الأبيض …التفاصيل الكاملة لغرق (4) أشقاء
ما أن تتجول ببصرك في المكان في ذلك الحي الوادع و الهادئ بحي (المطار) بمدينة الأبيض حتي يتملك بصرك منظر الجموع الغفيرة للطلاب والشباب والأطفال والكهول والنساء وصوت بكائهم يشق المكان ويملأ سمعك حتى تدرك أن المصاب جلل والحدث محزن وأن هناك فقد أليم لإحدى أسر ذلك الحي العريق، حيث تجمع الأهل والأقارب والأصدقاء ليكشفوا الملمح الحقيقي للحزن الذي توسد المكان وتوهط فيه ليتأكد للجميع أن أسرة العم صديق أصابها خطب جلل بفقدانها فلذات كبدها لتتدفق مشاعر الجميع حزناً باعتبار أن الفقد واحد.
أحلام وأمنيات لم تتحقق
لم يدر بخلد العم (صديق) وزوجته (عواطف) بأن هناك فاجعة قادمة ستشطر قلبيهما وجعاً وحزناً برحيل فلذات أكبادهم في لمح البصر، وأن الحزن سيسكن دواخلهما بعد ان امتلأت فرحا وجمالاً ومن حولهما أسرتهم الصغيرة المكونة من أبنائهم السبعة بأعمارهم المختلفة والذين يعتبرون من المتميزين أكاديمياً ويعتبرون من النوابغ الذين رفعوا رأسهم عالياً بنجاحاتهم وكانوا ينتظرون ثمار ذلك الغرس الطيب بعد أن رسموا أحلامهم وطموحاتهم في لوحة الحياة بألوان زاهية.
تتكون أسرة العم صديق من سبعة أبناء والذين لقوا حتفهم بالموت غرقاً هم (نسيبة و هي تدرس هندسة بجامعة كردفان وهند جلست لامتحان الشهادة السودانية هذا العام وأحرزت نسبة 82 وتم قبولها بكلية الطب جامعة كوستي وسارة تدرس في الصف السابع أساس وأسامة في الصف الثاني أساس)، أما من هم على قيد الحياة هم أنس وهو يدرس طب أسنان بجامعة كردفان و اثنان أحدهما يدرس في الصف الرابع أساس وبنت تدرس في الصف الأول أساس،إلا أن القدر كان للأربعة بالمرصاد وأبي إلا أن يقصم ظهر أمنياتهم تلك ويجعل الحزن والدمع يسكن مآقيهم برحيلهم في لمح البصر.
صبر واحتساب رغم الحزن..
من داخل سرادق العزاء والحزن يملأ دواخله إلا أنه بدا صابراً ومحتسباً بالرغم من الحزن الكبير الذي لا يعرف رباطة الجأش وبدا واضحاً عليه تحدث لـ(السوداني) العم صديق والد الأطفال الأربعة الغرقي قائلاً: (أحمد الله كثيراً على ما أراد و لا شيء غير الحمد والإيمان التام بقضاء الله وقدره ولا يحمد على مكروه سواه بالرغم من الحزن والألم الذي نعيشه بفقدان أبنائي في لمح البصر وفراقهم قطعني من الداخل لكنني أعلم تماماً أن الدمع لا يجدي شيئاً وأن الحزن سيظل باقياً في القلب ولا ينفع غير الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والقبول الحسن.
البداية..رحلة ترفيهية..
بصوت خافت ونبرة حزينة حكى العم صديق تفاصيل ما حدث لـ(السوداني) قائلاً: (كالعادة وبما أن الدنيا عيد قررت وأفراد أسرتي المكونة من تسعة أفراد قضاء وقت جميل عبارة عن رحلة ترفيهية بمنطقة جبل كردفان وبالفعل قام أبنائي ووالدتهم بالترتيب لتلك الرحلة والتنسيق لها وبالفعل ذهبنا وقضينا وقتاً جميلاً معاً حتى المقيل وحوالي الساعة الثالثة قررنا تناول وجبة الغداء حتى نتأهب بعدها للعودة إلى المنزل حتى لا تغيب الشمس، إلا أنه طلب مني أربعتهم (نسيبة وهند وسارة و أسامة) مستأذنين مني بالذهاب إلى الحفيرة قبل تناول وجبة الغداء لالتقاط صور تذكارية فيها فطلبنا منهم عدم التأخير وحذرناهم من دخول الماء حتى لا يتعرضوا لأذي وذهبوا ومعهم هواتفهم فرحين بذلك.
