المشردون .. طفولة معذبة في شوارع الخرطوم مأساة مشردة لقت حتفها في زقاق أم درماني عريق
واقع المشردين الماثل اليوم في السودان، يعرفه الجميع بل هم في تزايد مستمر بسبب العنف الأسري والمجتمعي تحديدًا على الأطفال ، الأمر الذي أفضى إلى تصاعد أرقام المشردين في السودان عامة ، والخرطوم على وجه الخصوص.. وتشير التقديرات إلى أن العدد تجاوز حتى الآن حد الـ( 30,000 ) مُشرد في السودان قاطبة، وأكثر من ألفين في ولاية الخرطوم يعيشون بلا مأوىً سوى الشوارع ومجاري المياه والأزقة والخرابات البعيدة عن العمران، يقتاتون من مجامع قمامات المطاعم ويلتقطون بقايا الطعام من براميل القمامة والكوش المتناثرة في أرجاء العاصمة ، شرابهم المسكرات بكل أنواعها و(كيفهم ) يكمن في تناول الإسبريت والسلسيون الذي يمنحهم النشوة والإحساس بالشبع حال اشتداد الجوع، مرقدهم الأرض وغطاؤهم السماء، حتى في عز الخريف والشتاء، ولا أمل في تحسين حالهم، أو الالتفات لهم من قبل السلطات المختصة في الدولة. في هذا التحقيق التقينا بالعشرات منه. رووا لنا فظائع لا تُحتمل وقصصًا يقشعر البدن من سماعها ، فلنطالع مايلي لنقف على أقسى تجارب الحياة وأغربها، يرويها مشردون عن الأسباب والدوافع التي جعلتهم في مهب الريح والولوج إلى عالم التشرد وطبيعة المعاملة القاسية من قبل الأسرة .
لغة الراندوك
أمونة شابة في مقتبل العمر ،التقينا بها أثناء تجوالنا أمام سور كمبوني بشارع السيد عبد الرحمن، رثة الملابس تضع في فمها قطعة قماش بها كمية من السلسيون.. انتابني الخوف قبل شروعي في الحديث معها بحكم شكلها المرعِب، ولكني تمالكت أعصابي وآثرت استعمال لغة “الراندوك”، قلت لها سلام يافردة الرصّة شنو؟..التفت إلى وحيتني بذات اللغة، ومن هنا بدأت تتجاوب معي، قالت لي يافردة أنا “مهوّية”، وتعني أنها جائعة،أديني خمسة عايزة أجيب لي “جومة”، بتعطيش الجيم، وتقصد أنها تُريد شراء طعام، قلت لها تمام، فجأة انتهرني أحد باعة الكتب وقال لي”لا ماتديها دي ماجيعانة بتشتري بيها سلسيون”،التفتت هي إلى ذلك الشخص وكالت له العديد من الشتائم البذيئة،بيد أنه لم يكترث لحديثها ولا أنا،نفحتها خمسة جنيهات بلا تردد،سألتها بدءاً عن أسرتها،إلا أنها رفضت أن تخبرني عنها،وقالت لي “هم عارفين أنا وين، وبعمل في شنو يا أصلية جلي الحنك بتاع ناس البيت ديل ، لأنهم ماعندهم موضوع”،هنا تدخل أحد المشردين وقال لها “دي مابتاعة دار بشاير الفَارَة، شكلها عايزة تعمل بحث”،سألته”شنو يامان الحنك الما لذيذ دا؟” قال لي إنتي حنكك مادِسِّيس يابت الخالة، إنتي خشي في الموضوع يا قصة، نحن ماعندنا شي لي زول والزارعنا غير الله اليجي يقلعنا.
حنك سريع
وأ ردف قولي حنكك سريع”، قلت له”أنا بتكلم مع الفردة دي”والتي بدورها أكملت ما بدأته بشأن أهلها وقالت “أهلي قاعدين لكن أي زول عندو ظروف وأسباب بتخليو يطلع من البيت، عشان كدا قعدنا في الشارع،عندنا بيتنا وأي شي، الظروف هي الجبرتنا، والمشاكل والمعاملة القاسية والضرب، وأردفت.. أنا في واحدة زيك كدا جاتنا هنا أقنعتني أرجع البيت،وسمعت كلامها ورجعتني، وإتكلمت مع ناس البيت، قالت ليهم البت دي تاني ما في زول يضربها، قالو ليها كويس، أول ماطلعت أخوي ضربني ضرب شديد وتشّوني بالنار وقفلوني بالطبلة،أول مالقيت فرصة إتفكفكت طوااالي وجيت راجعة هنا ونسيت الفكرة”.
