفكِّر ماذا افعل وماذا اقول، ثم اسمع صوتاً ملائكياً يقول : ” لا..الظاهر نحن السنة دي عندنا زعيمة وبنت عندها مستقبل…” ، رفعت نظري لأجد اجمل سيدة يمكن ان تقع عليها العين ! تلبس ثوباً ناصع البياض ، اقترحت على الناظرة أن تدخل مكتبها ، وهي ستحضرني معها ..”عشان مع بعض نشرح ليها قوانين المدرسة وسياستها” .، وبالفعل ربتت على كتفي وهي توجهني نحو مكتب المديرة ..ونحن على عتبات مكتب المديرة وقفت انظر لها ، ووجدتني اقول ليها: ياااخي انت جميلة بشكل ! نظرت لي بدهشة ثم ضحكت أجمل ضحكة تسمعها أُذناي، ثم صمتت ..وهي تنظر لي وتقول ، اتذكري كلامي دا كويس..انت بنت مبادرة حا تكوني حاجة لي قدام …! بس دوماً ركزي وانتبهي ، عرفت يومها أنها وكيلة المدرسة ، واسمها “ثريا الزين “ومن يومها انا كنت بين يديّ سيدتين حكيمتين ، ومعلمتين من طرازٍ رفيع ، وكنت اتعلم منهما كثيراً ..واتنقل بين بين الحزم واللين ، بين الشِّدة والرِّفق ، بين ست خديجة وست ثريا .

ست ثريا عبدالله الزين ، ما أجمل هذه المعلمة ، وما أنصع بياض ثوبها، كانت شديدة النظافة تمشي على الارض برفق ، وكأنها تطير فوقها ولا تمسُّها، لم تدرّسني في الفصل يوماً وما كنت أغيب عنها يوماً .. كانت حين تبتسم كأنما تضئ الكون …وكنت اسمع لها تلقي السلام هنا وهناك وتبتسم للحميع ، وتقول الناس ما عاوزين منك اكتر من كدة ..السلام مش بقروش ..والابتسامة مجان ..

كانت ثانوية الخرطوم الجديدة في عهدها الذهبيّ ..فهي اميز مدارس السودان ، وبها أميز اساتذة ..وإن كنا قد كسرنا هدوءها الاكاديمي بالعمل السياسي الصاخب ..وأركان النقاش القوية في فسحة الفطور…، ، وكانت كثيراً ما تقف تستمع لنا ..مبتسمة ومشجعة وناقدة احياناً ، وفي يوم وانا اجلس مع خالتي قمر الفراشة ، التهم في حلوى السمسمية والشعيرية والفولية ، وزميلاتي في الفصول ! مرّت ست ثريا !! ووقفت اكاد لا اجرؤ على مضغ ما في فمي..وبهدوء ورقيّ جلست في المصطبة بجواري ، مبتسمة ! قالت : ” لمن تكملي الفي خشمك دا عاوزين نتكلم “، وقالت ما خجلانة انك برة الفصل ،سايبة حصتّك وقاعدة تتونسي؟ وكنت بالفعل خجلى ، ” لو ما عارفة انك غلطانة ما كان دي بتكون حالك ! انت برة ليه؟ قلت ليها ، كان عندي ركن نقاش ، وفاتني الفطور ، ونظرت لي بغضب : امشي جيبي ليّ سجلّك ” وكان في القديمة هناك دفتر محدود الوريقات ، يسمى السجل، تدوّن فيه مخالفات الزي والانضباط والسلوك ، ومنه توضع درجة حسن السير والسلوك” ، وفعلاً مضيت واحضرته لها، استلمته و قالت لي : ” نحن واجبنا نديك فسحة من الوقت تأكلي وتلعبي وتتونسي فيها، ومش مقبول انك من راسك تختاري تستخدميها بطريقة معينة ، وتجي تغيبي من الفصل عشان تفطري؟ المدرسة دي بتعلمك القراية وبتعلِّمك ادارة الوقت!! “ودي كان أول مرة اسمع بإدارة الوقت …” اذا اخترت تعملي ركن نقاش في الفسحة معناها اخترت تتخلي عن فطورك في اللحظة دي ..مش علىً حساب جدول الحصص مفهوم!! ” وكان درساً فهمته ، ان تدفع ثمن اختياراتك…ثم اعادت السجل دون ان تكتب فيه مخالفتي..!! ونبهّتها .. نظرت في عينيّ بقوة …” وردّت لو كتبت ليك ، درجاتك في حسن السير والسلوك حا تنقص … ولاني مقتنعة انك زعيمة ما بقبل ان درجاتك بالذات هنا تكون ناقصة…أوعك من الليلة تعملي حاجة زي دي” …وكان درساً آخر تعلمته…
ثم خرجت من الجديدة ، التي فتحت لي ولزميلاتي آفاقاً رفيعة ..وانضجت تجربتا السياسية في وقت مبكّر ، وما زال افضل وأثمن صداقاتي في رحابها…
وظلّت ثريا الزين ، ..تشع في أُفُق ذكرياتي كالشعرى ..نجمةً بعيدةً وحاضرة..