بداية المأساة..
واصل العم صديق حديثه بكثير من الحزن قائلاً: (لم أتوقع أن يحدث مكروه لهم فاستلقينا بقيتنا في المكان هانئي البال بعد ذلك اليوم الجميل في انتظارهم حتى نتناول وجبة الغداء و نعود سوياً للمنزل، و لكن شاءت الأقدار أنه وبمجرد وصولهم المنطقة المعنية في الجبل وهي (الحفيرة) أن قام أصغرهم واسمه أسامة وهو يدرس في ثانية أساس بخلع ملابسه والنزول في ماء الحفيرة بغرض اللعب كعادة الأطفال وكان يعتقد بأنها ليست عميقة ومع نزوله ذلك ابتلعته الحفيرة فوراً لعمقها الشديد وفي تلك اللحظة هلع إخوته وذعروا فحاولوا إنقاذه واحداً تلو الآخر ووقتها لم يصرخوا أو يستنجدوا بنا لأن المسافة بيننا بعيدة فآثروا أنقاذه بأنفسهم ولم يتوقعوا بأنهم سيغرقوا جميعاً ولم تمر سوى عشر دقائق تمت فيها هذه المأساة ليختفوا جميعهم فجاة من الوجود.)
رحلة البحث عن الجثث و انتشالها..
صمت العم صديق برهة قبل أن يواصل : (في لحظات أتى صغيرنا مهرولاً ليخبرنا بغرق أسامة فتملكنا الذعر والخوف جميعاً فغادرنا مسرعين ناحية الحفيرة غير مصدقين إلا أننا وصلنا ولكن لا أثر لابننا أسامة غير ملابسه التي خلعها قبل نزوله في الماء ولا أثر لبقية أشقائه الثلاثة لنعلم أنهم غرقوا جميعاً، كان موقفاً صادماً وقاسياً بالنسبة لنا ليتم إبلاغ شرطة محلية شيكان وتحرك فريق بقيادة العميد شرطة النور حميدان لتبدأ رحلة البحث عنهم وانتشالهم وبالفعل تم العثور على إخوته الثلاثة في وقتها لأنهن لم ينزلن في العمق الذي غرق فيه أسامة الذي استغرق البحث عنه حتى مساء اليوم الثاني و كان موقفاً صعباً على الجميع ليس على أسرتنا فقط وقتها لم نتمالك أنفسنا وقت الصدمة إلا أنني عدت وظللت أردد (إنا لله وإنا إليه راجعون) وصمدت حتى قمنا بتشييع جثامينهم و مواراتهم الثرى في موكب مهيب شارك فيه كل أهالي الأبيض الذين عرفوا بتكاتفهم وتراحمهم في الأفراح والأتراح وظلوا مواسين لنا في ذلك الفقد الكبير، مختتماً ( ادعو الله أن يلزمني مزيداً من الصبر وكذلك والدتهم وأن يسكنهم في الفردوس الأعلى مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.)
وفود رسمية وشعبية..
لم يخلُ سرادق العزاء من وفود كبيرة من طلاب الأساس رفقاء أسامة في الدراسة والحزن يعتصر قلوبهم حيث أبكوا الجميع ببكائهم الشديد و نحيبهم علي فقدانهم لزميلهم ورفيقهم بالمدرسة في موقف مهيب لم يحتمله الكثيرون ليغادروا مكان العزاء حتى لا تفضحهم دموعهم أكثر، وكذلك شكل معلموهم بالمدرسة حضوراً كبيراً إلى جانب حضور أعداد كبيرة من زملاء الدراسة لكل من (هند وسارة ونسيبة) بمختلف الجامعات والتخصصات وهم يبكون حزناً على رحيلهم، في الوقت الذي شكلت فيه حكومة الولاية حضوراً رسمياً على مستوى رفيع وقيادة الجيش لتقديم واجب العزاء في الفقد الجلل.
صحيفة السوداني.
لا جولة ولا قوة الا بالله انا لله وانا اليه راجعون الحمد الله د عظيم هذا ابتلاء نسال الله لهم الجنة ويصبر والديهم واهلهم