صعوبات ماثلة
وعند سؤالي لها هل هي متزوجة ؟، ضحكت بأعلى صوتها وقالت “الكان بتكلم معاك قبل شوية دا راجلي والولد الصغير دا ولدي،إنتي شايفانا قاعدين في الشارع دا أنا قريت لحدي سنة سابعة، وراجلي عندو شهادة سودانية”. غادرتها إلى جهة أخرى حيث يتجمع المتشردون بكثافة في المنطقة الصناعية، كانت رحلة شاقة للغاية حيث واجهتني عدة صعوبات في كيفية الدخول عليهم، خاصة وأن إقناعهم ليس بالأمر السهل،إلا أنني لم أستسلم حيث استعنت بأحد الشخصيات المحببة إليهم. بدأ مرافقي يتحدث إليهم بلغة الراندوك، قال لهم “المزة دي عايزة تكتب عنكم عشان الدولة تلتفت لقضيتكم دي وتناقشاعشان تدوها المعلومات الكافية ، رد عليه الزعيم وهو شاب في أواخر العشرينيات بخشونه”غير المزز ديل مافي شي جايب لينا الهوا” ورفض الحديث معي بشدة.
إثبات حقوق
إلا أن مرافقي أقنعه بعد جهد، وقال له، أنتم في نظر المجتمع مجرمين وما عندكم ضَهَر، عشان كدا المزة دي عايزة تثبت ليكم حقكم وتحارب رأي ونظرة المجتمع السالبة فيكم، هنا وافق الزعيم وسألني بضجر، “أها عايزة شنو يامُزّة” قلت، “أناعايزة أعرف أهلكم وين وكدا وإنتو جيتو هنا كيف ومتين؟”، رد بالقول”كيف يعني يافردة ؟ نحن عندنا أهل وبيوت ماجايين من الشارع لكن الظروف هي العملت فينا كدا، والدنيا ذاتا أدتنا بالجزمة القديمة، لكن بعد دا بنشوف الدنيا حلوة مع الفِرَد والشباب ديل”،سألته “ناس البيت وين؟”، قال لي..”موجودين بس ناس بتاعين نقة و” الجاح ” هكذا قالها، ويعني والده، بتاعي زول صعب عملت أي حاجه بضربك بونية وشلوت، عشان كدا اتفكفكت من البيت، ونزلت الشارع، في البداية كان بالنسبة لي مخيف لكن بمرور الزمن إتعودت مع الفِرَد، و”السلسيون” نَسَّاني أي شي وأي دنيا، ولقيت الشارع آمن وأفضل لي من البيت، وهنا نحن عايشن بمزاااااج يا قصة.
قوانين وعقوبات
ويواصل الزعيم حديثه قائلًا إنتو عندكم حاجة إسمها قوانين ونحن عندنا قوانين بتحكمنا، وعندنا زواج، وعندنا عقوبات صارمة لِمَن يُخالف القانون وهي تختلف بحسب الجريمة، مثلاً، زول يمشي لمرة التاني، ويعني زوجة الآخر، دا الراستا بتاعنا، ويعني الرئيس، بطبق ليك فيهو عقوبة من أمها”،سألته.. والعقوبه هنا شنو؟رد.. “الزول دا بعملو ليهو صليب في راسو بالقزازة المكسوره، وهذه العقوبة تُسمى بالتصليب، وهنالك عقوبة أخرى لمن يُخالف أوامر الزعيم، مثلاًواحد استولى على الغنيمه وحده وما كلَّم الزعيم، يعني عمل ميت، دا عندو عقوبة قاسية جداً، وهنالك شخص آخر يطلق عليه اسم تلفون الدلاقين، ودا مهمتو يعرف عربية الشرطة جات وين ، يقوم يدي خبر للزعيم عشان الناس تعمل حسابا ، وتاني في سرقات كبيرة، دي بخطط ليها الزعيم، أما المجازفات العادية، بتجازف براك، مثلاً في الزحمة وتجمعات المواصلات بتجازف الفارة عااادي، وبالذات المُزَز، وديل بتجازفو بسهولة، مثلاً تلبد للمزة في شارع ميت، تجازف الشنطة بتاعتا أو الكلّامة، ويعني الهاتف، وبعدين تخش أقرب صاروخ،ويعني الخور،وممكن تقعد تلاتة يوم، بعد كدا تسلم الغنيمة للزعيم هو البوزعها علينا بالتساوي وتاني في طريقة للمجازفات، ممكن نعمل مشكلة مع بعض ونتضارب، يجي زول يعمل فيها حجاز، طوااالي واحد مننا يقوم ينهبو ويتفكفك بأقرب جمبة، ودي بنسميها، الفارة دقس،والزول البِدقُس طوّااالي بركب التونسية، وبمشي الرَّجْ، وهو السجن.