ومرَّت السنوات ، ثم في باحة المسجد الحرام ..في مكة اسمع صوتا يناديني ، وقفت اتأمل النساء الجالسات ..ثم رأيتها أبلة ثريا ، يااااالله ..هرولت نحوها ..كانت ترتدي عباءة سوداء….بذات الجمال والاناقة والرقيّ ..بذات الابتسامة والعيون العميقة ، احتضنتها وسلمت عليها..وكأنها اتت من عالم آخر ..وأعادتني معها…لوّنت يوميّ ذاك ، وحكيت لها لقائي مع الشاعر صديق مدثر في القاهرة في مطعم فندق امً كلثوم ، وكيف طلبت منه ان يلقيّ علينا ضنين الوعد …وفعل ..وكيف كنت كلما قال بيتاً يصفها كنت اقول له في سري انه لم يُوَف معلمتي حقها ..فهي اجمل والطف ..وجمال شخصيتها لايقل عن جمال شخصها وكلاهما لا يوصف ، وهي ذات كمالٍ وبهاءٍ نادرين …وهما هبتان ربانيتان خالصتان..

اليوم علمت ان معلمتي “ثريا عبدالله الزين” ، قد رحلت..مضت تلك المعلمة والمثال ،تلك المربية الرمز ….وتذكرتها فبكيت ، ثم تذكرتها وابتسمت
اللهم ياًكامل الصفات عظيم الهبات واسع الرحمات ، ارحم امتك ثريا الزين واكرمها وتقبلها بقبول حسن ، واجزها عنا خير الجزاء ..نحن طالباتها ،،، وانزل اللهم صبراً على بناتها وابنائها وسائر ذويها..

بقلم
سناء حمد العوض


‫3 تعليقات

  1. للهم ياًكامل الصفات عظيم الهبات واسع الرحمات ، ارحم امتك ثريا الزين واكرمها وتقبلها بقبول حسن ، واجزها عنا خير الجزاء ..نحن طالباتها ،،، وانزل اللهم صبراً على بناتها وابنائها وسائر ذويها..
    اللهم امين.
    و ان من البيان لسحر. اللهم اجزي أمتك سناء حمد العوض كل خير على ما خط قلمها.

    1. آمييييين يا رب، نعم المعلمة المعلمة ثريا، ونعم الطالبة الطالبة سناء، اللهم أسكن المعلمة الفاضلة ثريا الفردوس الأعلى من الجنة واجعل قبرها روضة من رياض الجنة.

  2. كلماتك يتجلى فيها الصدق والوفاء والنقاء من اهل الوفاء ولكي من أسمك نصيب .. اللهم عافها واعفو عنها واكرم نزلها واجعل لها مع الانبياء والصديقين والشهداء مقاما. .
    لكي كل التحايا العاطرة , ربنا يحفظك اختنا في الله سناء وجزيتي خيرا من الله على هذه الكلمات الطيبات في حق معلمتك الجليلة .
    ولنتذكر دوما قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ( اقربكم مني منزلة احسنكم أخلاقا ).
    ( إن خياركم أحاسنكم أخلاقا ) .. [ ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق ] رواه الترمذي