منوعات

حقيقة “هبنقة”.. هل كان أحمق وغبياً كما تم تصويره؟

من الشخصيات التاريخية في التراث العربي التي يضرب بها المثل في الحماقة، هبنقة، والتي هي تماماً مثل جحا وأشعب وآخرين دخلت عليها الكثير من الإضافات والقصص المختلقة.

فمن هو هذا الشخص، وما مدى وجوده الحقيقي في التاريخ؟

بحسب ما ورد في التراث فإن اسمه يزيد بن ثروان القيسي، وقد ورد في “لسان العرب” أنه رجل كان أحمق من بني قيس بن ثعلبة، وكان يلقب بـ “ذو الوَدَعاتِ”، وقد كان يضرب به المثل في الحمق.

ويقال في المثل العربي “أحمق من هبنقة” أي ذلك الشخص الذي جاوز حدود الإدراك والوعي المنطقي وقد غطته الحماقة، التي قيل عنها “أعيت من يداويها”.
عادات الجاهلية

ذكر أخباره ابن الجوزي كثيرًا في كتابه “أخبار الحمقى والمغفلين”.
وقد قال الشاعر الفرزدق:
فَلَوْ كَانَ ذُو الوَدْعِ ابْنُ ثَرْوَانَ لَاِلْتَوَت
بِهِ كَفُّهُ، أَعْنِي يَزِيدَ الهَبَنَّقَا

وقد عاش في الغالب في العصر الجاهلي، وثمة روايات تقول إنه عاش في العصر العباسي، لكن سياقه يكشف أنه أقرب لعصر ما قبل الإسلام، كما في طقوس القلادات والودع التي كان يلبسها، وهي عادات جاهلية.

لكن في الوقت نفسه فقد كانت له قصص يمكن أن تضعه في عصر الإسلام مثل حكايته مع المئذنة الطويلة، التي قال عنها “ما أطول من بنى المئذنة!” فقيل له “ما أغباك؟! لقد بنوها على الأرض ثم رفعوها”.

وأيضا كون الفرزدق ذكره وهو شاعر أموي، فهذا يبعده عن العصر العباسي، ويبدو أنه أصبح ثيمة متكررة بدأت منذ العصر الجاهلي، وإن كانت الإضافات في القصص والتداخل يجعل من الصعب فرز الزمان بعينه، وإن كانت الحكايات اللاحقة، من المحتمل أنه تمت إضافتها من قبل الناس.
قلادة من ودع وعظام

يرجع لقب “ذو الودعات” إلى أنه كان يحمل قلادة من ودع في عنقه، وقد اشتهر بها، ولم تسلم هذه القلادة المصنوعة من ودع وعظام وخزف، من قصص الحماقة المنسوبة له، سواء كانت حقيقية أم ملفقة.

وقد تم تصوير شكله على أنه صاحب ذلك الوجه الحامل للقلادة مع اللحية الطويلة التي اقترنت به.

وروي أن سبب تعليقه لهذه القلادة بحسب ما نقل عنه، أنه كان يخشى أن يضل نفسه، قال “ففعلت ذلك لأعرفها به” وأنه ذات ليلة حوّلت القلادة من عنقه لعنق أخيه، فلما أصبح قال “يا أخي أنت أنا فمن أنا!”.

ورغم أن هذه القصة فيها شيء من الحماقة والغباء، إلا أن ما وراءها قد يحمل حكمة عميقة من معرفة الذات، وإدراك كنهها، فالقلادة قد تتخذ معنى مجازيًا هنا، في مراقبة النفس.

الدلالات الغائبة

في كثير من قصص أمثال هذه الشخصيات، فإن العقل الجمعي يقوم باستبدال الصورة الإيجابية عنهم إلى سلبية، قد تلعب السلطة السياسية دورًا في دعم هذا لأسباب يمكن معرفتها بمراجعة السياقات التاريخية، فربما كان هذا الشخص على عداء مع الحكام مثلًا.

ومن الغرائب قول أحد الشعراء:
عِشْ بجَدٍّ وكُنْ هَبَنَّقَةً
يَرْضَ بِكَ النَّاسُ قَاضِيًا حَكَما

وهذا يعني أن العيش الجاد الذي يأتي ممتزجًا بشخصية هذا الهبنقة يقودك إلى الرضا من قبل الناس، ليس هذا بل إنك سوف تصبح حكمًا على أمورهم.

وهذا القول يحمل خلفه الدلالات الغائبة، التي لا يمكن كشفها أيضا إلا من خلال المراجعة التاريخية، وإن كانت المصادر قليلة في هذا الإطار.

فكون هذا الأحمق يتحول إلى قاضٍ يرضى الناس بحكمه، بل يصبح مثلًا في ذلك، فثمة دليل على أن الصورة المختلقة للرجل ليس إلا برانية فرضتها الظروف السياسية والاجتماعية في فترة ما.

الحكمة المستترة

تتعدد قصص هبنقة ومروياته، وفيها طرافة وحكمة مستترة، كما في القصة التي ورد فيها أنه قام في المرعى باختيار البهائم السمان وأنحى بالمهازيل جانبًا، وقال “لا أصلح ما أفسده الله”.

وهذه الصورة ليس المقصود بها البهائم بل البني آدميين، في كيف أنهم يقيمون مجتمعهم على الطبقية والتفرقة بينهم، فدلالة السمان والمهازيل واضحة.

لكن مقابل القصص التي تحمل هذه الحكمة، والخبرة في الحياة، ثمة حكايات أخرى عن هبنقة، يتضح فيها الحمق، إلا إذا تم تقليب القصة من أوجه أخرى، حيث يتيح ذلك أن يبصر الإنسان وجهًا أكثر عمقًا يتعلق أيضا بخبرة البشر وويلاتهم.
حكايته مع اللص

فمثلًا يقال إنه ذات يوم، ذهب إلى السوق واشترى حمولة ثقيلة من القمح والشعير بسبعة دنانير ثم استأجر حمَّالًا ليحملها على عاتقه إلى داره نظير ثلاثة دراهم.

وكان ذلك الحمّال محتالًا، فلما دخل في كثرة الازدحام في السوق بينما كان هبنقة يسير وراءه، انتهز الفرصة واختفى وهرب بالحمولة من دون أن يتمكن هبنقة من أن يدركه أو يعثر له على أي أثر.

وبعد مرور ثلاثة أيام، ذهب هبنقة إلى السوق مرة ثانية، فرأى الحمَّال ذاته من بعيد، فما كان منه إلا أن سارع إلى الاختباء كي لا يطالبهُ الحمَّال بالأجرة.

والوجه الآخر لهذه القصة غير صورة الحماقة الجلية، هي أن بعض اللصوص والمحتالين من البشر، يكون من الأولى الابتعاد عنهم واجتنابهم بدلًا من مواجهتهم، لأن فيهم خبثا.

وقد يكون بهذا المعنى أن هبنقة خشي أن يدخله هذا الحمّال اللص في قصة ملفقة لا قبل له بها، بأن يأخذ منه مالًا فيما لم ينجزه من الأمر، وهو غاية الاحتيال، أو أن يشهّر به بين أهل السوق بغير وجه حق.

العربية نت