جرائم القتل
غادرته إلى أم درمان حيث وجدت هناك نموذجًا غاية في البشاعة عقب حادث موت لمُشرَّدة في السادسة عشرة من عمرها، داهمها الموت في أحد أزقة حي أمدرماني عريق في فترة سابقة ، نتيجة لتعاطيها جرعة كبيرة من السلسيون، وكانت حبلي، تلك حكاية نجوى التي تركت أثرًا لا أظنه يُمحَى من ذاكرة إخوتها المشردين الذين لن يستطيعوا نسيان نجوى نسبة لوجود طفلها الأول ذي الثلاث سنوات بينهم ، وسط عالم المتشردين بالتحديد تكثُر وبصورة تدعو للقلق جرائم القتل العمد، ولا تكاد محاضر الشرطة بالعاصمة المثلثة كافة تخلو في أسبوع من تدوين مثل هذه الجرائم، والتي نحن بصددها الآن، والمتسبب فيها مُشرَّد،كان مسرح أحداثها حي أمدرماني عتيق، حيث قتل المتشرد (ص) صديقه و رفيقه (ح) أمام نادي مشاهدة بطعنة سكين، بسبب “إم بي ثري”،وتمكن بعض المواطنين من القبض على الجاني وهو يغسل ملابسه من دم صاحبه، وتم تسليمه إلى سلطات القسم الجنوبي بأمدرمان، وذلك منتصف العام 2015م.
حكم بالأعدام
وتُشير وقائع جريمة أخرى ارتكبها متشردان،أنه عندما وجدوا فترينة باسطة مفتوحة بالسوق، فأدخل أحدهم يده داخل الفترينة،انتهره أحد التجار بحجة أن يده متسخة، بعدها جاء المتشرد ورفيقه ودون سابق إنذار سددا طعنات قاتلة للتاجر الذي لقي مصرعه في الحال، ليتم فتح بلاغ في مواجهتهما، عقب القبض عليهما، ومحاكمتهما بالإعدام. ويقول الباحث الاجتماعي إبراهيم حسن أن المشردين قذفت بهم المشاكل والخلافات الأسرية إلى الشارع، ولفت إلى أن الأطفال المشردين مسؤولية الدولة أولًا وأخيرًا من خلال جمعهم في مراكز الإيواء للتأهيل التربوي والنفسي، ومعالجة حالات الإدمان. وأرجع خروج هؤلاء الأطفال من أُسرهم وتفضيل حياة التشرد لعدة أسباب، لخَّصها في التفكك الأسري المتمثل في الخلافات بين الزوجين، بجانب المعاملة القاسية من قبل الأسرة للطفل واستخدام العنف في التعامل معهم في حالة الخطأ، وذلك حسب فهمهم، الأمر الذي يأتي عكسياً تماماً ويُفضي بهؤلاء الأطفال إلى الخروج من المنزل دونما عودة، واختيار الحُرية، كما يعتقدونها، بدلاً عن حياة الذُل والإهانة التي يجدونها من أسرهم، سواء أكانت من أب أو أم أو أخت أو حتى زوج أم أو زوجة أب، وناشد كافة الأسر بمعاملة أطفالهم بالحُسنى والحكمة والموعظة الحسنة، والابتعاد عن الخلافات والعُنف والضرب والتوبيخ المُستمر قدر الإمكان، حفاظاً على تماسك الأسرة وصون كرامة أطفالها.
اثار التشرد
في الخصوص يرى أستاذ الطب النفسي البروفيسور علي بلدو،أن أول آثار التشرد تتمثل في الشعور بالصدمة النفسية الحادة،وكذلك الرغبة في إنكار ماحدث حال اتهامه بجريمة ما، وإيجاد التبريرات المختلفة، ومن ثم الشعور بحالة من حالات الاكتئاب الحاد في كثير من الحالات في الأيام أو الأسابيع الأولى لبداية تشرده، وتليه مرحلة من مراحل المعايشة والبدء في محاولة التأقلم مع الأوضاع الجديدة والعيش في مجتمع التشرد وتفاصيله المختلفة، وبكل إسقاطاته الحدية والمتقاطعة على المُتشرد، ومن ثم تلي ذلك مرحلة الانسجام والاقتناع والوصول إلى التوازن النفسي المختلف، وهنا نطلق عليه اسم متشرد بحق وحقيقة، تعقبها مراحل مختلفة، منها الشعور بالخوف والواقع الجديد وحياة الشوارع، وكذلك انعدام الأمان المجتمعي والتعرض لمشاكل كثيرة منها العنف اللفظي والعنف البدني والاعتداء الجسدي، والممارسات الجنسية غير السوية ،ومنها الشذوذ الجنسي والإكراه والقهر البدني، كل ذلك يؤدي إلى تشويه نفسية المتشرد والقضاء على عالم القيم والمثل داخل ذهنه، مما يُحرِّك مكامن عقله الباطن بالرغبة في الانتقام من المجتمع أو الرغبة في النسيان بالانغماس في عالم العصابات والمُخدرات والمواد المؤثرة عقليًا، ومن ثم يصبح معتديًا أو يصبح زعيمًا شرسًا لمجموعة للمشردين وحاقدًا على المُجتمع.
من اين اتوا انها بقايا دولة الجنوب والمرتزقة والتشاديين ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق
ما ذنب السوداني البلد انهارت بسببهم